محمد أمزيان*
لا أتذكر شيئا من طفولتي معك. كنتَ غائبا في منفاك وكنتُ منشغلا بالبحث عنك. لا أخفي عليك يا أبي، حتى بعد أن غيّبك الردى بعيدا عن ريفك، أنني ما زلت أبحث عنك. أبحث عمن يناديني: يا بني! كيف أصبحت؟
خلال هذا الصيف زرتُ أرض الريف، وأنتَ تعلم يا أبي أن الريف لم يعد ذلك الريف. لقد أصبح شيئا آخر. لا أقول إنه أضحى غريبا، ولكنني رأيته حزينا. حتى العيد مر عليه وهو حزين. الغريب أنني لم أر دموعا في المآقي الشاردة، ولا لطما على الخدود. فقط، رأيتُ الحزن يمشي على قدمين.
لم أخبرك يا أبي أنني تزوجت ولدي أربعة أطفال. أحدهم سألني بعينيه دون أن ينطق بكلمة واحدة: لماذا نراك حزينا في كل عيد؟ يا لصدفة السؤال، وكأنني استشعرته وأنا في بلدتك الحسيمة يا أبي. تلك المدينة الوديعة التي قضّيتَ فيها شهورا في ظلمة السجن. كنتُ شرعت في لملمة شظايا الجواب هذا الصيف. أخذتُ أسرتي الصغيرة ووالدتي في السيارة، تزودتُ ببعض الجأش وقلتُ لأولادي: جاء الوقت لتفهموا قليلا من مأساة ريفكم.
عبّرتُ لهم أولا عن أسفي الشديد لهدم ملحقة السجن المدني في الحسيمة، والتي ولدتُ فيها ذات يوم عيد أضحى. هذا قدري. ولدت يوم عيد الأضحى الذي يفرح فيه الناس عادة، أما أنا فيذكّرني هذا اليوم بخطأ وجوديٍّ كبير. أن أولدَ في المعتقل دون ذنب ارتكبتُه. ثم توجهنا جنوبا نحو ثكنة “باينتي”. اطمئن، ما تزال الثكنة قائمة تشهد على جزء من مأساتك؛ مأساتنا. في الطريق نحو هذه الثكنة سألت والدتي عنها، وعن ظروف الاعتقال فيها. لأول مرة تخبرني بتفاصيل أنت لا تعرفها، لأنك كنت تشق جبال “شقران” بعد أن انتهى كل شيء. كانت كتيبة كاملة بجنودها وكلابها وجواسيسها يقتفون أثرك، بينما أمي التي حملتني في بطنها وثلاثة من أبنائك؛ إخوتي: جمال، فائزة ونعيمة، وأمك وشقيقاتك، يُساقون كلهم إلى هذه الثكنة التي كانت تعج بأفراد الجيش. في هذه الثكنة التي أوقفتُ سيارتي قبالتها، كان أوفقير يستنطق السجينات عنك. لأول مرة تحكي لي الوالدة هذه الواقعة. أوفقير بشخصه ونياشينه يستنطقها عنك: أين هو؟ هل كنتم تنظفون السلاح في البيت؟ أي نوع من السلاح؟ بماذا عسى أمي أن تجيب، هي التي لم تشبع من وجودك. بعد أكثر من سنتين سجنا في تطوان والحسيمة والقنيطرة، عدتَ إلى الريف، ثم كان ما كان. ولأول مرة أرى شيئا يبرق كالدمع في عينيها. “أنتم تعرفون أين هو الآن، ولم يسبق لي أن رأيت قطعة سلاح واحدة فبالأحرى تنظيفها”. كانت تقول الحقيقة، وأنت تعرف هذا جيدا.
