هو آلة فلكية أطلق عليها العرب قديما اسم”ذات الصفائح”، يظهر كيف تبدو السماء في مكان محدد ووقت محدد من خلال ثنائية بعده للقبة السماوية. وقد رسمت السماء على وجهه حيث يسهل ايجاد مواضع سماوية عليه، علما أن منه من هو بحجم صغير وآخر ضخم بأمتار عدة في قطره. يسجل عنه أنه كان حاسبا فلكيا في زمنه مساعدا على حل ما كان من مسائل في علاقة بأماكن أجرام سماوية، من شمس ووقت وتوقيت وغيره. بل كانت هذه الآلة بمثابة ساعة جيب لعلماء فلك العصر الوسيط، الذين تمكنوا بواسطته من قياس ارتفاع الشمس في السماء ومن ثمة تقدير الوقت في النهار والليل، فضلا عن تحديد وقت بزوغ الشمس مثلا. علما أنها كانت ايضا بجداول مطبوعة عليها مكنت من كل هذه الحسابات، وقد كانت بمعلومات عن منحنيات محولة للوقت.
ذلكم هو الاسطرلاب الاسم الذي بأصل يونانيّ astron أي كوكب، والذي كان الفلكيون القدماء يعرفون حركة الكواكب ويعينون ما هناك من موضع ويقيسون ما هناك من ارتفاع بواسطته. وبقدر ما لا يوجد أي شيء عن أصل مخترعه في المصادر، بقدر ما ورد أن “الفزاري” الذي توفي أواخر القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، هو أول من صنع في التاريخ الاسلامي إسطرلابًا مسطحًا قبل تطويره من قبل علماء عرب، بحيث جعله “السجزي” المتوفي خلال القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي زورقًا بقُطبين بدلاً من قطب واحد، كما طورهُ البيروني والزرقالي المتوفي خلال نفس الفترة من العصر الوسيط وقد استخدم في قياس الزوايا والارتفاعات. وكان علماء الفلك المسلمون قد طوروا الأسطرلاب لأهميته في تحديد أوقات الصلاة واتجاه القبلة، ليظل معتمدا لهذا الغرض حتى مطلع القرن التاسع عشر الميلادي. وفضلا عما أسهم به اليونانيون القدماء وما كتبوه عن هذه الآلة، يسجل للعرب انهم طوروه وأضافوا الكثير حوله حوله للمعرفة الإنسانية.
وكان الأسطرلاب بدور في الملاحة العربية، لتعيين زوايا ارتفاع الاجرام السماوية بالنسبة للأفق في أي مكان لحساب الوقت والبعد عن خط الاستواء. علما أن هذه الآلة تتكون من قطع عدة منها العنكبوت وهي قطعة كانت تمثل مدار الشمس، ثم الصفيحة وهي القطعة التي كانت توضع عليها دوائر ارتفاع وسموت ومواقيت الصلاة وغيرها، وهناك قطعة اخرى ايضا تسمى”الام”، بحيث تقسم الدائرة لدرجات لتعيين زوايا ارتفاع النجم أو الشمس لتحديد موقعه. وجدير بالاشارة الى أن الأسطرلاب آلة لم تكن تُستخدم لتعيين الارتفاعات الخاصّة في الأجرام السماويّة فقط، بل استُخدمت لتحديد الوقت والاتجاهات المتنوعة ايضا وكذا رصد المسافات بين الكواكب وتحديد المواقع الخاصة بها. وبقدر ما كان أداة لتطبيق القياسات الفلكية والملاحة مثل قياس قيمة خطوط العرض، بقدر ما اعتبر وَسيلة للحصولِ على ارتفاعات النجوم أو الشمس وتقديم الحلول للعَديد من القضايا الخاصة في علم الفلك. ومن هنا ما كان لهذه الآلة من دور في تطور المُجتمعات، بحيث ظهرت أهميتها في عدد من الاستخدامات منها تحديد اتجاه القِبلة، إذ كان من الصعب مَعرفة جهتها بدقة مع اتساع مجال البلاد الاسلامية. لذلك كان الأسطرلاب من الأدوات الدقيقة المُستخدمة في ضبط اتجاه القِبلة، وتَحديد مواعيد الصلوات والأوقات الخاصّة بالزكاة ومَعرفة أشهر الحج، كما استُخدم في تحديد مواعيد بدايات ونهايات الشّهور العربية، خاصة منها شهر رمضان الذي يَحتاج تَحديده للدقة من أجل معرفة بدايته ونهايته. فضلا عن دور الاسطرلاب ايضا في مساعدة الملاحة البحريّة الى غاية القرن الثامن عشر الميلادي، قبل التخلي عنه بعد اكتشاف الاروبيين لآلات الرصد والتليسكوب. ويسجل الباحثون ما هناك من تباين في تصميم وصناعة أنواع الاسطرلاب، سواء المصنوع منه ببلاد المشرق أو الذي يخص بلاد الغرب الاسلامي، بما فيها الأندلس التي وصل اليها الأسطرلاب على يد المسلمين لينتقل لأوربا، علما أنه لم يشهد انتشارا بها إلّا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلادي.
