Share
  • Link copied

من مظاهر التدين المغربي (7)

الاختيارات العقدية (1)

عرف المجتمع المغربي في المرحلة الأولى من العصر الإسلامي تعددا مذهبيا، حيث نجد الخوارج والشيعة وغيرهما، ولعل مرحلة المولى إدريس تميزت بتشيع لآل البيت وبميول نحو المذهب الزيدي، ومما يعضد هذا الاحتمال ويقويه وجود بعض المسكوكات النقدية الإدريسية التي تتضمن عبارة (لا إله إلا الله/ محمد رسول الله/ علي)، إضافة إلى أمرين اثنين، أولهما: كان الأدارسة يُذكرون في كتب الملل والنحل ضمن الشيعة، قال أبو الحسن الأشعري: “التشيع غالب على أهل قم، وبلاد إدريس بن إدريس، وهي طنجة وما والاها، والكوفة”. ثانيهما: كان الزيدية يترجمون للمولى إدريس ونجله في كتب طبقاتهم، وهذا اعتراف منهم بزيديتهما.

بعد هذه المرحلة، عمل المرابطون على ترسيم المذهب المالكي، وجعلوه الأساس الإيديولوجي لتوحيد البلاد، وتركوا الناس أحرارا في جانب الاختيارات العقدية ولم يلزموهم بمذهب من مذاهبها.

بتتبع الحركة الدينية في المغرب بعدوتيه، منذ ما قبل المرابطين، نجد المجتمع؛ علماء وسلاطين وعامة؛ ميالا إلى الاختيارات العقدية البعيدة عن الإشكالات المعقربة، فلم يعرف مثلا نقاشا وصراعا حول قضايا عقدية بعينها، مثل النقاش الذي أثير بالمشرق حول خلق القرآن وما ترتب عنه من محن وإحن.

يكاد ينحصر جانب الإيمان في الأندلس على النصوص القرآنية والحديثية، مع التفويض في مبحث الصفات الإلهية، والنأي بالنفس عن آفة التجسيم والتشبيه امتثالا للقاعدة القرآنية الكلية: “ليس كمثله شيء”، وقد حكى ابن عبد البر (ت:463هـ) عن أهل العلم أنهم “يكرهون الخوض في مثل هذا وشبهه من التشبيه كله، في الرضا والغضب، وما كان مثله من صفات المخلوقين”، وقال أيضا تعليقا على حديث نزول الله تعالى إلى سماء الدنيا: “أكثرَ الناسُ التنازع فيه، والذي عليه جمهور أهل السنة أنهم يقولون ينزل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصدقون بهذا الحديث ولا يكيفون، والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجة في ذلك واحدة”.

من خلال هذين النصين، تتبين لنا المبادئ الأساس في التعامل مع نصوص الصفات الإلهية، وهي البعد عن تشبيه الله بخلقه أولا، والتفويض والتسليم دون الخوض في الكيف ثانيا.

لكن تبني قدماء الأندلسيين لهذين المبدأين لم يكن بنفس الدرجة، حيث نجدهم يتعاملون بتشدد وصرامة مع المبدأ الأول (عدم التشبيه)، لأن التهاون فيه سيؤدي لا محالة إلى محظور مخالفة الكلية القرآنية: “ليس كمثله شيء”، لذلك نبذوا أصحابه ولم يعدوهم ضمن أهل السنة. أما المبدأ الثاني المتمثل في التفويض، فتعاملوا معه بنوع من المرونة، ولم ينبذوا أصحابه، بل انفتحوا عليهم واعتبروهم من أهل السنة، وقد ذكر ابن عبد البر في تتمة حديثه السابق عن مسألة نزول الله تعالى: “قال قوم من أهل الأثر: إنه ينزل أمره وتنزل رحمته”، وهذا تأويل للنزول وليس تفويضا، ويكفي أن نقف عند تحليته لأصحاب هذا القول بكونهم: “قوم من أهل الأثر”، وهذه عبارة ثناء، ولم يصفهم ببدعة ولم يثلبهم بفسق ولم ينبذهم نبذ النواة.

عرفت فترة ابن عبد البر حضور البواكير الأولى للفكر الأشعري بالأندلس، ويكفي أن نرصد حضور ابن فورك في تراث ابن بطال القرطبي (ت:449هـ)، أو بعض تأويلاته في الصفات التي طرز بها شرحه للجامع الصحيح، لندرك أن ابن عبد البر كان يقصد أمثاله من المتأثرين بهذا الفكر، وأنه يعكس روح التعايش معه دون تعصب أو إزراء أو تنقيص، وهذا ما ميز المغرب عن المشرق الذي عرف تيارا حنبليا منحرفا ومتشددا، عانى منه كبار رموز الأمة كالطبري وغيره.

وما يزيد الأمر وضوحا، أن الأندلسيين يعتبرون مؤولة الأشاعرة من أهل السنة، ولا يتعاملون معهم على اعتبار أنهم مبتدعة كما كان صنيع بعض حنابلة المشرق، قال ابن بطال أثناء الحديث عن صبر الله: “وتأوله أهل السنة على تأويل الحِلم، هذا قول ابن فورك”.

هكذا يقبل ابن بطال تأويل ابن فورك، ويعتبره تأويلا لأهل السنة، وفي نفس العصر، نجد في المشرق عبيد الله السجزي المتوفى بمكة سنة 444هـ يصرح بأن ابن فورك وأصحابه مخالفون للحق، وأن المعتزلة أقل ضررا على المسلمين منهم.

من خلال هذه المقارنة البسيطة، نلمس فضل علماء المغرب المتقدمين الذين لم يميلوا إلى تجريح المخالف والتنقيص منه أو تبديعه، بل كانوا يتبنون المنهج وخلافه، ليبينوا للعامة تعدد الصواب وعدم احتكاره في منهج دون سواه أو مسلك دون آخر.

