حركيتهم لم تغادر جامع الفنا يوماً. يرقصون، يغنُّون، يقفزون، يضحكون، يمرحون لغاية وحيدة، وهي رسم البسمة على وجوه الزوار، مغاربة كانوا أو أجانب. يسترزقون من الحلقة ب “عرق جبينهم”. حبهم للحياة اختلط مع حبهم لفنون الاستعراض في أرض الساحة ذات اللون الرمادي، نساءً ورجالاً. وهم يتجهون لساحة جامع الفنا، تعلو محياهم علامات الحماس والعشق الدفين للمكان والحرفة والأجواء. جريدة بناصا تبحثُ عنهم لمطاردة مصيرهم.
الحلايقية مريم أمل الملقبة بالغيوانية، التي تقود فرقة بمعية أخويها عبد الرحيم أمل وعبد الرزاق أمل، والتي توصلنا إليها بالرحبة القديمة بمراكش. تبلغُ من العمر أربعاً وخمسينَ سنةً. تهوى الحلقة منذ أن كانت ظرية العود. هي من أعمدة الفرجة بساحة جامع الفنا، لأنها اقتحمت هذا العمل منذ ما يربو على الأربعين عاماً. من أموال الحلقة الزهيدة، تصرفُ الغيوانية على نفسها وأختها المريضة، التي لديها ولدٌ وفتاة.
تتواجد بالساحة منذ عهد “الميخي”، “با حرور”، “لفارا” “الشقيف” و”عبد الحكيم الخبزاوي”، الذين أحدثوا صخباً في الحلقة أمام كافي فرانس.
إسمها أمل، بيد أن الأزمة بسبب الوباء، التي أخلت ساحة جامع جعلها تمتلئُ تشاؤُماً ورفضاً واستنكاراً للوضع الذي جعلها “تبيعُ ملابسها وأغراضها لتقاتل من أجل البقاء وضمان العيش الكريم”، كما تقول.
اقتربت التجاعيدُ أن تغطي وجوه أغلب من التقيتهُم في الرحبة أو قرب البريد وسط الساحة، بيد أنهم لازالوا بحيويتهم ونشاطهم.
“نحنُ شتاتٌ!”
تتحدثُ الغيوانية، بطعم من الحزنِ، على الشتات الذي طال الحلايقية وحرفيي الفرجة بساحة جامع الفنا، “حتا واحد ما حل بابو لينا إلا بعض الناس، مراكشيين حقاق ضرباتهم الغيرة على دوك المساكن بحال تورية بيم بيم والسي بلماحي أشكرهم لأنهم ساعدونا خلال رمضان” مشيرة بتأسفٍ عميق إلى أن منهم من وجد ضالته في التسول في المقاهي والأزقة ليوفر قوت يومه.
وبنوع من الحنين إلى عهد الجزولي تقول أمل ببراءة طفولية “لو بقي عمر الجزولي كون عيط على الحلايقية وعطاهم ربعين ألف ريال فهاد الأزمة، عمروا ماتخلا علينا، والله كون باقي مانجوعو مانبيعو حوايجنا ما والو”.
ويلومُ ميمون الخمسينيّ، بصرامةٍ الحكومة، التي لم تلتفت لهم يوماً، ولاسيما عند بروز الأزمة “تا واحد ماعقل علينا، فالأول كنا حنا شادين البقرة وهوما كايحلبو، ودابا مكاين والو”.
خالد النتيفي الحلايقي الملقب ب”المدّاح” الذي يبيع الكِمامات رفقة إبنه بأيت أورير بمراكش، يقول إن الحلايقية طالهم التشتت، وكل واحد وأين ذهب، ومنهم من ترك أبناءه في بيت صهره وغاب لأنه يعجز عن إطعامهم أو توفير أي شيء بسيط لهم منذ توقف عملهم في مارس. “ثمن شهور وأنا كاعد للأرض، الريال الحمر مكايدخلش علينا.”
الحلقة ليست تسولاً!
