في الوقت الذي كان يعتقد فيه بعض المراقبين أن حزب العدالة والتنمية لن يتفاعل مع بلاغ الديوان الملكي، فإنه لم يتأخر في الرد، وأصدرت أمانته العامة بلاغا مصوغا بكثير من الدبلوماسية، يجمع بين التقدير الواجب للملك (الانضباط للدستور في واجب التقدير للملك) وبين تأكيد الحق في نقد وزير الخارجية، باعتباره عضوا في حكومة مسؤولة عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية والخارجية.
في الواقع، وخلافا لما حاولت بعض وسائل الإعلام العمومية والأجنبية (خاصة منها القريبة من دوائر دول خليجية) ترسيخه من كون البلاغ يعبر عن نهاية ثانية للإسلاميين بعد إسقاطهم انتخابيا، أو إعلان غضب ملكي على العدالة والتنمية وتوبيخ له، فإن التأمل في مفردات البلاغ، يشير إلى أن القصر نأى بنفسه عن استهداف الحزب، وفضل نقد مضمون فقرة وردت في بيان الأمانة العامة المنعقدة بتاريخ 4 مارس الجاري، تتعلق بالتدخل في السياسة الخارجية التي هي صلاحية حصرية للملك.
شكليا، تعرض بلاغ الديوان الملكي إلى الفقرة التي تنتقد وزير الخارجية ناصر بوريطة وتؤاخذ عليه الدفاع عن الكيان الصهيوني في المحافل الأوروبية والإفريقية، واقتصر على نقد المضمون وخلفياته، دون أن يستهدف القيادة، وهو ملحظ شكلي مهم، يرسخ فكرة فوقية الملك عن الأحزاب، وعدم وجود أي مزاج أو نوايا مفترضة من الملك تجاه هذا الحزب، وأن الأحزاب على درجة سواء، تحظى بالتعامل نفسه، وذلك جريا على ما تقتضيه القواعد الدستورية.
المقارنة في هذا المجال مفيدة، فقد سبق لوزير الداخلية المغربي عبد الواحد لفتيت أن صاغ بلاغا ناريا ضد العدالة والتنمية على خلفية تصريحات قيادته حول العملية الانتخابية الجزئية التي جرت في 21 يوليو 2022، ووجه الاتهام المباشر لقادة الحزب بتعمد الضرب في مصداقية العملية الانتخابية ومحاولة إفسادها بشكل ممنهج، وتوجه بشكل مباشر لاتهام الخط السياسي للحزب.
واضح، لمن يريد أن يلتقط الإشارة الشكلية السابقة، أن ثمة فرقا كبيرا بين مفردات البلاغين، كما أن هناك بونا شاسعا بين استهداف القيادة في بلاغ الداخلية، وبين نقد سلوك أو موقف ورد في فقرة من بلاغ الحزب.
الاعتراض على هذه القراءة قد يأتي بمفردات داخل نص بلاغ الديوان الملكي، تشير إلى الخلفيات التي حركت الحزب لاستهداف وزير الخارجية (سياسية أو انتخابية أو تستجيب لأجندة داخلية) وأن ورودها بالشكل، لا يختلف في شيء عن نص البلاغ السابق لوزير الداخلية، في الطعن في نوايا الحزب ومقاصده وخلفياته.
دون هذا الاعتراض الوجيه، يبقى بلاغ الديوان الملكي محتويا على ثلاث رسائل أساسية، أولها التأكيد على أن السياسة الخارجية هي اختصاص حصري للملك اكتسبها بمقتضى الدستور، وأن ما يقوم به السيد وزير الخارجية ناصر بوريطة، يعكس توجهات الملك، وسياسته الخارجية، وأن التوجه إليه بذلك النقد القاسي الوارد في بلاغ الأمانة العامة، يعني من حيث لا تدرك قيادة الحزب استهداف السياسة الخارجية للملك. وثانيها، أن على النخب السياسية كلها، وليس بالضرورة العدالة والتنمية، أن تعي الطابع المعقد للمرحلة التي يعرفها العالم، والديناميات المتقابلة سواء في المحيط الدولي والإقليمي، والهوامش المتغيرة للحركة ضمنها، وما يترتب على ذلك من تقليص إمكانية الفهم لدى النخب السياسية، فتتصور أنها بمواقفها المبدئية تمثل الموقف الوطني المشرف، وتتبرأ مما تعتبره سياسات أو مواقف تسير في الاتجاه المعاكس.
