تشكّل تصريحات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الليلة الفائتة، دليلاً جديداً على مآربه في مواصلة العدوان، ورفضه لصفقة تبادل، رغم التحذيرات الواسعة من السقوط في مستنقع، والغرق في الاستنزاف، ولذا فهي تثير ردود فعل غاضبة لدى أوساط إسرائيلية تعتبرها تعقيداً للوضع العسكري والسياسي المعقد أصلاً.
وكان نتنياهو، بعد انقطاع طويل عن مقابلات إعلامية مع صحافة عبرية، قد تحدث للقناة الإسرائيلية 14، التي تعتبر بوقاً مفضوحاً له، فكرر نفسه، ولم يأت بجديد، بل واصل زيادة تعقيد الوضع الراهن على شاكلة: “صحيح لا تقسم، مقسوم لا توكل…وكل تتشبع”!
نتنياهو، الذي اعتبر احتلال غزة وبناء المستوطنات فيها مجدداً أمراً غير واقعي، كشف عن مآربه من جديد، بقوله إن مرحلة القتال الشديد في غزة على وشك الانتهاء، بيد أنه غير مستعد لوقف الحرب قبل القضاء على “حماس”.
وتابع: “لن نغادر القطاع حتى نعيد المختطفين، وأنا مستعد لصفقة جزئية”.
في هذه المقابلة، التي ردّ، بمجرد إتمامها، على الأسئلة الموجهة له من قبل وسائل إعلام عبرية بأنه يتحدث مع الإعلام الأجنبي فقط، ويقاطع الإعلام العبري، وجّه الرسائل لجمهوره اليميني، خاصة الرسالة الجوهرية بأنه ماض في الحرب.
تظهر المقابلة هذه أن نتنياهو ما زال يطمع بـ “النصر المطلق” على “حماس”، أو بصورة انتصار تحفظ له ماء الوجه، علّها تبقيه في سدة الحكم، وفي التاريخ، وخارج السجن، إذ تنتظره، فور انتهاء الحرب، محاسبة داخلية عسيرة، ومحاكم فساد خطيرة على مستقبله السياسي والشخصي.
جبهة لبنان
ورغم أن أوساطاً إسرائيلية واسعة، بما فيها المؤسسة الأمنية، والناطق العسكري هغاري (بصوته وصورته، قبل أيام، اعتبر مهمة القضاء على “حماس” ذراً للرماد في العيون)، تعتقد، اليوم على الأقل، أن قتل “حماس” مهمة غير ممكنة، عاد نتنياهو وتمسك بهذا الهدف المعلن العالي، ما يعني أن الحرب مع “حزب الله” مستمرة متصاعدة، لأن أمينه العام حسن نصر الله أكد مرات أن جبهة الإسناد مستمرة طالما استمرت الحرب على غزة، وألزم نفسه بذلك.
بالنظر للموجود والمفقود في تصريحات نتنياهو، فإنها تقول إنه معنيّ بحرب بسوس إسرائيلية طويلة، مهما استنزفت مقدرات إسرائيل، وتهدد مصالحها بكل المستويات، مثلما تقول إنه لا يريد صفقة، فهي تتناقض مع الصفقة الإسرائيلية المقترحة من قبل الرئيس الأمريكي، الشهر الماضي.
نتنياهو يواصل المماطلة طمعاً بانتصار، أو صورة انتصار، وهروباً للأمام من الحساب الداخلي الذي ينتظره لاعتباره من قبل أغلبية الإسرائيليين مسؤولاً عن الفشل الإستراتيجي في السابع من أكتوبر، وعن الحرب الفاشلة على غزة التي قتلت عشرات آلاف المدنيين الفلسطينيين، وتسبّبت بنزوح عشرات آلاف الإسرائيليين، وأصابت هيبة ومكانة إسرائيل بجراح، فباتت دولة منبوذة في العالم.
في انتظار ترامب
نتنياهو يراوغ ويواصل مساعيه لكسب الوقت ومدّ أمد هذه الحرب في انتظار “فرج” ما، وانتظار ترامب على أمل أن يخرجه من البئر العميقة من خلال دعم جارف غير محدود لإسرائيل ولحكومتها، يشمل مساندته في القفز عن القضية الفلسطينية والرهان على التطبيع مع العرب دون تسوية مع الشعب الفلسطيني. وهذا يفسر هجماته العلنية الحادة المتتالية على الإدراة الأمريكية التي تدلّل على جحوده بعد “القبة الحديدة” العسكرية والاستخباراتية والدبلوماسية والمالية التي منحتها واشنطن لإسرائيل، مثلما تدلل على محاولته مجدداً التدخل في الشؤون الداخلية الأمريكية، ومحاولة ترجيح كفة دونالد ترامب على كفة جو بايدن، الذي يتعامل معه نتنياهو اليوم ليس كرئيس بقدر ما يرى به مجرد مرشح للرئاسة فحسب، ويستخف به، ويبتزه بسبب مشارفته على إنهاء ولايته، وبسبب حاجته لدعم اليهود في الولايات المتحدة واللوبيات الصهيونية فيها.
