فخور أني كنت من بين الأصوات القليلة التي رفعت الصوت مبكرا باعتبار أن الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية من طرف وزارة الداخلية يعتبر عبثا بالنص الدستوري، وبأنه إعلان خارج القانون، وبأنه لا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال، وأنه من العبث البحث داخل الدستور عن مبررات لقرارات السلطة، لأنها بكل بساطة تشتغل خارج الدستور.
ما ينبغي التنويه إليه أن رفع الصوت بالإنكار على السلطة التنفيذية اشتغالها من خارج أي إطار قانوني يبرر قرارتها كان من باب المسؤولية الأكاديمية، ولا علاقة له بالانتماء السياسي أو التصور الإيديولوجي.
بعد تهافت كل المسوغات التي قُدمت من أجل تبرير قانونية بلاغ وزارة الداخلية المعلن عن حالة الطوارئ الصحية، لجأت أخيرا الحكومة إلى تبني مشروع مرسوم بقانون رقم 2.20.292، تم نشره اليوم بالجريدة الرسمية (ج ر) تحت عنوان “سن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها”، ثم صدر في نفس العدد من (ج ر) مرسوم رقم 2.20.293 كآلية تطبيقة للمرسوم بقانون. فهل انتهى هذا الارتباك القانوني المستغرب من تواطؤ العديد من المؤسسات على ارتكابه مع صمت النخب القانونية عن جهل أو خوف أو لامبالاة أو ما لست أدري؟
كان سيزول الارتباك إذا ما تحلت السلطة الحكومية بالشجاعة اللازمة، وقدمت اعتذارها بكون مختلف الإجراءات التي اتخذتها لتقييد الحريات الأساسية للمواطنين والمواطنات منذ البلاغ المشترك بين وزارة الداخلية ووزارة الصحة يوم 18 مارس تعد إجراءات خارج القانون.
إن عدم الاعتراف الصريح للحكومة بأخطائها القانونية الفادحة هو ما يفسر الارتباك الذي عبر عنه مرسومها مقارنة مع البلاغ الصادر عن النيابة العامة حول حالة الطوارئ الصحية، وبيانه:
أ- أن مرسوم رقم 2.20.293 الصادر اليوم في (ج ر) “يعلن عن حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني إلى غاية يوم 20 أبريل 2020″، وما يثير الاستغراب هو أن المرسوم صمت عن تاريخ الإعلان عن حالة الطوارئ، والسبب في ذلك أنه لا يمكن الإحالة على بلاغ وزارة الداخلية الذي ينبغي أن يأتي بعد المرسوم لا قبله، وهو الخطأ القانوني الذي كان واضحا في مشروع المرسوم الذي صدر في بلاغ مجلس الحكومة يوم الأحد 22 مارس 2020، وقد نبهنا في حينه (يراجع مقالي “التأطير القانوني الملتبس لحالة الطوترئ الصحية” الذي نشر بموقع بناصا) أن ذلك المشروع سيخل بمبدأ أساسي من مبادئ القانون المتمثل في عدم رجعيته، بمعنى أن النص التشريعي تسري أحكامه من يوم نفاذه، وهو ما دعا الحكومة في الأخير لتصدر مرسومها دون الإعلان عن تاريخ بدء سريانه، لأنه سيسقطها في الحرج دون أن يرفع عنها الحرج، وكان يمكن أن تنص في مرسومها أن سريان أحكامها تبدأ من تاريخ نشره، وتعتذر بشجاعة عن الأخطاء الجسيمة التي أوقعها فيها بلاغ وزارة الداخلية الذي أعلن عن حالة الطوارئ الصحية.
ب- إن وعي رئاسة النيابة العامة بهذا الارتباك الكبير في التدبير القانوني للسلطة الحكومية لحالة الطوارئ الصحية، هو ما جعلها في بلاغها الصادر اليوم تؤكد أن التدابير الزجرية “يتعين تطبيقها بالحزم اللازم والصرامة الواجبة على جميع الأفعال المرتكبة ابتداء من يومه 24 مارس، وهو تاريخ نشر المرسوم بقانون، وإلى غاية الساعة السادسة من يوم 20 أبريل 2020” كما جاء في نص دورية رئاسة النيابة العامة إلى الوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف، ووكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية… أي أن التطبيقات الزجرية تبدأ اليوم 24 مارس وليس منذ صدور بلاغ وزارة الداخلية غير القانوني يوم 20 مارس.
لكن ما الذي يفسر هذا الارتباك والتدبير غير السليم للقانون في تدبير “حالة الطوارئ الصحية”؟ أزعم أن ذلك يعود أساسا إلى طبيعة العقلية الأمنية التي تتعامل مع القانون باعتبار سمو إرادتها عليه، وخوف النخب القانونية من التعبير عن رأيها الأكاديمي بحرية ومسؤولية، في حين أنه ينبغي اعتبار “القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له” (الفصل 6 من الدستور).
إن تقليص المسافة بين الدولة الأمنية ودولة القانون هو من اهم الأوراش التي ينبغي الاشتغال عليها أثناء مرحلة الجائحة وما بعدها.
نقاش فارغ لا يغني ولا يسمن…..ولا أهمية له……