حاوره نورالدين لشهب
استبعد الدكتور محمد هاشمي، أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة محمد الخامس بالرباط، وجود “نقاش عمومي بالمغرب”؛ لأننا – نحن معشر المغاربة- (المجتمع والدولة) لم “نخرج بعد من قصورنا السياسي، ولم نصل بعد إلى نضوج تاريخي يؤهلنا فعلا لأن نرسم عتبات واضحة بين الاستعمال الخاص للعقل الذي لا يفيد كما قد يعتقد الاستعمال الشخصي للملكات الفكرية”، يؤكد الأستاذ هاشمي.
وعن علاقة المثقف بالسياسي، يعتبر أستاذ الفلسفة المعاصرة أن المثقف، اليوم، وبسبب الجبن الذي يعيشه غير قادر على بدل جهد فكري خارج المألوفات والمحفوظات التي تعفيهم من التفكير. كما أن المثقف ذاته غير قادر أيضا على التفكير خارج الوصايات، أو القدرة على تحمل ما تستتبعه حرية الفرد ورشده.
وهذا ما يجعل السياسي، حسب رأي الدكتور هاشمي، “يتعيش من هذه الرذائل المدنية التي تجعل الشعوب سلسة بشكل أكبر للانقياد التبعي الذي يحقق استقرارا مترهلا ورخوا وفارغا من كل إمكانات الترقي الحضاري”…
الحوار مع هاشمي تطرق إلى السياسة والعلم والفضاء الافتراضي وظاهرة التطرف وأشياء أخرى ستكتشفونها في هذا الحوار الشامل مع أحد المثقفين النقديين بالمغرب.
نرحب بكم، دكتور هاشمي…
مرحبا أستاذ، وأنا سعيد بالحوار من خلالكم قصد التواصل مع قراء هذه المنبر الإعلامي الرائد في الساحة الإعلامية المغربية..
مرحبا، أول سؤال أستاذ هاشمي، كيف ترى طبيعة النقاش العمومي بالمغرب؟
من المهم دائما في نظري أن نحذر من الأسئلة التي تتضمن جزءا من الإجابات المسبقة؛ فالتسليم بوجود نقاش عمومي في المغرب، والتركيز على طبيعته، هو إن شئنا القول مصادرة على المطلوب، إذ ليس كل تداول للأطاريح والشعارات والعبارات المسكوكة والمشحونة يمكنه أن يعد نقاشا أولا، ومن باب أصعب أن يعتبر عموميا ثانيا.
لهذا أود إذا سمحتم أن أعيد صياغة سؤالكم..
تفضل..
نعم، أنا أتساءل: هل نضج التدافع السياسي والاجتماعي والقيمي عموما لكي يصل إلى مصاف ما يدعى عادة في المجتمعات الديمقراطية الغربية بالاستعمال العمومي للعقل الذي يمثل شرط وجود نقاش من هذا القبيل.
ومن المعلوم أن إيمانويل كانط كان من أشهر من أثار هذا الاستعمال العمومي في إطار توصيفه لسيرورة الانتقال إلى الأنوار، حيث إن كانط اعتبر أن القرن الثامن عشر نفسه ما هو إلى معبر نحو الأنوار؛ فدعنا على الأقل نحذو حذو الرجل في التحفظ على ما نحن فيه من نقاش، ونعتبر أننا نعيش بالمغرب حالة مرور واستفتاح لهذا الذي يمكن أن يعتبر نقاشا عموميا.
إن الأمر هو تجربة وعي ولكن أيضا تجربة تاريخ، ولذلك سيكون من التبسيطية البالغة أن نعتقد أن المعجم السياسي الذي يليق بالديمقراطيات الغربية يمكنه أن يناسب سياق ما ندعوه بلغة مهذبة مجتمعات الانتقال الديمقراطي، تعبيرا على أننا لم نخرج بعد من قصورنا السياسي، ولم نصل بعد إلى نضوج تاريخي يؤهلنا فعلا لأن نرسم عتبات واضحة بين الاستعمال الخاص للعقل الذي لا يفيد كما قد يعتقد الاستعمال الشخصي للملكات الفكرية، وإنما استعمال الفكر في إطار مقتضيات انتماء محدود: مهني أو حزبي أو نوعي خاص.
