ضمن تقليد داعم محفز للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، ما كان بأثر في إغناء خزانة المغرب التاريخية بنصوص بحثية عدة رافعة حول قضايا تاريخ البلاد الوطني خاصة منه المعاصر حيث فترة الحماية. ولعل من النصوص التي توجهت بعنايتها لزمن فاس مستهدفة ما ارتبط بحرف وحرفيي المدينة، من ذاكرة ردود فعل فضلا عن مقاومة وجبهة وفداء الى غاية استقلال البلاد. من هذه النصوص التي يحق الفخر بها لِما طبعها من جدَّة وجهد وبذل وجمع وتوثيق وتحليل ومقارنة وتركيب وأدبيات بحث رصين، ولِما تأسست عليه من أرشيف وطني وأجنبي وببيلوغرافيا ومحاور. ارتأينا بعض الضوء تنويرا وتعريفا وتقاسما وتعميما للفائدة، حول كتاب موسوم ب”المقاومة المغربية للاستعمار الفرنسي دراسة في مقاومة حرفيي فاس 1912- 1955″ لصاحبه الأستاذ الباحث أحمد الأديب. ولعل بقدر ما الكتاب في الأصل أطروحة جامعية في تاريخ المغرب المعاصر، نوقشت برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس تحت اشراف العميد الدكتور سمير بوزويتة، بقدر ما جاءت ضمن نهج مونوغرافي مهد له الرواد الجامعيين المغاربة الباحثين بعد الاستقلال، ويواصل مساره جيل جديد من شباب باحث وعيا بما كان لهذا النهج البحثي من أثر رافع لحقل الدراسات التاريخية حصيلة وتجارب وآفاق استشرافية، ولِما طبع أعماله العلمية من تراكم ومقاربة لقضايا وطنية عدة على مستوى محطاتها ووقائعها وابعادها على صعيد عدد من المدن والبوادي.
هكذا ضمن السياق المونوغرافي في الكتابة التاريخية المغربية، ما استحضره تقديم رفيع المستوى للمندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحري الدكتور مصطفى الكثيري، جاء هذا الإصدار/ الكتاب الذي استهدف حرفيي فاس موضوعا وإشكالا، مبرزا ما كانت عليه هذه الفئة الفاسية من انخراط في حركة المقاومة والتحرير الوطني،- يضيف- وما صنعه هؤلاء الحرفيين من نضالات وملاحم بطولية طبعت ذاكرة فاس الوطني والنضالي إبان فترة الحماية. وقد عرج صاحب المؤلف الأستاذ الأديب في هذا الاطار، على ما طبع المدينة من ازدهار حرفي عبر قرون من الزمن، ومن مكانة حرفيين طبعهم ما طبعهم من عبقرية وابداع مهني، فضلا عن حس فني جمع بين موروث فاس الثقافي والإنساني. تلك التي شهدت حرفها التقليدية وحرفيوها مرحلة مواجهات مع سلطات الإقامة العامة الفرنسية بعد فرض الحماية على البلاد 30 مارس 1912، تلك التي استهدفت اساليبها الاستعمارية ضرب الاقتصاد الوطني الذي كانت حرف فاس عموده الفقري، خدمة لمشروعها الاستعماري الاستئصالي المكرس للهيمنة وللتبعية لاقتصاد الدولة الحامية ومصالحها. على هذا الأساس – يقول المندوب السامي-، أن الباحث أحمد الأديب وهو يضع خطة بحثه ساوره السؤال التالي التركيبي التالي: لماذا تم اختيار أكبر تجمع حرفي بالمغرب على عهد الحماية؟، والمدينة التي انطلقت منها شرارة المقاومة بأيامها الدامية في 17 – 18 و19 أبريل 1912؟ والحاضرة التي بها ظهرت الإرهاصات الأولى لميلاد الحركة الوطنية؟، وكيف انخرطت هذه الشريحة الاجتماعية في العمل الوطني والمقاومة الفدائية؟ ثم إلى أي حد ومدى بلورت أدوارها ومهامها في صنع تاريخ المغرب الحديث؟
