“لا يمكن أن نمزح مع الاستعارات، فالحبّ يبدأ من استعارة واحدة”. جملة تُعبّر عن كائنات ميلان كونديرا، ومنها صاحب الغراميات المرحة، الأستاذ الذي يتهرّب من تقيِيم مقال أحد الباحثين، الذي لا يسمح له ضميرُه أن يخبره بموقفه السّلبي منه، ولا يمكنه إجازته لرداءته. هروب بطل “غراميات مرحة”، من جُرح مشاعر شخصٍ واحد، أدّى به إلى تدمير هذا الشّخص وآخرين معه، ففي سعيه إلى الخفّة صار أثقل من جبل. لعلّها حيرة كلّ رجل في الحب، كما كتب أُنسي الحاج مرّة: هل يحِبّ الرجل ليبكي أم ليفرح، وهل يعانق لينتهي أم ليبدأ؟
معظم شخصيات كونديرا متناقضة، ساخرة وعاطفيّة، مهتمّة ولا مبالية في آن. ميلان نفسه يتراوح بين السخرية والجدّية، إلى درجة أنّه قد يجلد نفسه ورفاقه. هاجسه الأساسي هو كل مصدر جدل لأنه معجونٌ به. هو الذي خرج من جلباب الشّمولية إلى الفردية، لا إلى الرأسمالية (كما يحاول بعضهم وصمه)، فحين كتب ميلان منتقداً الشّرق الأوروبي الشمولي، كان الغرب، في أحسن صوره، متمثلاً في المسكن الجديد للفارّ اللّاذع من نظام شمولي، فرنسا، التي كانت تغلي ثقافيّاً وفنيّاً وترعى حقوق الإنسان، بعد انتهاء عهدها الاستعماري. لكنه لم يدافع عن الرأسمالية، بل رفض كل ما يحاصر الفرد، كما أن نقده اللاذع لم ينحصر في النظام الشيوعي الحاكم آنذاك، بل كان جذريا شاملا.
لو اطّلع ميلان كونديرا على رد فعل الوسط الثقافي العربي على وفاته، والمحاكمة الأدبية على شرفه، لفرح، ولربما اعتبرها “مزحة” من “خفّة الكائن التي لا تُحتمل”، فهو ليس روائيا يقرأه محبّو الحبكات والحكايات في السّرد، والباحثون عن أجوبة جاهزة أو دليل قراءة داخل القراءة. هو كاتبٌ برّي لكن برّيته نخبويّة فكرية نفسية، لا يعرف ما الذي يجب عمله بالضّبط، لذا هو يحتفل بضياعه وأخطائه وهيامه بين الأشياء.
ابتداءً من أوّل أعماله السردية “غراميّات مرحة”، حمل كونديرا السكّين، وبدأ يكتب اسمه وأسماء الذين حوله، على الجدران، في سخريةٍ مريرةٍ ومبدعة. ثم جاءت “المزحة”. العناوين وحدها تكفي لتعبر عن بداية مرّة الطعم، ثم هات “خفّة الكائن التي لا تحتمل”، و”الحياة في مكان آخر”… فيحلّق ميلان من بلده الجديد نحو اللّاوطن، ويعلن عن ملله من المكان والإنسان، لكن أين المفرّ؟ يأتي “البطء” ليعبّر عن هذا الملل، لكن كيف يكون الكائن ملولاً ويفكّر في “الخلود”؟ كان لا بد من “الضحك والنسيان”، ليواصل إعمال مشرطه السّاخر في مواجهة ثقل الواقع، مقدّماً “فنّ الرواية” ليشرح عالمه الرّوائي خارج ما نظنّ أننا فهمناه. حين منحنا “فالس الوداع” كان يُدخل يده في عين ما تبقّى من منطقٍ يظنّ الآخرون أنه تبقّى في “حفلة التفاهة”. قاذفا “الجهل” بالطوب والحجر كل من يعترض طريقه، فلا مناعة لفاقدي “الهوية”.
رفع ميلان عالياً شعار “التناقض وعدم الجدوى”، مرفوقاً بفكرة التّكرار اللّانهائي للمواقف والتجارب، بحيث تفقد ثقلها، فصورة هتلر وهو طفل تُذكّر الكائن ذا الخفّة بطفولته. رغم فداحة ما ارتكبه هتلر، تبرز ذكرى طفولة الكائن عنده لتكون أهم من ذكرى المجازر. لذا تمثل فكرة “العود الأبدي” أسوأ ما يواجهه الكائن، فيقرّر أن يُسقط الفكرة، بأن تتّخذ كل حركة حرية الجِدّة، ويخفّ الكائن إلى درجة لا تُحتمل. “ليحلق بعيداً وتُصبح حركاته حرّة حتى لو كانت تافهة”. يستعين ميلان هنا بالفيلسوف اليوناني بارميندس الذي كان يرى العالم عبر نماذج من الأضداد. من هنا، يبني ميلان فكرته عن غموض العلاقة الأكثر تناقضاً في نظره (الثقيل -الخفيف)، من بين كل التناقضات. فلا يمكن للإنسان أن يُدرك ما عليه فعله، لأنّه لا يملك إلا حياة واحدة، “لا يسعه مقارنتها بحيوات سابقة، ولا يمكنه إصلاحها في حيوات لاحقة”. كلّ شيء فريد، غامضٌ ومحيّر، هذه هي خلاصة حكمة كونديرا. لذلك، ظلّ أبطاله، وهو نفسه، ضائعين بين التضادّات، مستسلماً لفكرة استحالة التوازن بين الخفّة والثقل، راحلاً وفي إثره عَجاجُ التناقضات، فسبب مصائب العالم هو احتكار الحقيقة التي تروّجها الإيديولوجيات الشمولية، من الشيوعية إلى النازية إلى الرأسمالية نفسها. هل يمكن أن نقول، إذن، إن كونديرا عرّاب النسبية الرّوائية أو الجدلية الرّوائية؟
تعليقات الزوار ( 0 )