وهنا يكون فعل التفكير ملزما بأن يحترم هذا الإطار المسبق، لأن الاستعمال الخاص لا يلزم الشخص وحده وإنما الجماعة المحدودة التي ينتمي إليها الفرد، فلا يصح للضابط أن يفكر في ما يتلقاه من أوامر حسب كانط بمعزل عن جماعته المهنية، هذا الاستعمال ليس مجال حرية بل هو مقام طاعة وخضوع.
ثم الاستعمال العمومي للعقل الذي لا يتحقق إلا في أفق انتماء كوني كوسموبولي حسب التعبير الكانطي، حيث يفكر الفرد في ما يرد عليه من قضايا باعتباره إنسانا كونيا، وهو ما يتحقق داخل سياق حرية كاملة تجعل العقل يتحلل من كل الربقات الثقافية والعقائدية الخاصة ولا يبقي سوى على طبيعته العاقلة بدلالتها الكونية.
بالقليل من النظر أعتقد أن ما يمارس من تداول فكري في الدواليب الرسمية وشبه الرسمية إنما هو أقرب ما يكون إلى النقاش الخاص وليس العمومي، فحساسيتنا لم تستطع بعد تحمل كل الاستقلالية والحرية التي يقتضيها الاستعمال العمومي للعقل. وهذا ما يتجلى بوضوح في تكرار كلمة الخصوصية والاستثناء وغيرها من العبارات التي تمثل رفضا واضحا للعمومية بدلالتها الفلسفية. إننا نناقش في الغالب الشيء العمومي بالعقل الخصوصي. ولهذا، فإن أغلب قضايانا الكبرى، لنعترف بذلك، محسومة حتى قبل أن نطرحها للتفكير..
لنتذكر كيف أننا على مستوى تنزيل الدستور الذي راهن على منح أولوية للمواثيق الكونية على مدوناتنا القانونية، نُصاب بشلل تام ونحن نواجه تحدي الحريات العقدية والفردية وغيرها من المطالب الحقوقية التي أصبحت مكسبا كونيا لا رجعة عنه في سياق الديمقراطيات الغربية؛ بل إن الفعاليات الحقوقية نفسها في الغالب ما تتعامل بجدية أكبر مع الحقوق الاجتماعية مقارنة بالحقوق المدنية، فهذه الأخيرة تبدو أدعى إلى الخروج من مضارب الخصوصية عكس الأولى التي تبقى محايدة. لهذا، إننا في حاجة إلى جهد أكبر كي نتمكن من تحمل مقتضى النقاش العمومي.
طيب، نلحظ أستاذ هاشمي أن أغلب النقاشات التي يفرزها تفاعل السياسي مع المعطى الاجتماعي تفتقر إلى مقاربة معرفية، هل يرجع هذا إلى غياب الجانب المعرفي عند السياسي أم غياب المثقف في العمل السياسي؟
هذا مؤشر آخر على غياب الحاجة إلى السند المعرفي لما يُدعى بالنقاش العمومي داخل المغرب وغيره من البلدان التي لم تصل بعد إلى وضع مسافة نظرية بينها وبين حساسياتها وقناعتاها الثقافية.
هنا أيضا أعتقد أن كانط سيكون مفيدا في فهم هذا الاستغناء المبدئي عن مطلب التأسيس المعرفي للمطالب الاجتماعية وللآليات تدبيرها؛ ذلك أن المجتمعات، التي لم تأخذ بعد نصيبها من التنوير، تظل سادرة في قصورها الطفولي على المستوى الفكري. ما تملك شعوب من هذا القبيل إنما حساسيات وانفعالات تضفي عليها نوعا من القداسة تعفيها من إعمال النظر في ما هي بصدده من مطالب وحاجيات.