إن الذاكرة الوطنية للحرفيين عموما وذاكرة حرفيي فاس تحديدا وفق ما أوضحه الباحث أحمد أديب، هي احدى وجهات زمن المغرب المعاصر التي بحاجة لتوثيق وكتابة ومقاربة من اجل تاريخ وطني بعيدا عما روجته الكتابات الأجنبية من صور نمطية غير دقيقة ولا موضوعية، تلك التي تحدثت عن حرف وحرفيي فاس من زاوية وخلفية استعمارية تعمدت تزييف وطمس الحقائق، فضلا عن التقليل من أهمية ودور هذا القطاع الاقتصادي وحرفييه، مع تبخيس أجهزة وهيآت الصناعة التقليدية ذات الحمولة التاريخية الاسلامية وما ارتبط بها من مقاصد شرعية من قبيل خطة الحسبة ونظام الطوائف الحرفية وغيرها من سبل التدبير والتنظيم، وذلك باعتمادها روايات شفوية مشكوك في صحتها وسلامتها بعيدا عن مصادر ومرجعيات اصيلة. وهذا ما توجهت اليه دراسة الأستاذ أديب التي يسجل لها تمكنها من تشخيص واقع حرفي بفاس بعيدا كل البعد عما هللت له الكتابات الأجنبية، بحيث عرت عن خطورة السياسة القطاعية التي خطط لها ووضع أسسها أركان نظام الحماية في نهج وتكريس سياسة الباب المفتوح، التي سمحت للمصنوعات الأجنبية بالدخول إلى المدينة، وفرض جبايات إضافية مجحفة فوق المكوس المفروض وخلق نواة صناعة عصرية. وهي الأمور والإجراءات التي أثرت سلبا على اوضاع حرفي فاس المادية والمعيشية، ودفعت بالعديد منهم للسقوط في مهاوي الإفلاس والتهميش والإقصاء الاجتماعي، لعجزهم عن مجابهة السياسة الاقتصادية والتجارية الاستعمارية. ما كان بالمقابل حافزا قويا لدخول هؤلاء الحرفيين في حركات احتجاج وتمرد، في وقت كانت فيه الأفكار الوطنية التي تشبع بها الحرفيون والصناع التقليديون بالمدينة في أوجها، فشكلوا وقتها جيشا احتياطيا ودرعا واقيا للحركة الوطنية التي باتت بدورها تعول عليهم في المعارك النضالية التي استوجبها الواجب الوطني.
هكذا كان حرفيو فاس بدور ريادي جعل المدينة قلعة صامدة في مواجهة الوجود الاستعماري، فكانت اسهاماتهم بأثر وازن في كل المحطات النضالية، بدءاً من حركات الاحتجاج التي أعقبت صدور ظهير 16 ماي 1930، بحيث من صفوفهم انطلقت قراءات اللطيف التي أقيمت بمساجد فاس، والتي فيها تصدروا ما جاب المدينة من مظاهرات عبر أزقتها ودروبها، تنديدا بقرار سلطات الإقامة العامة الفرنسية الذي استهدف التفرقة بين عرب وأمازيغ من أبناء وطن واحد موحد. وعليه وفق ما جاء في تقديم المندوب السامي، أعطى حرفيو فاس درسا قويا معبرا في الوطنية عندما احتفلوا بأول عيد للعرش في 18 نونبر 1933، مع ما رافق الحدث من حيث مهرجانات احتفالية بالمناسبة، فنصبوا أقواس النصر وصور الملك محمد بن يوسف في والأسواق والأحياء الحرفية. فضلا عن مبادرتهم النضالية التي تجلت في استقبالهم المتميز الذي خصصوه لجلالته يوم 8 ماي 1934 عند زيارته لفاس، بحيث كانوا سباقين لترديد شعار: “يحيى الملك، يحيى المغرب” لأول مرة، وهو ما أغضب سلطات الإقامة العامة الفرنسية التي تدخلت تعسفا وشططا في برنامج هذه الزيارة فحالت دون إتمامها.