الرسالة الثالثة، والتي لا تقل أهمية، وهي التمييز بين الموقف المبدئي من القضية الفلسطينية، وبين الموقف السياقي من العلاقة مع إسرائيل، والتي فرضتها ظروف ودواع لا تخفى على النخب السياسية والمدنية في المغرب.
بيان الأمانة العامة للعدالة والتنمية، لم يترك أي مساحة شك، في كونه يستوعب هذه الرسائل، كلها، ويعتقد أن السياسة الخارجية هي شأن سيادي يختص به الملك، بل إنه ذهب أبعد من ذلك، وسمح لنفسه أن يكون موضع نصح وتنبيه من قبل الملك، وأنه لا يجد حرجا في ذلك، ورسخ يقينه السابق من المواقف المبدئية للملك من القضية الفلسطينية، ومن أنه يدير السياسات الخارجية بوحي من المصالح العليا للوطن، دون أن يسمح الحزب لنفسه بالدخول في جدل حول دستورية الصلاحية الحصرية للملك في إدارة السياسات الخارجية.
لقد اختار بلاغ الأمانة العامة للحزب، أن يتجاوز الجدل حول هذه النقطة، لكنه فتح نافذة صغيرة، مرتبطة به، تتعلق بحق الأحزاب في نقد وزير الخارجية، باعتباره عضوا في حكومة مهمتها الدستورية تنزيل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والخارجية، وأن عمله هذا مقيد بنص الدستور.
أين المشكلة إذن؟ هل تكمن في فهم معنى الصلاحية الحصرية للملك في إدارة السياسات الخارجية، بالمعنى الذي يفيد بأن مناقشة مواقف بوريطة وتصريحاته، هي بمثابة انتقاد مباشر لسياسة الملك؟ أم تكمن في سوء فهم حاول العدالة والتنمية معالجته في بلاغه، من خلال النفي المطلق للدواعي السياسية والانتخابية وللأجندة الداخلية في انتقاده لبوريطة؟
المفهوم (بالمخالفة) في بلاغ أمانة العدالة والتنمية، هو ليس مجرد نفي، ولكنه، محاولة لسد الطريق على من يريد إفساد العلاقة بين الملك والحزب، بحكم أن ثمة فارقا بين الموقف وخلفياته، وأن الخلفيات أو الدوافع لا تفهم في نص العبارة، وإنما تفهم بمعطيات، تصل إلى الملك، أراد الحزب نفي صحتها.
في تقديري، يتعدى سوء الفهم هذين النقطتين، فليس ثمة مؤشرات واضحة على صحة ما يزعم بعض معارضي الملكية من كون الملك يريد أن يحول بعض الأشخاص إلى مقدسين غير قابلين للنقد، وقد سبق لحزب العدالة والتنمية أن عبر أكثر من مرة عن موقفه من التطبيع، وهو ما يختلف مع السياسة الخارجية للمغرب في هذه المرحلة، لكن لم يصدر أي بلاغ للديوان الملكي، ضد الحزب، أو ضد بلاغاته.
التقدير أن الفقرة التي وضعها الحزب في بلاغه للرابع من مارس حول وزير الخارجية ناصر بوريطة كانت تتضمن لغة غير دبلوماسية إن لم نقل فيها بعض الفجاجة التي ربما أغضبت الملك، فجاء بلاغ الديوان الملكي بهذا الشكل، فالحديث عن «استهجان مواقف وزير الخارجية» وليس مجرد «نقد» والحديث عن «كأنه يدافع عن الكيان الصهيوني في المحافل والإفريقية والأوروبية» والحرص على تأكيد المفارقة، أي سياق التعبير عن هذه المواقف «في الوقت الذي يواصل فيه الكيان الصهيوني عدوانه الإجرامي على إخواننا الفلسطينيين». هذه الطريقة غير الدبلوماسية في التعبير عن الموقف في التقدير هي ما شوشت على الموقف وجعلته غير مقبول من حزب أدار الحكومة عشر سنوات، ويعرف حساسية المواقع وحساسية الألفاظ.
واضح أن هذه اللغة لم تكن مناسبة، خاصة وأنها تشوش على الموقف المغربي من القضية الفلسطينية، فتصوره كما ولو كان يسير في عكس موقفه المبدئي، أي يدافع عن الكيان الصهيوني في القيام بجرائمه ضد الفلسطينيين.
تعليقات الزوار ( 0 )