وهذا ما يتجلى في خاصيتين مميزتين لشعوب من هذا القبيل: الكسل أي عدم القدرة على بدل جهد فكري خارج المألوفات والمحفوظات التي تعفيهم من التفكير، والجبن أقصد عدم الجرأة على التفكير خارج الوصايات، أو القدرة على تحمل ما تستتبعه حرية الفرد ورشده.
من هنا، إن السياسي يتعيش من هذه الرذائل المدنية التي تجعل الشعوب سلسة بشكل أكبر للانقياد التبعي الذي يحقق استقرارا مترهلا ورخوا وفارغا من كل إمكانات الترقي الحضاري، إنه الصورة الأكثر بدائية لإعادة الإنتاج الاجتماعي. لنقل، إذن، إن الأمر يتعلق بغياب الحاجة للمعرفة، وتعويضها بالصور الانفعالية للممارسة السياسية، التي أنتجت رجال سياسة منطبعين بطابعها، ومثقفين لا يفعلون سوى تدوير هذه الانفعالات، وإعادة صياغتها في صورة متعالمة.
لا أحد ينكر أن المشهد السياسي يعج بجوقة المثقفين الذين دعاهم نتشه يوما بـ”حيوانات الجر” التي تعتني بها الحشود لأنها تقضي بها مآربها الصغيرة. إن المجال لا يمتنع إلا عن أولئك الذين يسعون إلى زحزحة القناعات الكبرى، من خلال عبارة هوراس الشهيرة sapere audi “تجرأ على أن تعرف”؛ وهو ما يناقض مطلب السياسي المقاول والمثقف الخادم الذي يمكن صياغته كالتالي: “كن وفيا، لا تبتعد”.
هل هي غربة المفاهيم أم غربة المثقف كما تحدث عن ذلك إدوارد سعيد؟
كما تعلم، يا عزيزي، إن غربة المثقف حسب إدوارد سعيد تظل مطلوبة إذا فهم منها تمنعه عن التحول إلى أداة طيعة في يد طبقة أو هيئة تتوسله لكي تحقق من خلاله أغراضا تتجاوزه، وتتخفى عن مدركاته. إن المثقف حسب إدوارد سعيد هو ذلك الذي يحافظ على قدرته في وضع “الأسئلة المحرجة” ويقلق خطاطات السلطة المبيتة، والتي تحاول أن تجعل فعل التفكير مجرد ملحق ثانوي لتأثيث الواجهة، ما يأتي بعد أن يكون كل شيء قد حسم. بهذا المعنى بقدر ما يقع المثقف في منطق “الألفة والأُلاف” مع السلطة يكون قد فقد فاعليته، بل وفوت على هذه السلطة نفسها في أن تعيد التفكير في نفسها بجدية.
لذلك راهن صاحب “المثقف والسلطة” عن مدى قدرة المثقف على أن يقدم تصوراته ونقده انطلاقا من مبادئ كونية، تتجاوز المحلية الضيقة العزيزة على السلط التقليدية، وهذا كما ترون هو نفسه المطلب الأنواري في صياغته الكانطية؛ لكن هذه الغربة والغرابة غير متاحة بشكل كامل على الركح السياسي للسلطة، فإما أن يقوم المثقف بالدور المنوط به، وإما يخضع لآليات الإقصاء، التي قد تتحول أحيانا إلى أفعال عقابية حقيقية.