ولم يفت الباحث أحمد االأديب الإشارة إلى تجدد دور الحرفيين الريادي في مظاهرات فاس شهر نونبر 1936 وأكتوبر1937، وبخاصة في احداث الانتفاضة الشعبية الدامية ليوم 31 يناير 1944 والتي سقط خلالها عدد منهم شهداء فداء للوطن. مبرزا ما كوا عليه من انخراط تلقائي واسع في العمل الفدائي والمقاومة المسلحة السرية بعد نفي السلطان محمد بن يوسف، إذ شكلوا قطب رحى كل المنظمات الفدائية فكان منهم القادة والمسيرون ورؤساء الخلايا والمقاومون المنفذون للعمليات الفدائية والموزعون للمناشير والمشرفون على الإسعافات، بل كان مصير العديد منهم الاعتقال والمعاناة من شتى أنواع التعذيب والتنكيل من قبل جهاز القمع الاستعماري، ونال البعض منهم اقسى العقوبات الحبسية والأحكام الجائرة التي بلغت حد الإعدام الذي نفذ في حق الشباب الوطني والمقاومين الذين شكلوا قافلة شهداء السجن الفلاحي العادر، وهم محمد بن الراضي السلاوي وعبد العالي بنشقرون وعبد العزيز بنشقرون ومحمد الحياني وعبد الله الشفشاوني وحرفتهم خرازون وعلال الوديي الذي كان يمتهن الدرازة بفاس.
إن ما طبع كتاب الأستاذ ألأديب من ترابط محتويات وتناسق فصول ثلاثة بمحاور عدة، توزعت على أثر التدخل الاستعماري على حرف وحرفي فاس، الطوائف الحرفية وأثر التدخل الاستعماري على على نظامها الداخلي، السياسة الاستعمارية وحرف فاس، دور حرفي فاس في النضال الوطني، حرفيو فاس والظهير البربري، اسهام حرفي فاس في رد الاعتبار للمؤسسة السلطانية، حرفيو فاس وأحداث أواخر يناير 1944، ثم اسهام حرفي فاس في التنظيمات الفدائية والمقاومة السرية 1953- 1955. محاور جعلت الكتاب حافلا بصور عطاءات حرفيي فاس وما اسدوه من تضحيات ضمن الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة بالمدينة. متفوقا – يقول المندوب السامي- في توليف وتوظيف أحداث تاريخية لم يسبق التدقيق فيها والتطرق لبعض تفاصيلها، معتمدا مصادر ومراجع ووثائق تاريخية متنوعة جمعت بين مخطوطات وإصدارات وكتابات وقصاصات جرائد وشهادات حية لفاعلين من قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وصناع تقليديين، مقدما في عمله البحثي سفرا وازنا متكاملا ينضح بما وسعه من مدارك ومعارف قيمة حول معترك ومشهد مقاومة وفداء حرفيي فاس. منوها بعمله البحثي الرصين الذي اغنى به الخزانة الوطنية معززا رصيدها من الإصدارات والمؤلفات التي جادت بها قرائـح دارسين وباحثين تناولوا تاريخ مدينة فاس ومساراته ومنعطفاته إبان فترة الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال.
يبقى أنه بقدر ما يطرح من سؤال يخص واقع نشر وتداول وقراءة واستثمار أعمال البحث العلمي ومنه الأبحاث والدراسات التاريخية المغربية، بقدر ما يصعب القفز عما هناك من فضل مؤسسات جعلت حيزا معبرا من هذه الأخيرة رهن اشارة القراء باحثين منهم ومهتمين، مثلما يحسب للمندوبية السامية لقدماء المقاومين واعضاء جيش التحرير من اسهام وتحفيز على مستوى النشر، وهو ما سمح بإخراج نصوص/ مؤلفات بالمئات في الأصل أبحاث أكاديمية. ولعلها بتقليدها الرافع لتلاقح تجارب البحث، استهدفت ولا تزال تحفيز الدارسين لتاريخ المغرب الوطني، من اجل مزيد من التنقيب والتوثيق والأرشيف خدمة وصيانة لذاكرة المغرب والمغاربة الجماعية.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث
تعليقات الزوار ( 0 )