وعن آلة الاسطرلاب الفلكية العجيبة، من الحكاية ما يقول بأن من اخترعها خلال القرن العاشر الميلادي عالمة فلك عرفت ب”مريم الإسطرلابي” السورية الأصل، والتي لا تذكر المصادر عنها أي شيء، وأن باختراعها هذا شهدت الحضارة البشرية نقلة نوعية. وأن هذه العالمة عاشت خلال القرن العاشر الميلادي والذي يعد العصر الذهبي للعلوم الإسلامية. والحكاية هذه تضيف أن والدها كان واحدا من أهم علماء الفلك آنذاك، شارحا لجداول فلكية حسابية عدة، واضعا قوانين لحركة الكواكب والتي تعرف بها على تواريخ الشهور والأيام وهو ما مكنه من صناعة الآلات الفلكية. هكذا تعلمت مريم من ابيها وتدرجت في العلوم من رياضيات وهندسة وفلك. وتذكر الحكاية أنها بنبوغها العلمي اشتغلت في مجال العلوم الفضائية ببلاط سيف الدولة الحمداني مؤسس إمارة حلب. هكذا وبقليل من التأمل مثلا في نظام التموضع العالمي الحديث الذي يعرف ب”GPS”، يتبين أننا أمام معجزة تكنولوجية صنعها البشر، نظر لما هناك من درجة تعقيد تكتنف طريقة عمله وقيمته في حياة الانسان اليوم. وسواء نظام GPS أول عمل البوصلة أو الأقمار الصناعية، فهي مستمدة من آلة قديمة هي الإسطرلاب، هذه الآلة الفلكية القديمة الدقيقة، المصورة عليها حركة النجوم في السماء وحول القطب السماوي.
وعن هذه الآلة الفلكية العجيبة في علاقتها بتازة وذاكرتها الرمزية ومن تحف المدينة النادرة الشاهدة على عظمتها، يحتفظ متحف تاريخ العلوم بمدينة أكسفورد الانجليزية بأسطرلاب يحمل رقم قطره 21,9 سم بحسب ما أورده باحثون مهتمون. وقد صنع من النحاس الأصفر بمدينة تازة خلال القرن الرابع عشر الميلادي تحديدا سنة 1327م، وفق ما هو مكتوب على نقيشة في ظهره تشير لإسم صانعه “علي بن ابراهيم الحرار التازي” خلال القرن الثامن الهجري سنة 728هـ “. ولعل هذا النابغة المغربي الذي كان مؤذنا بجامع تازة الأعظم السلطاني، كان بتكوين علمي وديني وفقهي رصين. فضلا عن معرفة بعلوم عقلية من قبيل التوقيت لضبط مواقيت الصلاة انسجاما مع طبيعة مهمته. بل لا شك أنه كان بإلمام بعلم الحساب والجبر والفلك، ولعل ما يظهر جليا ويشهد على تضلعه فيها أسطرلابه العجيب. هذا إن لم يكن بمعرفة بعلم الكيمياء وخواص المعادن ليصنع بنفسه هذه الآلة الفلكية المتفردة، والتي تعد نموذجا متطورا لأسطرلاب الصفيحة الشاملة التي تعرف أيضا ب”اللوح الزرقالي” التي ظهرت على يد ابن الزرقالي، لتفادي تعدد صفائح الأسطرلاب بإسقاط الكرة_السماوية كاملة على دائرة_السمت، عوض صنع صفيحة لكل خط عرض، وهو ما كان يثقل الأسطرلاب ويزيد من حجمه وثمنه. وهذا الأسطرلاب التازي يزدان ايضا بعنكبوت مقسم إلى نصفين: النصف الأول يبين مواقع النجوم وتمثل دائرتها الخارجية خط_الاستواء، أما النصف الثاني فهو يحتوي على الإسقاطات المخروطية المعروفة. ونتيجة تقاطع هذين القسمين، فإن العنكبوت صار يمثل