يواصل نتنياهو ذلك رغم تحذيرات إسرائيلية بأن ترامب مضطرب، وغير متوقع، ومن الممكن أن ينقلب على إسرائيل، وعلى نتنياهو، خاصة أن هناك رواسب بينهما منذ باركَ نتنياهو لبايدن، بعد كشف نتائج الانتخابات الأمريكية في 2018، واعتبرها ترامب لصالحه.
وقاحة إسرائيلية مقابل ليونة أمريكية
على هذه الخلفية، جدّد مراقبون في إسرائيل حملتهم على نتنياهو، الذي يعبث بتحالف إستراتيجي مع الولايات المتحدة، ويمس بسياسة الحفاظ على علاقة طيبة مع الديموقراطيين والجمهوريين معاً، فقال المعلق السياسي البارز ناحوم بارنياع إن بيان نتنياهو ضد بايدن لا يستوي مع الواقع، لكنه ينطوي على حيلة وخدعة لخدمة مصالحه الفئوية.
ويشير بارنياع، في “يديعوت أحرونوت”، اليوم، إلى أن هناك أسباباً للتباطؤ في إرساليات نوع من السلاح: الطلب أسرع من الإنتاج، استهلاك زائد في بدايات الحرب، علاوة على حرب أوكرانيا، وتحفّظ أمريكي من استخدام قنابل تؤدي لدمار واسع.
ويمضي بارنياع في حملته متسائلاً: “لنفترض أن نتنياهو صادق والمؤسسة الأمنية كاذبة، هل، وبماذا، يدين الأمريكيون لنا؟ هذه وقاحة. وهناك سبب إضافي؛ المساس بزيارة غالانت، التي تبدأ رسمياً في واشنطن اليوم الإثنين، فالتوقيت ساخر وكيديّ: إن نجح غالانت بتهدئة خواطر الأمريكيين سيقول نتنياهو إنه هو الذي نجح بإزالة العقبات، وتجديد تزويد السلاح، وإن فشل غالانت سيحتفل نتنياهو مجدداً”.
بيد أن بارنياع يوجّه نقداً مؤدباً للجانب الأمريكي أيضاً، بسبب “ليونة جانبهم”، بقوله: “كان بوسع الأمريكيين إلغاء زيارة غالانت، والقول للعالم: حب كبير لإسرائيل واحتياجاتها، وابتعاد واضح من حكومتها. هم لن يفعلوا ذلك. نتنياهو محق، فهم ليّنون زيادة عن اللزوم، ونتنياهو يستغلهم”.
ومن جملة المشاركين بالحملة على نتنياهو محرّرُ الشؤون العسكرية في صحيفة “هآرتس”عاموس هارئيل، بقوله: “فيما يتصاعد التوتر مع “حزب الله”، ضمن محاولات ردع متبادل، يختار نتنياهو مهاجمة الولايات المتحدة، ويعود لنمط التفاوض الفاشل في موضوع الصفقة مع “حماس”.. وفيما يحاول غالانت إطفاء الحرائق في واشنطن، يحاول نتنياهو دحرجة التهمة على الآخرين، وهو مشغول بجمهور ناخبيه بالأساس”.
طعنة بالظهر
وأثارت تصريحات نتنياهو للقناة 14 العبرية غضباً واسعاً لدى عائلات المحتجزين الإسرائيليين، الذين سارعوا لمهاجمته بشدة، بقول ناطقين باسمهم إن هذه التصريحات حول استمرار الحرب، والاستعداد لصفقة جزئية فقط، هي سكين في القلب، وطعنة في الظهر، وعصي في دواليب مساعي الصفقة، وتخلٍ عن 120 إسرائيلياً يموتون في الأسر يومياً.
وقال والد أحد المحتجزين الإسرائيليين في غزة للإذاعة العبرية العامة إن نتنياهو يواصل بمنهجية تعطيل الصفقة.
ونقل موقع “واينت” العبري عن “مصادر” قولها إن تصريحات نتنياهو صادمة، و”حماس” كانت تريد التأكد من انتقالنا للمرحلة الثانية من الصفقة. وهذا ما أكدت عليه حركة “حماس” بقولها، معقّبة، إن حديث نتنياهو عن اتفاق جزئي يستأنف بعده الحرب يؤكد رفضه مقترح بايدن، بعكس ما حاولت الإدارة الأمريكية تسويقه.
(القدس العربي)
تعليقات الزوار ( 0 )