أبناء محمد سلام أمزيان قائد انتفاضة الريف: فائزة – نعيمة – جمال – محمد
ابنتي الكبرى التقطت بعض الصور للثكنة، ثم واصلنا الطريق نحو سوق أربعاء تاوريرت. هذا السوق الأسبوعي الذي كتبتَ كثيرا عن دوره في قيام جيش التحرير واستقبال اللاجئين من منطقة المواجهة في مثلث الموت في اكزناية، تغير كثيرا يا أبي. أصبح بلا ملامح. تلك الغرفة التي كنتَ تعقد فيها اجتماعاتك قرب بوابة السوق الرئيسية، اندثرت. حتى بيتُك الذي بنيتَه لتستقبل فيه زوارك اندثر. ما يزال السور الخارجي قائما، لكن الغرف تهدمت. المؤسف حقا أنها أصبحت مكانا لمن يريد إفراغ أمعائه بعيدا عن أعين الناس. خير لك أنك مت قبل أن تراه على هذه الحالة. قد تعاتبنا، نحن أبناؤك، مستفسرا: وأنتم، ماذا فعلتم للحفاظ عليه؟ لا شيء يا أبي، لا شيء.
قرأتُ الفضول والحسرة في عيون أبنائي. هم ما يزالون صغارا، ويعلم الله كم حاولتُ أن أبعدهم عن تفاصيل هذه المأساة التي يراها البعض تاريخا يُحكى. أي تاريخ هذا؟ ماذا في صفحاته غير الحزن والدموع والحسرة. لا تؤاخذني يا أبي، فأنا هنا أتحدث كطفل في رحلة بحث عن والده. كل تاريخ الأرض، كل البطولات، كل صفحات المجد.. لا تهمني الآن.
بدا لي طريق “شقران” يصعد نحو السماء كالأفعى. تقول الوالدة في لهجة معاتبة: ركبتُ السيارة والقطار والباخرة. زرتُ بلدانا في أوروبا ومدنا في المغرب. زرت البقاع المقدسة، لكنني لم أصعد هذه القمة أبدا. كادت الفرحة تخطفها من أجواء الحزن. واقتفينا آثار الأفعى نحو الأعلى، وفي نيتي أن أطلع أسرتي الصغيرة على سر كان أخي جمال أودعني إياه منذ سنوات. مررنا على دوار “أرما” حيث استرحنا في ضيافة شباب ما يزالون يتذكرونك ويذكرونك باعتزاز. من هناك يتراءى للناظر ذلك المكان الذي بدأتَ فيه انتفاضتك. نعتت لأولادي مكان بيتنا، نفس البيت الذي كنتَ تنظر إليه وهو يحترق حينما غادرتَه مع ثلة قليلة من الشباب المخلصين. الدخان ما يزال هناك، يحوم حول البيت منذ تركتَه ذات خريف من سنة 1959. لا تسألني عمن اشعل النار. أنا أيضا لا أعرف.
عبرنا “شقران”. شقران أصبح بلدة فيها ملعب للقرب ومستوصف ومدرسة وجماعة قروية. السوق يعمر يوما واحدا في الأسبوع. لعل الأمر كان كذلك حينما مررتَ من هناك وأنت تمشي نحو مصيرك. ونحن في الطريق إلى “سيدي بوخيار”، هنالك على الجهة اليمنى مكان وسط غابة كثيفة. هذا المكان، أظن أنك تتذكره جيدا. هناك جمعتَ بعض الشباب ممن رافقك في رحلة المجهول، وقلتَ لهم: انتهى كل شيء. من أراد منكم أن يرافقني فمرحبا به، ومن أراد العودة إلى أهله فله ذلك. هذا ما حكاه لي أخي، وهذا ما حكيتُه لأولادي ولوالدتي. لثاني مرة هذا اليوم أرى بريق الدمع في عينيها.
فعلا عاد من عاد، أما أنتَ فاخترتَ اتجاها آخر. لقد غبتَ عنا طويلا. آه كم جعلت رحلة البحث عنك عسيرة.
ابنك محمد
*صحافي في هولندا، وهو ابن محمد سلام أمزيان زعيم ثورة الريف 1958
تعليقات الزوار ( 0 )