على هذا الأسطرلاب خط الاستواء، على عكس العنكبوت التقليدي الذي يمثل مدار الجدي عادة. على ظهر هذه القطعة، هناك اضافة لاسم الصانع، سلم تقويم البروج ومخطط بياني للساعات المستوية والجيوب وجيوب التمام ومربع الظلال وسلم الدرجات العادي. ومن ندرة هذا الأسطرلاب المغربية، أنه لا يوجد له سوى مثيل وحيد بمتحف_بيناكي بأثينا، يحمل توقيع أحمد_بن_سراج صنع في حلب سنة 1329 م. ولعل معاصرة هذين الفلكيين الحلبي السوري ثم التازي المغربي، يجعل عملهما الفلكي يمثل ما كان هناك من تقارب علمي وصلات بين بلاد المشرق والغرب الاسلامي.
هكذا كانت تازة بما كانت عليه من عناية بالعلوم في كل تجلياتها، ومنها علم الفلك منذ العصر الوسيط حتى مطلع القرن الماضي، بحيث يسجل ما كان لأسر تازية أصيلة من اهتمام به ومن ثمة من أسماء علماء، نذكر منها الفقيه الفلكي محمد الخصاصي الذي من مخطوطاته عن أرشيف المغرب نذكر” تحفة الألباب في استخراج حصص الأوقات بعلم الحساب”، ويشتمل على منظومة في سبل استخراج الأوقات وقد شرحها بنفسه، ومما جاء في آخر شرحه هذا “وكان الفراغ من تبييضه عشية يوم الخميس تاسع شعبان عام سبعة وعشرين وثلاثمائة وألف. وله ايضا مخطوط ثان موسوم ب”العطر المطيب في استخراج الأوقات من الربع المجيب”، وقد جاء في آخره” إني فرغت من تبييضه يوم الثلاثاء سادس شعبان عام ستة عشر وثلاثمائة وألف”. الى هذا الزمن الممتد منذ العصر الوسيط وعبر هذا التلاقح والنبوغ العلمي في هذا المجال، يعود استطرلاب تازة تحديدا اسطرلاب”علي بن ابراهيم الحرار التازي” النادر والعجيب الصنعة. أين وكيف اختفت هذه التحفة التي كانت تؤثث جمال مكان وعظمة خزانةٍ علمية وروحَ توقيت وشموخَ جامع أعظم،؟ وهل حقا ظل اسطرلاب”علي بن ابراهيم الحرار التازي” موجودا بهذه المعلمة الأثرية الروحية، فضلا عما كان بها من مخطوطات نادرة حتى مطلع القرن الماضي، قبل احتلال المدينة من قبل القوات الفرنسية، ومن هنا قد يكون حصل ما حصل شأنه في ذاك شأن عدد من التحف الرمزية الأخرى؟. بعض فقط من اشارات واسئلة ذات صلة بروح تازة وتراثها المادي واللامادي النفيس، الذي تقتضي العناية والحماية حفظا لما تبقى منه حتى لا يطوينه النسيان والاهمال وينتهى لِما انتهى اليه اسطرلاب “علي بن ابراهيم الحرار التازي”. هذه التحفة العجيبة الصنع التي كانت موضوع دراسة دقيقة لأحد أبناء تازة الباحثين المتمكنين المهتمين بتراث المدينة والمغرب والانسانية، الأستاذ محمد حيلوط القاطن بفرنسا والذي أنجز عملا علميا تقنيا رفيع المستوى حول هذه الألة الفلكية، وضمنه خصوصية وميزة وهندسة وتصميم وتفرد اسطرلاب”علي بن ابراهيم الحرار التازي”، وهو العمل والجهد والالتفات الذي يثمنه كل غيور على تراث البلاد المادي واللامادي.
*عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث
تعليقات الزوار ( 0 )