Share
  • Link copied

هل ضيعت الجزائر عنوان الحياد في إدارة سياستها الخارجية؟

التحركات الدبلوماسية التي تجريها الجزائر تؤشر على حالة من الاضطراب الشديد، إن لم نقل ضيق الخيارات، فقد شكلت مرحلة رمطان لعمامرة اللحظة التي بلغت فيها معضلة السياسة الخارجية الجزائرية ذروتها، وتعمقت الأزمة أكثر بعد زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى موسكو وإدلائه بتصريحات مثيرة للجدل هناك.

قبل سنتين تقريبا، وبعد تقييم علني لإخفاقات السياسة الخارجية الجزائرية، تم تعيين رمطان لعمامرة في منصب وزير الخارجية وذلك في يونيو 2021، ووضع له عنوانان اثنان، أولهما استعادة الجزائر لمكانتها لاسيما في القارة السمراء، والثاني، هو إعادة التوازن الإقليمي في المنطقة، بعد أن حققت الدبلوماسية المغربية اختراقات كبيرة، عزلت بنحو شامل أطروحة الجزائر في تقرير المصير في الصحراء، وأعطت زخما كبيرا للمقترح المغربي للحكم الذاتي. فقد وضعت الدبلوماسية الجزائرية أمام تحد كبير بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية اعترافها بسيادة المغرب على صحرائه.

التقارير التي كتبت عن أسباب إقالة رمطان لعمامرة من منصبه، تعزو الأمر لخلافات مع الرئيس، تعود لـ«طموحات رئاسية» وأن ذلك ما جعل الرئيس يسحب منه العديد من الملفات، ويباشر السياسة الخارجية عوضا عنه، وفي كثير من الحالات يتم اتخاذ قرارات دون علمه، مما ألجأ لعمامرة في أكثر من مرة إلى طلب إعفائه، لكن لم يتم الاستجابة لذلك إلا بعد أن اشتدت الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا على خلفية ملف أميرة بوراوي.

لا يهمنا التفصيل في أسباب الاستقالة أو الإقالة، وما إذا كان لعمامرة قد شعر بمضايقات من قبل الرئيس أو بممارسة الإقصاء أو بسحب اختصاصاته في إدارة الشؤون الخارجية، فما يهم أكثر هو تقييم واقع السياسات الخارجية الجزائرية في فترة ولايته، وهل حققت أغراضها، أم أنها أنتجت وضعا أسوأ من الوضع الذي كانت عليه السياسة الخارجية الجزائرية قبله؟

التقييم العام للسياسة الخارجية الجزائرية في فترة ولاية رمطان لعمامرة، كانت بالمختصر المفيد كارثية، ففي مارس 2022، أعلنت إسبانيا دعمها للمقترح المغربي للحكم الذاتي في الصحراء، واضطرت الجزائر لاستدعاء سفيرها في مدريد للتشاور واصفة موقف مدريد بـ «الانقلاب المفاجئ» وعقب ذلك بشهرين أعلنت هولندا موقفا مشابها لمدريد، لتعلن برلين هي الأخرى وبعد أشهر ضمن إعلان مشترك، بين الرباط وبرلين، عقب مباحثات لوزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، ونظيرته الألمانية أنالينا بربوك بالعاصمة المغربية دعمها للمقترح المغربي.

وبسبب ذلك، توجهت السياسة الخارجية الجزائرية نحو باريس، واستقبلت الجزائر الرئيس ماكرون في نفس السنة، وتم الإعلان عن شراكة استراتيجية استثنائية، لكن، أزمة أميرة بوراوي، أجهزت على كل المكتسب المحقق، وأدخلت العلاقات الجزائرية الفرنسية توترا زادت أحداث الاحتجاجات الأخيرة في باريس من تعميقها، ولم تكسب الجزائر طيلة هذه المدة سوى تأمين علاقاتها مع إيطاليا، لكن دون أن تحرز من ورائها دعم روما لأطروحتها في تقرير المصير، فقد أعربت إيطاليا عن ترحيبها بـ«الجهود الجادة والمصداقية» التي يبذلها المغرب لإيجاد حل لقضية الصحراء، وذلك في إطار خطة العمل لتنفيذ الشراكة الاستراتيجية المتعددة الأبعاد مع المغرب، والتي تم توقيعها في روما في الخامس من يوليو الجاري.

الرئيس الجزائري كان قرر أن يبلع أزمة أميرة بوراوي، وأن يطوي صفحة الخلاف مع فرنسا، لاعتقاده بدور باريس في تخفيف الضغط الأمريكي والأوروبي على بلاده، لاسيما بعد حدة الانتقادات التي توجهت إليها على خلفية علاقتها بروسيا وصفقة السلاح الضخمة التي تنوي إبرامها مع موسكو (19 مليار دولار) وبسبب ذلك، قررت الجزائر تأجيل مناوراتها العسكرية المشتركة مع روسيا غرب الجزائر بمحاذاة للحدود الشرقية للمغرب، وأجلت زيارة الرئيس الجزائري لموسكو.