أمام هذا المأزق الذي يحياه المثقف، ماذا تقترح أنت أستاذ هاشمي؟
أميل إلى القول: وللأسف، لا يسمح للمثقف أن يظل غريبا، فلا بد له من وسم حزبي أو عرقي أو عقائدي لكي يستطيع أن يفوز بمرئية ما داخل مشهد ثقافي في الغالب ما يكون تحت سطوة المقاولات السياسية التي تشغل بالمهمة le travaille a la tache . وبالمناسبة، إن غربة المفاهيم يمكنها أيضا أن تمثل احتيالا لأجل تعطيل أثرها في الممارسة السياسية؛ وذلك من خلال تداول مفاهيم تتجاوز الأسئلة الملحة التي يطرحها السياق السياسي المباشر. فمثلا، إن فلسفات فخمة من طراز ما قدمه جون رولز أو هابرماس هي مواجهة لأسئلة انبثقت من التجربة التاريخية الفعلية التي عاش ضمنها الرجلان، أزمة الحقوق المدنية وتصفية التقاليد العنصرية في العالم الجديد بالنسبة للأول، وأزمة النازية وتوترات الإرث الأنواري بالنسبة للثاني، بينما ما نواجهه نحن في حياتنا السياسية والاجتماعية هو في الواقع أشبه ما يكون بالقضايا التي طرحت في سياق القرن السابع عشر، وعلى أبعد حد في القرن الثامن عشر، سؤال الحريات الأساسية والشرعيات السياسية، ومساءلة حجم السلطة الدينية وحدودها.
الغريب هو أن الأريحية السلطوية يمكنها أن تتقبل من غير ما جهد تداول مفاهيم بالغة التعقيد ومن ثمة بالغة الغرابة، طبعا هذا لا ينتقص من أهميتها الأكاديمية؛ لكنها تتعامل بتشنج وحذر مع مفاهيم أنوارية تعيد التفكير في تلك القضايا التي لما تزل حاضرة في ترسانة الشرعيات السياسية التقليدية..
وماذا عن فكر الأنوار في الدرس الجامعي والأكاديمي عموما؟
سأجيبك بسؤال: ماذا ترجمنا مثلا من الأربعين مجلدا التي تشكل أعمال فولتير اللاذعة، وأعمال ديدرو التي تضاهيها ضخامة وتتجاوزها حدة، وغيرها من الأعمال، لا شيء غير نزر يسير، أعتقد لأن هناك خطورة في ألا تظل مفاهيم من هذا القبيل غريبة كما ينبغي لها في تقاليد سياسية تنظر إلى المعرفي كتشويش على سلاسة السياسي العملية.
أمام انكماش النقاش العمومي لجأ القارئ المتلقي إلى الفضاء الإلكتروني، هل يمكن الحديث عن فضاء عمومي افتراضي؟
إذا ما تضمن سؤالكم اعتقادا في وجود ثنائية بين ما هو فعلي وملموس، وبين ما هو افتراضي وأقل واقعية، بحديثكم عن الانتقال من إلى، كما لو أنه تحول تراتبي، فدعني ألفت نظرك إلى الفلسفة منذ هيدغر انتبهت إلى المنقلب السيبرنطيقي cybernétique للعالم. إن مسار الوجود الإنساني أصبح مرتبطا بنظمية ذات مراكز حركة غير واضحة، الإنسان ليس سيدا متحكما في عالم الأشياء على النمط الديكارتي؛ بل لقد أصبح منذ عهد قديم في قبضة الشبكات التي تخلقت عنه ثم تجاوزته بعد ذلك.
لهذا، فالعالم، بأحزابه وإعلامه ووسائطياته، غارق في الافتراضية. لعل هذا هو ما كان مأخذ التوجهات الفوضوية على سطحية الأطر السياسية التقليدية التي تخفي فراغها بتقعر وهمي يحاول أن يعوض العمق الغائب. لقد انزلقنا حسب وتيرة متعاظمة نحو نظام السمولاكرات الذي قلب بشكل جذري علاقة النسخة بالنموذج فأصبحت النسخة نفسها أصلا حسب جان بودريار أفرزت لنا ما دعاه بما فوق الواقع. إن صحت هذه الترجمة لعبارة hyper-réalité- حيث يصعب التمييز بين ما هو فعلي وما هو واقعي.
