من السذاجة التسليم بـ”المصادفات” المحضة في دهاليز السياسة وملحقاتها.
فربما يبادر البعض لإشهار بطاقة “نظرية المؤامرة”، في وجه كل من يطرح أسئلة من “خارج” الصندوق، أو ينتقد التسليم بـ”الصدفة” في زمن كل شيء فيه محسوب بالنقطة والفاصلة، لكن الواقع في النهاية ينتصر لأنه لا يرتفع فقط بناء على تحليلات تفترض في المخاطب المتلقي سذاجة مطلقة.
أكتفي بمثالين اثنين، أحدهما خارجي والثاني داخلي، للبرهنة على أن “التفسير التآمري” للأحداث والوقائع، أمر له ما يبرره.
بالنسبة للنموذج الخارجي، يمكن أن نتوقف عند العدوان الأخير على غزة، حيث لاحظنا أن بعض الأصوات النشاز، التي لا تمثل حتى أقلية الأقلية، سارعت إلى قرع الطبول، والإكثار من الضجيج دعما للكيان وطعنا في المقاومة، بشكل أوحى للمتابع الأجنبي بأنها تتكلم باسم تيار عريض يخترق الشارع المغربي، والحال أن الأمر لا يتعلق سوى ببضعة أصوات لها سوابقها في معاكسة توجهات الشعب المغربي.
إن مراجعة بسيطة للائحة هذه الأسماء، تكشف أنها حاضرة دائما كلما تعلق الأمر بمعاداة الإسلام أو اللغة العربية أو غيرهما من مقومات الهوية الوطنية، وبالتالي فالقول بأن اصطفاها إلى جانب الكيان الصهيوني هو مجرد “صدفة” أمر يحتاج تصديقه إلى قدر هائل من السذاجة.
إن انتظام هذه الأصوات في عزف لحن موحد، لا يترك مجالا للشك في أن قائد الأوركسترا واحد، وأن مصلحته توافقت مع أهواء هذا “الشتات”، لعزف “سمفونية” نشاز، حتى في الوقت الذي تغير فيه موقف الرأي العام الغربي من جرائم الكيان التي كانت تحظى دائما بـ”التفهم”.
ألا تتحدث اليوم وسائل الإعلام الأمريكية عن الغليان الداخلي الذي تعرفه إدارة بايدن؟ ألا تؤكد كثير من التحليلات بأن الموقف الممالئ للكيان، قد يتسبب في هزيمة انتخابية مدوية للرئيس الحالي الذي قد يخسر ليس فقط أصوات الناخبين العرب والمسلمين، بل أصوات الشباب وكثير من مكونات “السيار” الديموقراطي؟
فكيف نفسر هذا التناقض الصارخ، بين عودة الغرب الداعم تاريخيا لجرائم إسرائيل، إلى جادة الصواب، مقابل مجاهرة “مغاربة” بدعم هذه الجرائم ومباركتها؟
الأكيد أننا لو كنا نعيش في سنة 1923، لا في 2023، لكان هؤلاء في مقدمة “البياعة” الذين خدموا الاحتلال الفرنسي..
أما المثال الداخلي، فيتعلق بأزمة النظام الأساسي لموظفي التعليم.
وهنا أيضا لا يتطلب الأمر ذكاء خارقا لتتبع خيوط “مؤامرة” ما، لا يمكن التغطية عليها بإثارة الضجيج حول أشياء هامشية بدل التركيز على الجوهر.
فالمعروف أن الإقدام على خطوة “تنظيمية” من هذا النوع، مسبوق حتما بالاطلاع على التقارير الأمنية، التي لا يشك أحد في أنها “توقعت” ما نشاهده اليوم من إضرابات واضطرابات يؤدي ثمنها في النهاية “أولاد الشعب” الذي تم تفقيره…
فهل يمكن لعاقل أن يصدق أن الحكومة أقدمت على خطوة تدرك أنها ستؤدي إلى شل المدرسة العمومية طيلة أسابيع، دون أن تأخذ علما بالانعكاسات “الأمنية” لهذه الخطوة؟
وهل يقبل العقل أن الحكومة اعتقدت أن “توافقها” مع نقابات لا تمثل أحدا في الواقع، كفيل بتمرير نظام أساسي لم يتم التشاور بشأنه، فأحرى التوافق، مع المعنيين به؟
نستطيع الجزم دون تردد بأن الهدف الحقيقي من هذا “القرار” هو تأكيد ما صار مؤكدا، من أن هناك حربا حقيقية تخاض ضد التعليم العمومي.
نقول هذا جازمين، لأنه طيلة السنوات القليلة الماضية تراكمت عدة مؤشرات كلها تصب في هذا الاتجاه، أي السعي لتدمير ما تبقى من مصداقية للمدرسة العمومية.
وعلى من يرفض هذه الخلاصة أن يقنعنا بأن كل الإجراءات التي تم اتخاذها منذ تدشين “بدعة” التعاقد كانت مجرد “اجتهادات بشرية” محكومة بـ”حسن النية” يجوز فيها الخطأ والصواب.
وعلى كل، ستبدي الأيام الحقيقة عارية أمام المكابرين.. ويكفي أن نتوقف عند مؤشر وحيد يتمثل في المدة الطويلة جدا التي استغرقتها الحكومة لتجميد “نظامها الأساسي”، والتي تغطي أكثر من نصف الدورة الأولى، التي يستحيل استدراكها في ما تبقى من أسابيع.
فهل هناك أي مبرر “منطقي” يمكن أن يفسر لامبالاة الحكومة بهدر الزمن المدرسي بهذا الشكل، لولا أن الأمر صادف هوى لديها؟ ولماذا لم تتدخل أية لجهة لإعادة الأمور إلى نصابها في وقت مبكر، خاصة وأن الأمر يتعلق بملايين المغاربة وليس بفئة محصورة عدديا؟ وهل يقبل عقل أن الوزير بن موسى قرر خوض هذه “المعركة” منفردا، دون مباركة من الحكومة وما جاورها؟
وهل تخدم هذه الأزمة “المفتعلة” مشاريع “إصلاح التعليم” التي تمخضت فقط عن “إصلاح” الأحوال المادية لكثير من المشرفين عليها، ممن لا تتم حتى الإشارة إلى أسمائهم رغم ارتباطها بهدر المال العام كما حدث مع “البرنامج الاستعجالي” سيء الذكر؟
وأختم بصورة تلخص حال المغرب في هذا الزمن الرديء..
فقد كشفت فضيحة القطاع الصحي التي تفجرت مؤخرا بمدينة تازة أن “العصابة” التي يقودها مدير المستشفى الإقليمي كانت تسرق حتى الأواني لبيعها إلى المصحات الخاصة..
هذا هو العنوان الرئيسي للمغرب في عهده الحالي.. المال العام مستباح.. والمرافق العامة خارج التغطية.. ودولة المقاولات واقع لا يرتفع..
ومع ذلك، هناك من يرفع شعار “تازة قبل غزة”.. لكن هل نعزي غزة أم نعزي تازة؟
تعليقات الزوار ( 0 )