Share
  • Link copied

رفض هابرماس جائزة زايد.. هل هو سلوك غريب في الأعراف الثقافية والأكاديمية الألمانية؟

إذا ما رجعنا قليلا إلى التاريخ، نكتشف أن حساسية المثقفين من السياسة كانت قوية في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة تواطؤ العلماء والباحثين والجامعيين مع النظام النازي. ألا نعلم أن هيدغر Heidegger وكارل شميت ِCarl Schmitt بحكم مواقفهما السياسية لم يعودا إلى التدريس بالجامعة بعد الحرب؟

أدى الفصل بين الجامعة والسياسة إلى فصل هيدغر نهائيا عن الجامعة. ومن أجل ترسيخ الفصل بين السياسة والبحث العلمي بالجامعة نشأت سنة 1970 عصبة الحرية الأكاديمية BFW وهي كانت ردّ فعل على احتلال الجامعات بعد ثورة ماي 68، وقد ذكر شتيتفيه Rudolf Stichweh في حوار له مع إحدى الصحف الألمانية (15 نونبر 2020) كيف أن الحرية الأكاديمية تفترض أن الصراعات السياسية تظل خارج الجامعة بألمانيا؛ وأن الجامعة لا تتبنى المواقف السياسية بل تخضعها للدرس والنقد والتحليل.

من الواجب أن نلقي نظرة نقدية على السياسة. يوجد فضاء عمومي سياسي ولكن الجامعة ليست جزءا من هذا الفضاء. وعلى خلاف ذلك، إذا ما نظرنا إلى دول أمريكا اللاتينية، يبدو أن الفضاء العمومي السياسي لا يوجد إلا داخل الجامعة، لأنه لا توجد نخبة فكرية خارج الجامعة.

وعندما ننظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، نكتشف أن ‘العلوم الإنسانية’ قد فقدت كثيرا من قيمتها وتراجع الاهتمام بها بها في حدود 10 في المائة؛ ولذلك عندما ظهرت “العلوم الاجتماعية” حاولت تخصصات الأدب والأدب المقارن أن توظف المناهج الاجتماعية والعلوم السياسية كنوع من “التمرد” كما يقول شتيتفيه، على تراجع أهمية العلوم الإنسانية.

نذكر كيف أن الأدب المقارن عرف نهضة كبيرة بعد نشر كتاب إدوارد سعيد عن “الاستشراق” وكيف أن الدراسات ما بعد الكولونيالية سمحت لمناهضي حرب الفيتنام ولأنصار الحقوق المدنية من المهمشين والسود والمهاجرين من إعادة الاعتبار إلى الثقافات المحلية. فزالت الحدود الصارمة بين الدراسات السياسية والبحث العلمي في الأدب.

وإذا ما علمنا أن العلوم الإنسانية والفلسفة تحظى بمنزلة اعتبارية أفضل نسبيا بألمانيا، سنكتشف أن هذه العلوم لا تحتاج إلى غطاء سياسي. وعليه، فإننا ننظر إلى موقف هابرماس من جهتين مختلفتين: من جهة خلو الجامعة من الصراعات السياسية بعد ماي 68 ومن جهة استقلال الجامعة والباحثين عن تأثير السياسيين؛ ومن هنا نتفهم موقف هابرماس من قبول جائزة الشيخ زايد.

وهو موقف يبرز في الحقيقة أن الفكر في ألمانيا لا يحتاج دوما إلى دعم المؤسسات السياسية ويحاول أن يظل بعيدا عن تأثيرها. ولا زلت أذكر كيف أن الناقد الأدبي اللامع رانسكي Marcel-Reich Ranicki رفض جائزة بامبي سنة 2008 ؛ فقد حضر إلى الحفل ورفض تسلمها، وتحدّى اللجنة التنظيمية بالقول، إن من أهداه الجائزة لم يقرأ كتابا واحدا من كتبه النقدية.

ونذكر كذلك البابا بينيديكتوس وهو الأستاذ راتسينغر Razinger الذي استقال من الكرسي الرسولي. وأذكر في الأخير أن الفيلسوف مانفريد فرانك Manfred Frank استدعي مرة إلى اليونيسكو لإلقاء محاضرة، وبعد أن اكتشف أنه لن يأخذ الكلمة إلا بعد كل البيروقراطيين المنتمين إلى المؤسسة العتيدة، غادر القاعة بصمت وانسحب، لأنه يعلم أن الفكر يجد من يقرأه ولو لم يحظ برعاية رسمية.

والحال أن وضع العالم العربي يشبه وضع العلوم الإنسانية بأمريكا الشمالية التي حولت الخطاب الأدبي إلى خطاب سياسي وهو وضع يذكرني بالحكم الذي أطلقه ماكس فيبر على منزلة العلم في الشرق، وهو أن العلم قد تطور بالغرب لأنه استطاع أن يكتسب استقلاله التنظيمي والأكاديمي، على خلاف ما يقع في الشرق، بما أن العلم لا يزال يحتاج إلى دعم رجال السياسة من أجل تحسين الوضعية الشخصية المتواضعة للباحثين أو من أجل إعادة تنظيم الجامعات.

*أستاذ مختص في الفلسفة الألمانية

Share
  • Link copied
المقال التالي