لذلك، فقد تحول مجتمع ما بعد الحداثة إلى ترسيخ الفضاء الإعلاني publicitaire أكثر منه العمومي public؛ لأن الأصل في هذا الأخير أن يكون مجالا لمعرفة كونية تدور حول مقتضيات الحقيقة. وبالمناسبة، يميز كانط بين الشعب peuple المنقاد بطبيعته لسلطة سياسية، وبين الجمهور public الذي يراهن فيلسوفنا على أنه قابل لأن يؤهل عبر زمن طويل من التوعية والتربية المدنية لكي يحقق المثال الأنواري.
الحال أن الفضاء الأول هو مجال أضواء لا أنوار. ولذلك، فالحقيقة تظل مطلبا ثانويا بالنسبة إليه. لهذا، أعتقد أن رقمنة المجال العمومي مفتوحة على إمكانين:
قد تتحول إلى فرجوية ضحلة، بحيث تصبح عامل خمول يجعل الوعي يدخل في خدر طويل بفعل إغراقه بمفعولات السمولاكرات الإعلامية التي تجعله يعتقد أن ما يشاهد على الشاشات المسطحة هو العالم نفسه، وأن كل ما لا تطاله العدسات لا وجود له؛
كما يجوز أن يتحول هذا المجال الرقمي إلى عامل تحرر، بحيث يصبح من السهل تجريب الكونية عبر الخروج من محدودية المجال الترابي للجماعة la collectivité إلى أفق عابر للحدود كوسموبولي يتمثل في الاتصالية la connectivité حسب تمييز ألمعي لمشيل سير. هذا البعد الكوني المتحرر من المجال الوطني بمعناه التقليدي يتجلى واضحا في صورة العنوان الإلكتروني الذي يخرج الفرد من انتماءاته الضيقة سواء لأسرة أو قبيلة أو مدينة بعينها؛ افتراضيا كل شخص أصبح قابلا لأن يكون مواطنا عالميا، يسمع من الكل ويسمع صوته للكل، وهذا يخلق نظريا فضاء عموميا بالمعنى العميق للكلمة.
لكن المشكل في نظري أن قناة التواصل أصبحت أكثر تطورا من الرسالة نفسها. لهذا، أصبح بالإمكان أن نحقق ردة حضارية من خلال أكثر الأدوات التواصلية تقدما، تمثل داعش نموذجا مؤكدا لهذه المفارقة. إذن، نحن لسنا أمام واقع حاصل؛ بل بالأحرى إننا في مواجهة تحدّ كبير يجعلنا أمام اختيارين، إما أن ندخل إلى نادي المجتمعات الديمقراطية الدستورية، من خلال خلق الحاجة إلى نقاش عمومي فعلي باعتبار العقل في صورته العمومية والكونية سندا وأفقا لمشروعنا الحضاري، أو الاكتفاء بنسخ زائفة للفكر وللنقاش وللسياسة نخفي بها بداوة حضارية ما فتئت تتقوى وتتضخم خلف كل هذه المساحيق الحداثية.
حين سنكون قادرين على تحمل التعددية الفعلية قيمية وسياسية وعقائدية… حينئذ، سيظهر الفضاء العمومي. ومن ثمة النقاش العمومي، في انتظار ذلك دعنا نعترف بأننا لما نزل ندور في مضارب قبائلنا.