زيارة الرئيس الجزائري لباريس كانت مقررة في الأسبوع الأول من شهر مايو الماضي حسب ما أفادت الصحف الفرنسية، لكنها تأجلت، حسب ما ذكرت صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية لنقص في تحضير الملفات، فيما عزت وسائل الإعلام الجزائرية سبب تأجيل الزيارة للاحتجاجات التي عرفتها فرنسا على خلفية إصلاح نظام التقاعد.

توقيت زيارة تبون لموسكو (14-16 يونيو2023) وبشكل غير معلن مسبقا، يؤكد بأن كبار الموظفين بالجهازين الدبلوماسي الجزائري والفرنسي لم ينجحوا في جعل زيارة الرئيس الجزائري لباريس أمرا ممكنا، وذلك بسبب أجندة كل طرف على حدة، إذ على الرغم من التوافق على مشروع الشراكة المتجددة، بقي الخلاف محتدما بين رؤية الجزائر التي تجعل «ملف الذاكرة أمرا ذا أولوية» فيما تنصب نظرة باريس على رفع المنافسة أمام المنتوجات الفرنسية، والتي أضحت محاصرة في الجزائر من قبل المنتوجات الصينية والتركية.

حاصل هذه السردية، أن خيار الجزائر لإقامة علاقة استثنائية مع باريس بحثا عن تنويع الشراكات وإحداث التوازن بين محوري الشرق والغرب، قد ضاق إلى أبعد الحدود، فلم تجد بدا من العودة إلى خيارها التقليدي، وذلك من خلال زيارتين اثنتين، الأولى، إلى موسكو، والتي صرح فيها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بالحاجة إلى «حماية روسية» والثانية إلى بكين، والتي قدم فيها الرئيس الجزائري شيكا على بياض للصين في قضية تايوان، دون أن يحصل من ذلك على أي ضمانة بخصوص حماية حقوق المسلمين الإيغور الذين يتعرضون لأقسى أنواع الإبادة.

المحللون لاتجاهات السياسة الخارجية الجزائرية، بما في ذلك دبلوماسيون جزائريون سابقون، يرون أن الجزائر تعيش على وقع فقدان عنوان التوازن والحياد، وأنها أضحت بدون خيار سوى تعزيز الشراكة مع روسيا والصين، وذلك، بعد أن أضحت معزولة أوروبيا، وتخضع لضغط أمريكي قوي. وسائل الإعلام التابعة للدولة الجزائرية، نفت وجود هذه العزلة، واعتبرت دعوة بلينكن لوزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف لزيارة أمريكا في أقرب وقت، مؤشرا على تزايد الطلب على الدور الجزائري، وأنها لم تخسر أبدا شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكن في واقع الأمر، فإن هذه الدعوة، التي جاءت عقب زيارة الرئيس الجزائري لموسكو، وبعد تصريحات غير مدروسة للرئيس الجزائري بخصوص دور موسكو وحلفائها وموثوقية الرئيس الروسي والدولار الأمريكي، إنما تندرج ضمن سياق الرغبة في وضع الجزائر أمام مسؤوليتها، وإقناعها بضرورة تغيير وجهتها وتحالفاتها قبل أن تجد نفسها في خصومة استراتيجية مع أمريكا في المنطقة. كثيرون ومن داخل الجزائر، يعتبرون أن حالة من الارتباك تخيم على الدبلوماسية الجزائرية، بسبب تداخل الاختصاصات، وعدم وجود تفاهمات كبرى بين مؤسسات الدولة المختلفة على خط واضح ينتظمها، وأن الجهاز الدبلوماسي الجزائري الذي ورث خبرة كبيرة في تبني سياسة خارجية قائمة على التوازن والحياد، أضحى غير قادر على التصرف بسبب ضلوع الرئاسة ومؤسسات الجيش في التدخل في مفردات هذه السياسة، وأن الخسارة التي تلقتها سواء على مستوى أوروبي أو خليجي، أو حتى إقليمي، والاضطرار إلى لعب الورقة الأخيرة بالعزلة والانغماس في الحوار الروسي الصيني، سيعرض الجزائر للخطر، وقد يجعلها تواجه تهديدات داخلية ذات طبيعة متعددة أمنية واقتصادية وسياسية واجتماعية، لن يكون بمقدورها معالجتها إلا بكلفة كبيرة.

Share
  • Link copied
المقال التالي