الاحتفال بتسلم رفات المقاومين الجزائريين بعد 170 سنة من احتجازه وعرض رؤسهم في متاحف “بلاد الأنوار”، حيث ظلت فرنسا تعرض دليل “إرهاب الدولة” الذي كانت تمارسه إبان فترة الاستعمار، ومهما كان من أهمية رمزية لهذا الحدث، خاصة ما يشكله بالنسبة للضمير العالمي، من تذكير بوحشية الاستعمار الفرنسي، إلا أنه لا يعد سوى مسافة خطوة في مسار طويل للانفصال عن الظاهرة الاستعمارية التي لا زالت تشتغل في شعوبنا بصمت.
إن بداية تحرر شعوبنا ودخولها زمن الحداثة الحقيقي، هو يوم خروجها عن السكة التي رسمها المستعمر الفرنسي لوكلائه، وأدواته المنصبة على شعوب أفريقيا ولبنان وسوريا وحيث وجدت مسعتمرات فرنسا وغيرها من الدول الاستعمارية، لأن الحصول على استقلال صوري وظاهري، لا يمنع استمرار احتلال قرارات وسيادة وثروات الشعوب ومقدراتها،وهذا يجعلنا خارج زمن الاستقلال، وإنما نعيش وضعا كان قد وصفه المجاهد والمقاوم التاريخي محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه الله بــــــ”الإحتقلال”، إن الوضع الآن مريح للمستعمر المتحكم عن بعد، عن طريق أدوات حكم تابعة.
من الغباء إعتبار الاستعمار حقبة تاريخية كانت ومضت، بل هي مستمرة ولو تبدل الشكل، فالظاهرة الاستعمارية لازالت قائمة، وتمارس أدوارها الناعمة، وتحقق نتائج أفضل حتى مما يمكن أن يحققه الاستعمار المباشر.
إن الظاهرة الاستعمارية استأنفت دورها ولم تتأخر في ذلك، وإن اختلفت الوسائل والأدوات والأشكال:
– خضوع الأنظمة المنصبة ونخبها السياسية غداة الاستقلال المزعوم باتفاقيات ضارة بمصالح الشعوب وبمدى زمني ممتد، يعطي الدولة المستعمرة أولية في الاستثمار، وفي الثروات و المقدرات، و في تبعية النظام السياسي المنصب لإرادة المستعمر واقتصاده ولغته و سياسته، وما لا يعلم من الاتفاقيات السرية. التي عنوانها الأبرز التزام الصمت عن ماضي الانتهاكات والمجاز الاستعمارية وغيرها من التجارب النووية وتجريب الأسلحة، وتجنيد مواطني الدول المستعمرة في حروب فرنسا ضد النازية.
– ارتهان النخب الفكرية للنسق الفكري للمستعمر وافتتانها به، إلى درجة التقديس، فلا يملك الكثيرون من منتسبي هذه النخب، إمكانية للحركة خارج فلك فكر المستعمر، فقلما تجد دراسات تاريخية جادة للفترة الاستعمارية وأضرارها وحجم جرائم المستعمر، والاتفاقيات المكبلة للشعوب، ومن النادر أن ينبري السوسيولوجين عندنا لنقد الدراسات الكولونالية -إلا فيما ندر-، هذا إن لم يعتبرها البعض مرجعا لا يعلى عليه، والكثير من الدراسات حول المغرب لا تخرج عن نتائج وحصيلة هذا الارث الكولونيالي إلا في حالات فريدة.
– أما النخب الاقتصادية فإن الاستعمار وضع أدواته في المفاصل الكبرى للاقتصاد وربطها باقتصاد المركز، ولا عجب أن ترى كل المستعمرات القديمة، تضع عرباتها الاقتصادية خلف قاطرة اقتصاد الدولة المستعمرة.
إن ماضي الاستعمار في دولنا يجب أن يفتح الآن وأن يخرج من دائرة التناول الديبلوماسي، المنحصر في المطالبات بالاعتذار، مثلما حصل في تونس حيث لم يستطع البرلمان تمرير لائحة المطالبة بالاعتذار، و إلى حد الساعة مشروع قانون في نفس السياق قدم إلى البرلمان الجزائري وبقي رهن الرفوف و لم يصوت عليه بعد، أما دول أخرى فيسود الصمت.
واهم إذن من يعتقد أن دخول عصر الحداثة وزمن الديمقراطية، وبناء الاقتصاد الوطني، وممارسة السيادة الفعلية ممكن دون معرفة ما جرى، وفتح ملف الحقبة الاستعمارية، وعرضه على محكمة الشعوب، لتصدر فيه حكمها الناجز.
إن عدم فتح هذا الملف يشجع الدول المستعمرة على تدشين مغامرات استعمارية جديدة، وقد بدأت فعلا، والفرق بينها وبين الممارسات القديمة، هو أن الاستعمار الجديد سيتم بطرق جديدة تستعمل فيها الأطراف الداخلية المتناقضة المصالح، ويتم تدعيم الأطراف بالسلاح والمال وجماعات المرتزقة وشركات الأمن الخاص ومتقاعدي الجيوش الاستعمارية، ويتستعمل فيها النزعات العرقية والتطرف الديني وغيرها من أدوات التشتيت.
ممارسات فرنسا كدولة استعمارية تنقض الكثير من الأوهام المتعششة في عقول الكثير من الفرنكفونيين، والدائرين حيث يدور فكر الغالب والمستعمر، وفق وصف ابن خلدون “نحلة الغالب” أو “تبعية المغلوب للغالب”، ونحن أحوج ما نكون لبزوع فكر وطني جديد متحرر من الإرث الاستعماري في واجهات السياسة والثقافة والفكر، والإعلام والفن.
تعليقات الزوار ( 0 )