أنت أستاذ للفسفة بالكلية حاليا، وسبق لك أن درست الفلسفة بالثانوي في فترة سابقة، فما الدور الذي يمكن أن تطلع به الفلسفة في يومنا هذا من أجل عقلنة النقاش العمومي؟
أعتقد أن درس الفلسفة مثّل إلى حد ما داخل المغرب فرصة لتجريب التعددية الفكرية. ويعتبر هذا في ظني درجة دنيا من المناعة لدى المواطن حيال مزالق الهويات الضيقة والمتشنجة التي تعد الرحم الولود لكل أشكال الأمراض والإعاقات الحضارية. فبشكل ما حينما نُعلم شابا يافعا في طور الثانوي، أن كل الإشكالات الأساسية التي تهم الشرط الإنساني عامة قابلة لأن تداخل فكريا من منظورات متعددة، وأن الأصل في هذا الاختلاف هو التكافؤ والتناظر، بحيث يتناقض الدرس الفلسفي السليم مع السعي إلى ترسيخ عقيدة أو إديلوجية مركزية، تستعمل كسند لفض النقاش؛ لأن من المفروض أن يتعلم التلميذ أن النقاش يظل مفتوحا، وأن الأطروحات الفلسفية المتضاربة لا تأخذ قيمتها من أي انتماء ضيق، سواء ديني أو عرقي أو إديولوجي، بل إن معولها الأساس هو الكفاءة الاستدلالية الكونية للعقل الإنساني. مكاسب مثل هذه هي نوافذ حقيقية نحو الكونية ومن ثمة العمومية.
لكن يظل هذا أمرا نظريا؛ لأن للأسف الممارسة الفصلية مرتكزة ومنغرسة في وضعية تعليمية تتقوم بما هو اجتماعي وسياسي واقتصادي، وكل ذلك يخضع هذا الدرس إلى الكثير من الإكراهات الضيقة، مما ينجم عنه في المنتهى درسا معطوبا ومدجنا وممخزنا، يفتقد للقصدية الفلسفية الحقيقية..
نعم هناك أشخاص يقاومون الضحالة بسعيهم إلى جعل التلميذ يعيش تجربة معاينة تفكير آخر؛ لكن للأسف الطابع الارتجالي للتكوين وللممارسة الفصلية يجعل لحظات الضوء هذه غارقة تحت أتربة “الرداءة المطلوبة”… فلهذه الأخيرة دور بنيوي في نظامنا التعليمي. يحاول الدرس الجامعي أيضا أن يزحزح هذه الهويات الضيقة بانفتاحه على حساسيات وموضوعات مختلفة، عوض التمترس داخل المباحث التقليدية نفسها، وهو ما يؤهله أيضا لاكتساب نفس كوني يتجاوز التمركزات الشهيرة حول اللوغوس وأروبا وغيرها؛ غير أن هذا المسعى سرعان ما يصطدم بواقع يتجاوز الطالب والأستاذ، اللذين يصبح عليهما أن “يتصرفا” لأجل المطامنة من الرهان الحضاري لشعبة الفلسفة، والتركيز على مهام التكوين الأكاديمي المتعلق بأفق مهني للأسف هو في انحدار اجتماعي مضطرد.
