يقول المثل الشعبي الدارج على الألسنة: “العداوة ثابتة والصواب يكون”.
هذا المثل هو خلاصة حكمة وتجربة شعب تملأ تاريخه القبَلي والمحلي والوطني، وحتى العائلي، عداوات طويلة الأمد، عابرة للأجيال، بعضها يمكن تفسيره، وبعضها الآخر مرتبط بـ”الميافيزيقا” التي تلخصها أحيانا مقولة “صعود القرد إلى السطح”.
إن العمل بهذا المثل هو الذي جعل المغاربة -عموما- يطوون صفحة العداوة دون عتاب أو حساب، كلما لاحت بارقة لعودة المياه إلى مجاريها مع الجار الجزائري تحديدا.
ورغم أن فترات “التطبيع” كانت دائما قصيرة، تفصلها فترات أطول من “البغي والعدوان” إلا أن “الصواب” ظل حاضرا دائما، واليد ممدودة -دون شروط- للسير قدما، وطي صفحات الماضي، وذلك حتى على لسان أعلى سلطة في البلاد.
الجديد في أيامنا هذه، أن وسائل التواصل التي حولت العالم فعلا إلى “قرية كونية”، أظهرت للجميع من الظالم المعتدي، ومن المظلوم المعتدى عليه.
فلا تكاد تمر ساعة، دون أن يتطاول الإعلام الجزائري، على المغرب، ولا حاجة لأسباب نزول، مادامت حتى النشرة الجوية وأخبار الرياضة يمكن أن تكون مبررا للهجوم.
يعجز أي متابع عن تحليل هذه الحالة المرضية المزمنة التي تزداد استعصاء مع مرور الوقت لدى النظام العسكري الحاكم منذ انسحاب إدارة ديغول قبل 60 سنة.
ستة عقود، مع الثروات النفطية والغازية، والمؤهلات الطبيعية، كانت مدة أكثر من كافية لبناء دولة عصرية بكل المقاييس توفر الرفاه والاستقرار لمواطنيها، لكنها تحولت إلى مساحة زمنية لتبديد مقدرات هذا “المواطن”، واختلاسها أو إنفاقها على شراء العداوات.
500 مليار دولار مثلا، التي أنفقها العسكر الجزائري على مليشيات البوليساريو كم كان ممكنا أن تبني من المستشفيات والمدارس والجامعات والمصانع والطرق السيارة والموانئ والمطارات والفنادق والملاعب…؟
لكنه الجنون..
وإذا كان لا أحد من “العقلاء” يستطيع أن يفهم مثلا، سر الحملة الشعواء على تطور التعاون المغربي الإماراتي، فإننا بحكم طول “الجوار” ندرك أن كل خطوة يقدم عليها المغرب، تعتبر تلقائيا تهديدا للجزائر، حتى لو تعلق الأمر باتفاقيات بين بلدين شقيقين وسيدين في قراراتهما، بل حتى في ظل إمكانية أن تكون الجزائر طرفا في هذه الاتفاقيات، لو أن حكامها “الفعليين” تخلوا قليلا عن جنون العظمة الذي يسكنهم.. وعاشوا العصر بكل متطلباته بدل إيقاف الساعة في لحظة الحرب الباردة.
أليست الجزائر هي من يعطل مسيرة الاتحاد المغاربي؟
أليست الجزائر هي من تدفع دون حساب لتأخير حل قضية الصحراء؟
أليست الجزائر هي من تضحي بمصالحها السياسية والاقتصادية الحيوية نكاية في أي دولة لا تتماهى مع جنونها، كما حدث مع إسبانيا مثلا؟
أليست الجزائر هي التي تسلط إعلامها في كل الأوقات للهجوم على المغرب؟
وآخر النماذج ما نشر هذه الأيام، وكتب من محبرة واحدة، وكشف عن حجم الغيظ والحنق على الاتفاقيات المغربية الإماراتية، التي لا شك أنها ستكون منعطفا في مجال التعاون بين الدول العربية.
يستحيي المرء حتى من محاولة التعليق على بعض الترهات المنشورة، التي تكشف -مع ذلك- مستوى “ذكاء” صانع القرار في الجزائر.. الذي مازال يتصرف بعقلية برنامج “مغرب الشعوب”..
قد يبدو هذا الكلام مكررا ومستهلكا، لكن له سبب نزول، يتعلق بحفل توزيع جوائز الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، الذي احتضنته مدينة مراكش مؤخرا.
إن من يتابع حالة الهياج التي تعامل بها الإعلام الجزائري مع هذا الحدث “العادي”، تؤكد أننا، مرة أخرى، أمام حالة مرضية مزمنة ومستعصية، بما أن كل “شيء” يمكن أن يتحول إلى مبرر للعدوان الإعلامي على المغرب..
تخيلوا..
ما معنى أن يجمع المحللون والمعلقون والمدربون واللاعبون الجزائريون -مثلا- على أحقية بن شيخة بالفوز بجائزة أحسن مدرب، فقط لأنه فاز بكأسي الكاف والسوبر، وذلك على حساب الركراكي الذي بلغ نصف نهاية كأس العالم؟
قد ينطلي خطاب المظلومية والتهييج العاطفي على “العوام”، لكن ماذا عن النخبة الجزائرية؟
أكرر هذا السؤال مرة أخرى، بصيغة الإنكار والاستنكار، لأنه باستثناء بعض المعارضين المنفيين، الذين يستعملون المغرب في استفزاز النظام الحاكم في الجزائر، هناك إما تماهٍ تام من هذه النخب مع الموقف الرسمي، أو صمت غير مبرر، مع أن من يحب وطنه، عليه أن يواجهه بالحقيقة.
إن دور النخب الفعلية، ليس التصفيق لقرارات الأنظمة، بل استحضار المصالح الحقيقية للأمم والشعوب والدول، ليس فقط لأن الحق واضح والباطل أوضح في الأزمة المغربية- الجزائرية، بل لأن الاستثمار في “العداوة” سيساهم في إنتاج أجيال بلا ذاكرة، تراهن على الهدم بدل البناء..
وأية جريمة أكبر من هذه تساهم النخب الجزائرية اليوم في التغطية عليها وتسويقها؟
تعليقات الزوار ( 0 )