يتحدثُ ميمون بلحيته الكثة البيضاء، وهو أحد الحلايقية المشاهير بساحة جامع الفنا، بعد أن أثار سؤالي حفيظته، وتغيرت ملامحه، بأن “الحلايقية فنانا ماشي طلابا.”
وزاد، وهو يشدّ يديه إلى صدره واقفاً أمام كافي لادغيس وسط روائح النعناع، أن هذا تحقق بشكل ملموسٍ عندما لم يجد الكثيرُ منهم ما يأكل، فتوجه للتوسل في هذه الفترات العصيبة، “منين غانجيبو الفلوس وحنا ماخدامينش”، هكذا تساءل المعلم خالد.
وتتدخل الغيوانيةُ بكلماتٍ من اليأس بأنها تعاني في صمت، “نص إترو دالحليب ممنلقاه، لا لقيت الفطور منلقا الغذا، ولا لقيت الغذا مانلقا العشا”، مناشدةً الملك للتدخل بشكل عاجل “راه الملك هو لي يحل لينا هاد المشكل”.
التراث الحلايقي!
تقول أمل بهدوء وصوتٍ متأنٍّ “إن من يفكر في الحلقة يفكر في التراث، فالحلقة تم الاعتراف بها من طرف اليونسكو كتراث إنساني”.
وأفادت، بعد صمتٍ لثوانٍ، أن الحلايقية فيهم مروض القردة ومروض الأفاعي والموسيقيين و”هؤلاء هم عماد ساحة جامع الفنا وهم مستقطبو السياح بالأساس.”، تفرجُ عنها بفخرٍ تكشفه حبالها الصوتية.
واعتبرت الغيوانية أن الحلايقي الحقيقي هو الذي يصرخ حتى يجمع بين الخمسين والمئة شخصاً في الساحة يلتفون حول الفرجة التي يقدمها، “ويمشيو ربعين وتبقا عشرة، هذاك هز الحرايفي”، في إشارة إلى المجموعات التي تحاقبها في الساحة منذ السبعينيات.
وختمت حديثها بأن هذا هو الذي يعرق ويغني ويبدل مجهوداً مضنياً ثم يقول “لي دار يديه الله يرحم الوالدين، هذا هو الفن”.
وأورد ميمون وهو يحرّكُ شاشيته فوق رأسه، أن التشتت الذي طال الحلايقية ورغبة كل واحد في تأسيس جمعية، هي التي جعلت الحلايقية يعانون لأن ليست لديهم يد جامعة يتظللون تحتها. “ولا لي كايبيع الكارو بغا يدير جمعية، لي عساس بغا يدير جمعية”.
الحرفة وسؤال التنظيم!
بعيون برّاقة يطالبون جميعهم بضرورة تقنين عملهم وفرض زيّ موحد وتزويدهم ببطاقة مهنية، لتكون حتى عملية الدعم سهلة وسلسة، لأن المسألة تكون صعبة حتى إذا أمكن تصريفه “ودابا كيغايدير تا هذا مثلا لي بغا يعطينا ربعة دالمليون كيغايدير لينا وحنا كاين لي ممعروفش؟”، تتساءلُ الغيوانية باستغراب وإلحاح.
ثم زادت مؤكدةً بصرامة أن “الحل بيد الوكالات السياحية والمقاهي والفنادق التي تحيطُ بالساحة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. “والله ودارو لينا غير درهم كل نهار فصندوق أخضر ديالنا لا باقي لقاو شي واحد كايغوت، راه ثلاثين درهم فالشهر مغاتجيهم فوالو.”
وأعرب خالد بملامحه التي يعلوها غضب عابر، أنهم ملّوا من التماطل والتسويف والنسيان بعد أن قاموا بعدة مراسلات واستعطافات للسلطة، “تخايل مشينا وتم استقبالنا من طرف المجلس البلدي في الدرج وكأننا نكرة لا قيمة لنا.”
تعليقات الزوار ( 0 )