طيب، هناك دعوات، ليس في المغرب وحسب، بل قد تكون عالمية للعودة إلى التصوف من أجل مقاومة التطرف الديني الذي يصنفه البعض بوصفه “سلفيا” كيف ترى طبيعة هذا النقاش، وأنت اشتغلت على التصوف هل يصلح فقط لهذي المهمة أم أن التصوف يتسع للاشتغال فيه/عنه في مجالات أخرى؟
بصراحة، يا عزيزي، فالتصوف لا يمثل بالنسبة إليّ طرحا موضوعيا يمكن منازعة حججه ومدافعتها؛ بل هو تعبير جمالي أقرب ما يكون إلى الموسيقى والتشكيل والرقص بدلالتها الراقية عن انتظارات وجودية وقيمية تتجاوز الأحياز الضيقة للديانات الوضعية والشرائعية، نحو نواة أخلاقية وذوقية ترتبط بالأعماق البشرية في كونيتها. وهنا، أعتقد أنني أفدت من كتابات كارل غوستاف يونغ التي أصاخت السمع لهذا العمق المتخفي للدين، أكثر مما قدمه فرويد حول العصاب الديني. لقد سمح لي الاحتكاك بالنصوص الصوفية المختلفة أن أتبين القشر من اللب حسب لغتهم، فما يبحث هؤلاء خلف ما يدعونه بقطع العلائق مع جميع الخلائق إنما خلق رابطة كونية للإنسان تتخطى الحدود الضيقة للثقافة وللغة. ولعل هذا ما يجعل أن تجاربهم العبادية تنتهي في مستوياتها العليا إلى ذلك الصمت العميق الذي يميز الحكماء ربما منذ فيثاغورس. هذه الكونية الجمالية إن شئنا القول التي أتعامل معها كقارئ لا كمريد، حينما تشذب من نزوعاتها الخلاصية وأخروياتها، يمكن أن تمثل بدورها مرجعية كونية إنسانية لمواجهة المنقلبات الخطيرة التي قد يؤدي إليها الانتماء الديني الضيق.
وأعتقد أن حالة جلال الدين الرومي تمثل مثالا فاخرا على هذا الحضور الكوني للنص الصوفي/ ومدى قدرته على امتصاص التوترات الحضارية.
برأيك، كيف يمكن مقاومة العنف الذي بات يتلبس بالدين في العصر الراهن؟
إن أخطر ما يمكن أن يدفع بنا إليه الخطاب المتطرف هو إيقاعنا في شرك التطرف المضاد، لأن ذلك في الغالب ما يوفر أرضا خصبة لنمو هذا التشوه الحضاري العدمي، الذي بالمناسبة لا يعد تاريخيا وقفا إسلاميا، فكل الأرحام الدينية ولدت وجوها شائهة من هذا القبيل. داخل العقل الأصولي المتطرف هناك هلوسات وعود تدميرية هي ما يغذي احتدامه الروحي ونزوعاته القربانية الاستشهادية. كل متطرف ينتظر الدمار العظيم، النهاية الكبرى. ولذلك، فهو في حاجة إلى بؤر عنف تؤكد إيمانه القيامي. لهذا، من المهم جدا استيعاب الحالات المتطرفة من خلال استراتيجيات حياة تعاند هذا النزوع نحو الموت. ويتحقق ذلك أولا بإفساح الفرص أمام الحياة الكريمة بدلالاتها المادية والمعنوية، فدون تحديث عميق للمجتمعات، وتوفير العناصر الضرورية لمشاريع حياة إنسانية معقولة، ستظل رائحة الدم اعتيادية لدى مواطنين غارقين في الكآبة. كما يتوجب علينا نفسح داخل هوياتنا مكانا للكونية من خلال توشيج العلاقة بين تراثنا ونصوصنا التأسيسية وبين التراث العالمي، وعلى الخصوص ذلك الذي تحققت من خلاله نهضة حضارية أعطتنا واحات حقوقية غاليا ما يلجأ إلى حمايتها المتطرفون أنفسهم.
ولن نتمكن من ذلك عبر طمس هويتنا وتراثنا لحساب تراث آخر، بل علينا بالأحرى أن نخلق مناخا تربويا وفكريا يجعل الأجيال المقبلة خصوصا تنظر إلى نفسها جزءا من العالم وليس “عالما آخر” عليه أن يواجه العالم. إن التربية والتعليم وحدهما كفيلان بإدماج هذه “النحن” الضيقة والمتورمة في إطار “نحن” إنسانية متنورة، فعلينا أن نبحث داخل ما لدينا من نصوص تأسيسية على ما يقربنا من القيم الكونية الحقوقية، عوض أن نتخلى عنها بين يدي من يرسخ غربتنا على العالم المتحضر، ومن ثمة من يصنع “توحشنا” الدموي المشين.
تعليقات الزوار ( 0 )