لا شيء يعلو في الوقت الراهن عن الحديث عن وباء كورونا فيروس المستجدّ، هذا الوباء الذي ظهر فجأة في الصين ثم انتشر بسرعة في باقي أرجاء المعمور، أرخى بظلاله على العلاقات بين الدول في أبعادها السياسية والاقتصادية والتجارية والصّحية الى درجة أعلنت بسببه بعض الدول الأروبية حالة الطوارئ بعد فقدانها السيطرة على انتشاره، وهو الأمر الذي ينذر بتفشي أزمة هذا الوباء بصورة مخيفة حتى تشمل باقي دول العالم ما لم تُتخذ إجراءات قاسية للحد منه، ولعل ما يزيد من هذا الاحتمال هو: سرعة انتشاره، وغياب لقاح فعال يعالج ضحاياه.
في الوقت الذي بدأت فيه الصين تتعافى من الوباء بعد أن تمكنت من عزله، بدأت الأمور تسوء بشكل كبير في بعض الدول الاروبية. ففي إيطاليا، ارتفعت نسبة الوفيات بشكل مهول، إذ انتقلت البلاد من المستوى الأول الى المستوى الثالث في غضون ايام قليلة، تم على إثرها الاعلان عن دخول كل البلاد في الحجر الصّحي، وهو نفس المصير الذي أوشكت عليه اسبانيا وفرنسا، أمّا بريطانيا، فقد طلبت مزيدا من أجهزة التنفس الصناعي حتى لا تقع في نفس الموقف الذي وقعت فيه ايطاليا التي فرض عليها قلة تلك الأجهزة أمام ارتفاع عدد المرضى في وضعية حرجة الى اتخاذ قرارات صعبة وصلت حدّ إفراز المرضى بين من له الحق في الحياة ومن سيترك ليواجه مصيره المحتوم.
يبدو على ضوء ما سبق أن المغرب قد استشعر الخطر الوشيك، خصوصا بعد تزايد حالات الوباء في اسبانيا بشكل مهول، وكذا ظهور أولى الحالات في كل من الجزائر وجزر الكناري، الا أن ظهور أولى الحالات في البلاد من لدن مهاجر مغربي قادم من الديار الإيطالية قد كانت بمثابة ناقوس الخطر للمسؤولين الذين لم يتأخّروا في اتخاذ الإجراءات اللازمة قبل فوات الآوان ولو أن الحالات اللاحقة التي ظهرت كانت معزولة ومتعلقة بوافدين في غياب أيّ بؤرة محلية للوباء.
بمجرّد ظهور الحالة الثانية، فقد ظهرت بوادر جدّية لتعامل الدولة مع هذا الوباء، وكان لقجع أول مسؤول يبادر لاتخاذ أول إجراء صارم للتصدي لهذا المرض، إذ أصدر أمره بإجراء باقي مباريات الدوري الوطني ب”الويكلو” تبعته بعد ذلك أوامر بإغلاق المدارس ووقف الرحلات الجوية مع ايطاليا ليمتد القرار الى دول أخرى قبل تعميم وقف الرحلات الجوية مع باقي دول العالم، ورغم أوامر الدولة الصارمة في إلغاء كل التجمعات التي يتجاوز عدد الأفراد فيها الخمسين فردا، فقد تأخرت في إصدار الامر بإغلاق المساجد لحساسية الموضوع، قبل أن تفعل ذلك بعد فتوى المجلس العلمي.
ظهر أول الأمر أن المواطنون المغاربة يتعاملون مع الوباء بنوع من الإستهتار، بل وحتى السخرية، لأسباب تتراوح بين تأثير المعتقد الديني، أو لاعتقادهم أن الأمر يتعلق بأوبئة سابقة لم يمسسهم ضررها على غرار إيبولا وسارس وإنفلونزا الخنازير… أو تحت تأثير الأمية والجهل اللّذان يجعلان من صاحبهما لا يدرك حجم المخاطر التي تداهمه.
مع مرور الأيام، بدأ الخوف يدبّ في النفوس بعد إدراك المواطنين لحجم المخاطر التي تداهمهم في ظل الأخبار المحبطة التي تأتي تباعًا من إيطاليا وأسبانيا وصور توابيت ضحايا الوباء في مستشفيات إيران، وخصوصا بعد وفاة أول ضحية الوباء في البلاد، تغير بعدها حال المواطنون رأسا على عقب، فبدأوا يتجاوبون في نطاقات محدودة بدأت تتسع رقعتها بمرور الوقت مع تعليمات وزارة الصّحة.
ورويدا رويدا بدأ المواطنون يسترجعون ثقتهم المفقودة في مؤسسات الدولة، أو على الأقل في هذه الظرفية الإستثنائية، وأكثر من ذلك، فقد بدأت بعض جمعيات المجتمع المدني وشخصيات فايسبوكية مؤثرة في الانخراط الى جانب مؤسسات الدولة وإعلامها لتحسيس المواطنين بخطورة الوباء وتشرح لهم سبل الوقاية منه. بل هناك من يدعوا الدولة الى التعامل بحزم مع من يتعاملون باستخفاف مع إجراءات الوقاية ولو اقتضى الأمر منها إنزال الجيش الى الشارع!.
انخرط الكل إذن في هذه الحملة، حتى أولئك الذين يعارضون بالأمس الدولة وسياستها بشراسة، فقد تركوا خلافهم معها وانخرطوا الى جانبها في سبيل تجنيب المغرب والمغاربة تداعيات كارثة صحيّة وشيكة. اختفت كل الخلفيات، وانصهرت كل الايديولوجيات في بوثقة الوطن، على الأقل، كهدنة فرضتها دواعي الضرورة المفاجئة لانقاذ ما يمكن انقاذه، لا يستثنى من ذلك سوى جماعة العدل والإحسان العنيدة وبعض الأصوات النشاز التي يمثلها بعض الإسلاميون المتشددون الذين حاولوا دون جدوى التحريض ضد الدولة بسبب غلقها للمساجد.
يبدو إذن أن التدابير الصارمة التي اتخذتها الدولة لتجنيب المغاربة أضرار وباء كورونا والتي نالت إشادة وسائل الاعلام الدولية التي تتابع منحى انتشار هذا الوباء حول العالم، قد أعادت الدفئ أو بعضا منه الى العلاقة بين مؤسسات الدولة والمواطنين التي طالما اتسمت بالنفور على مدى عقود، وعلى جانب آخر، فمن شأن تلك المساهمات الضخمة التي ضخها أثرياء المغرب في صندوق التضامن ضد هذا الوباء، والتي تجاوزت في وقت قصير من إطلاق تلك المبادرة المبلغ المستهدف، أن تخفف من حجم الكراهية والنفور بين المواطنين وهذه النخبة من الأثرياء.
كل هذه المؤشرات تمثّل أرضية خصبة وفرصة مواتية للدولة إنّ هي أرادت أن تستغلها في إعادة بناء علاقتها مع المواطن على أسس قوية تراجع من خلالها مجموعة من السياسات الغير الموفقة التي وسّعت الهوة بينها وبين المواطنين. فهل تكون هذه المرحلة هي بداية صفحة جديدة بين الدولة والمواطن، أمّ أن شهر العسل بينهما سينتهي بأفول خطر وباء كورونا؟ سؤال يصعب التكهن بالاجابة عنه حاليا، لكن حتمًا ستظهر بوادر الإجابة عنه بعد حين.
*محمد برشي كاتب مقيم بأمريكا (واشنطن).
تعليقات الزوار ( 0 )