وقفات مع فتوى ابن رشد الجد:

هذا الانفتاح والتعايش وعدم التعصب سنجده لاحقا مع أحد المراجع العلمية في المغرب بعدوتيه، وهو أبو الوليد ابن رشد الجد (ت:520هـ)، الذي يعدّ من مشاهير علماء ذلك العصر المتبنين لمنهج متقدمي السلف غير الميّالين إلى التأويل، يتبدى ذلك أثناء حديثه عن صفات الوجه واليدين والعينين، حيث قرر وجوب “اعتقاد ذلك والإيمان به من غير تكييف ولا تحديد”، ثم ذكر تأويل كثير من الشيوخ للوجه بالذات، وللعينين بإدراك المرئيات، ولليدين بالنعمتين، وعلق على هذا التأويل بقوله: “والصواب قول المحققين الذين أثبتوها صفات لذاته تعالى”.

ورغم رفضه لمنهج التأويل، فإنه لم ينتقص مؤولة الأشاعرة ولم ينبذ مذهبهم، بل أثنى على أعلامهم في فتواه الشهيرة التي أجاب بها سائله الذي لم يكن سوى أمير المسلمين بمراكش.

وجه الأمير المرابطي سؤالا إلى ابن رشد الجد حول شخصيات أشعرية بعينها، مثل أبي الحسن الأشعري وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر الباقلاني وأبي بكر بن فورك وأبي المعالي الجويني من منتحلي علم الكلام والمتكلمين في أصول الدين، هل هم “أئمة رشاد وهداية؟ أم هم قادة حيرة وعماية؟”، كما سأله عن مخالفيهم الذين يسبونهم وينتقصونهم ويسبون كل المنتسبين إلى الأشعرية ويعلنون تكفيرهم والبراءة منهم، ويعلنون تضليلهم.

فأجاب أبو الوليد ابن رشد الجد أميرَ المسلمين بجواب نثر فيه أريج الثناء على رموز الأشعرية الذين اعتبرهم “أئمة خير وهدى، وممن يجب بهم الاقتدا”، والسبب في ذلك أنهم “قاموا بنصر الشريعة، وأبطلوا شبه أهل الزيغ والضلالة، وأوضحوا المشكلات، وبينوا ما يجب أن يدان به من المعتقدات”، وأنهم العلماء على الحقيقة، لأن معارفهم وأبحاثهم تنصب على “علمهم بالله عز وجل وما يجب له وما يجوز عليه وما ينتفي عنه”، وفضّلهم على الفقهاء المختصين في الفروع، لأنها لا تُعلم “إلا بعد معرفة الأصول”، لذلك رأى وجوب الاعتراف بفضائلهم والإقرار بسوابقهم في خدمة العقيدة، أما مضللهم والمنتقص من أقدارهم ففاسق أو “مبتدع زائغ عن الحق مائل”، يجب تبصيره بفضائلهم، وإلا استحق العقاب.

هذا السؤال والجواب يقدم لنا صورة عن المجتمع إبانئذ، ومن أهم الملامح التي نتوقف عندها:

أولا: نرصد من خلال السؤال أن الانحراف قد ظهر مبكرا في البيئة المغربية، وذلك من خلال الاعتقاد بأن الصواب منحصرٌ ضرورةً في منهج وحيد لا ثاني له، مع ما صاحب ذلك من التكفير والتضليل والسب والتنقيص الذي طفا في المجتمع تجاه ثلة من خيرة العلماء الذابين عن الدين.

ثانيا: لعل هذا الانحراف ظهر في أوساط العامة وأشباههم، لأننا لم نجد في فترة ابن رشد ومن قبله من العلماء من يتبنى هذا التعصب، وقد أثبتنا ما يخالف ذلك من خلال نصوص ابن عبد البر وابن بطال وغيرهما.

ثالثا: حين تحدث ابن رشد عن العلماء الأشعرية، وأثنى عليهم من جهة “نصرة الشريعة”، و”إبطال شبه أهل الزيغ والضلالة”، و”توضيح المشكلات”، فإنه هنا يثني بالضرورة على علم الكلام الذي تسلحوا به، وهذا الثناء له مكانته ورمزيته، لأنه صادر عن فقيه، بل عن شيخ فقهاء وقته، ولنا أن نقارنه بمتشددي حنابلة المشرق، سواء مَن قبلَه كأبي إسماعيل الهروي (ت:481هـ) صاحب كتاب ذم الكلام وأهله، أو مَن بعدَه كموفق الدين ابن قدامة (ت:620هـ) صاحب كتاب تحريم النظر في كتب الكلام.

رابعا: لابن رشد الجد رمزية كبرى في الدولة المرابطية، وفتاواه كانت معتمدة من قبل الأمير، وبما أنه لا يعتمد التأويل ولا يميل إليه، كان بإمكانه أن يصدر فتوى ضد العلماء المذكورين في السؤال ومنهجهم، ولو أفتى بذلك لكان مصير كتبهم كمصير كتاب إحياء علوم الدين لا محالة، لكنه؛ وبما أوتي من العلم والحكمة والرزانة؛ أثنى عليهم وعلى علومهم، وبيّن أنه وإن كان مخالفا لهم، فإنه يؤمن بتعدد المسالك والرؤى، وأن الصواب لا ينحصر في مقاربة دون سواها، وهو بهذه الفتوى جنّب المجتمع مجموعة من الانحرافات التي نبتت على الهامش، ولعله عمل بفتواه على حماية المجتمع وصيانته من فتن وصراعات كان المشرق آنذاك ساحة لها، وقد ذهب ضحيتها هناك كثير من العلماء والعامة.

Share
  • Link copied
المقال التالي