شارك المقال
  • تم النسخ

من بلاغة الكلام إلى بلاغة الطعام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي

لا يمكن إنكار التداخل القائم بين الكلام والطعام في الحضارة الإنسانية لأسباب متعددة، أبرزها أن كلا منهما يلتقي في فم الإنسان ضمانا للحياة؛ فالطعام يمنحه القوة ليحيا جسديا، والكلام هو مؤنسه من الوحشة، والضامن لبقائه متواصلا مع غيره. كما أن التفاعل بين الطعام والكلام لا ينحصر في إشباع الحاجة البشرية، بل يتعداها إلى تحقيق “الدفء الإنساني بمعانيه المختلفة في الحضارات البشرية المتعددة؛ لأن الطعام ليس مادة قصاراها أن تهضم، ولكنها مادة تسعى إلى أن تتكلّم، كما لا ينحصر دورها في بناء الذات، وإنما يمتد إلى بناء الحياة”.

ونتيجة لذلك، هاجرت مصطلحات حقل الطعام إلى حقل الكلام، فبرزت عبارات من قبيل: (تذوق الكلام)، و(كلام حلو)، و(فتح شهية القراءة)… وفي المقابل صار الطعام مصدر إبداع نتيجة التفنن في إعداد الأطباق وفق نظام خاص من شأنه أن يُحدث في نفْس الطاعِم صنيع الكلام البليغ في نفسية المتلقي، فظهرت (أطباق رومانسية) وأطباق (تحمل حكاية) وأخرى (شاعرية)…

ولم يتوقف التداخل بين الطعام والكلام عند حدود هجرة المصطلحات، بل أصبح كل منهما مؤثرا في الآخر؛ فصار الطعام دافعا على الإبداع الأدبي، بما يوفره من مواضيع محفزة على “إنتاج مأدبة كلامية دالة على خصوبة التخييل والتجريد والابتداع”، ولنا في “المقامة المضيرية” لبديع الزمان الهمذاني خير مثال، ففيها اجتمعت المأدبة الطعامية بالمأدبة الكلامية، فغدا موضوع الطعام حافزا على الكلام البليغ، ومصدرا للتعبير عن أحوال الذات تجاه “المضيرة”، وكيف كانت هذه الذات في بداية المقامة راغبة فيها ومتعلقة بها، إلى أن صارت في النهاية راغبة عنها ماقِتة لها.

كما أخذ الطعام من الكلام بعض صفاته وبخاصة حين يكون هذا الكلام بليغا مؤثرا في النفوس، فيصير الطعام المقدَّم في المناسبات “منزاحا” عن المعيار المألوف عند الناس في الأيام المعتادة، ويأخذ الطباخون المحترفون في التفنن عند إعداد أطباقهم وفق “نظام خاص”، فينقحونها ويشذبونها مستحضرين في ذلك الطاعِم وما سيُحدِثه الطبق في نفسه من أثر شبيه بأثر الكلام البليغ في نفسية المتلقي.

في هذا السياق، صدر كتاب: “الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي” للدكتور سعيد العوادي (أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بكلية اللغة العربية جامعة القاضي عياض، مراكش)، عن دار إفريقيا الشرق، وهو كتاب يندرج ضمن مشروعه الأكاديمي الذي يسعى إلى الاهتمام بالدرس البلاغي وجعله أكثر رحابة وأغنى فائدة، عن طريق الانفتاح على قضايا المجتمع والحياة اليومية، في صورة “بلاغة الحياة” كما اختار أن يسميها.

يقدم الباحث في كتابه أربعة أطباق وهي:

_ حقل الطعام: بين ضيافة الدنيا وضيافة الآخرة.

_ جسور الطعام: من الطعام البلاغي إلى الطعام البليغ.

_ شعرية الطعام: القِرى والمأكول والمشروب.

_ نثرية الطعام: الموهوب والمنهوب والمرهوب.

وقد اختار في مقاربة موضوع الكتاب مدونة نصية لغوية وأدبية وثقافية واسعة، مستندا إلى كل من أبي عثمان الجاحظ وعبد القاهر الجرجاني، أما الأول فلكونه “سبق زمانه حين عرف أن البلاغة لا يقتصر موضوعها على القرآن الكريم والشعر الجميل، بل هي تسري في خطابات الحياة اليومية عند البخلاء واللصوص والباعة والشيوخ والنساء والأطفال…” وأما الجرجاني “فقد دقّق سؤال البلاغة، وحرّرها من الأحكام الانطباعية العامة، وخاض بها في معترك جديد يروم بيان “المزية” بتعليل يمزج بين الذوق والعلم. لذا همشّ الحديث عن القشور، وراح يبحث تارة في “الدلائل” وأخرى في “الأسرار””.

كما استعان الباحث بما حققه هذان البلاغيان الرائدان، وانفتح على ما يطوّرهما من رؤى متجدّدة عند البلاغيين المعاصرين، ومن معارف أخرى سيكولوجية وأنثروبولوجية وسوسيولوجية ولسانية معرفية ودراسات ثقافية.

وفي الختام، توصل الكاتب إلى “أن الكتابة محض عملية طبخ تامة ومتكاملة لمواد معرفية منتقاة، يستعمل فيها الكاتب الطاهي بهارات لغوية ومنهجية بخبرات مخصوصة، بغاية تقديمها إلى قارئ نهم متلهّف باستمرار إلى كل ما لذَّ وطاب”.

كما دعا الدكتور سعيد العوادي الباحثين المهتمين بالبلاغة إلى إغناء موضوع “الطعام والكلام” بكتابات منفتحة على مقاربات نسقية وسياقية، بشكل تتفاعل وفقه التعبيرات المجازية والرمزية مع محيطنا الواسع، قصد بناء بلاغة أكثر رحابة وأغنى فائدة، إنها بلاغة الحياة.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي