أمام التحولات الاقتصادية والسياسية والعمرانية التي عرفها المجتمع المغربي بعيد الاستقلال ، بلور الباحث السوسيولوجي بول باسكون مفهوم “المجتمع المركب ” لتفسير السلوك اليومي لشرائح واسعة من المغاربة الذي كان يجمع خليطا مظاهر التقليد والعصرنة . لكن يبدو أن تطور المجتمع المغربي خاصة في سنوات ثمانينيات وتسعينيات القرن 20 حولته من مجتمع مركب إلى مجتمع متسيب . فبعدما عرف المغرب ،عبر تاريخه السياسي تسيب القبائل وتمردها عن السلطة المركزية فيما سمي بظاهرة السيبة ،يعيش حاليا ظاهرة تسيب مجتمعي خاصة في حواضر ومدن المملكة . و يظهر هذا التسيب واضحا من خلال مظاهر تخريب المنشآت العامة من شوارع وأزقة عمومية ، أو حدائق ومتنزهات عمومية ، أو تلويث المجال العمومي بالضوضاء والصخب ، أو احتلال المجال العمومي ، أو البصق ورمي النفايات والتبول في الشارع العام …أو عدم احترام الصف سواء في المحلات التجارية أو المرافق العمومية ، أو معاكسة الفتيات أو النساء في الشارع العام أو التحرش بهن ، أو التحدث بصوت مرتفع في الهواتف الشخصية ، أو عدم احترام إشارات المرور وقانون الأسبقية ، أو القيام بصباغة شعارات وصور لمساندة هذا الفريق الكروي أو ذاك ، أو إشاعة الفوضى في المركبات الرياضية فيما ينعت بشغب الملاعب وما يرافقه من تكسير الممتلكات العمومية والخصوصية إلى غير ذلك من السلوكات التي تعكس إلى حد بعيد مظاهر هذا التسيب المستشري خاصة في المدن الكبرى الذي بدل أن تعكس مظاهر التحضر وتمدن ساكنيها ، تعكس تمردا علنيا على مختلف القوانين التي وضعت لتسييرها والضوابط التي بلورت لتنظيم المعيش داخل فضءاتها العامة ومجالاتها المشتركة. مما يدفع إلى التساؤل عن العوامل الثاوية وراء هذا التسيب ؟؟
1-المدن بين الهجرة والتهجير
لم يشكل الاستعمار الفرنسي- الإسباني للمغرب ظاهرة عسكرية وسياسية واقتصادية وإدارية فقط ، بل اكتسى أيضا طابعا حضريا . فقد لعبت سلطات الحماية دورا أساسيا في وضع أسس المدينة الأوربية العصرية في مقابل مدن الأهالي . وهكذا عمل الماريشال ليوطي على تشييد المدينة العصرية في جل المدن بمعالمها المعمارية ، ومرافقها الإدارية والثقافية والترفيهية العصرية لتشكل نسيجا حضريا خاضعا لضوابط خاصة تحفظه من أي اكتساح بدوي أو قروي غير متحكم فيه . إذ كانت سلطات الحماية تحرص على منح تراخيص للتنقل لكل المهاجرين القرويين إلى المدن خاصة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي . كما كانت تحرص قبل تنقلهم لهذه المدن على إخضاعهم لرقابة إدارية وصحية . لكن هذا لم يمنع من توافد أعداد متزايدة من القرويين نظرا لحاجة المصانع والمعامل الفرنسية لليد العاملة الرخيصة . وقد تفاقمت هذه الهجرة بعيد الاستقلال دون أن يشكل ذلك اكتساحا قرويا لهذه المدن .غير أن انتفاضات المدن الكبرى سواء في ستينيات و خاصة في ثمانينيات القرن الماضي قد شكلت هاجسا سياسيا مقلقا لنظام الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان يرى أنها تشكل أحد معاقل المعارضة السياسية لنظامه نظرا لما كانت تختزنه من شرائح حضرية تتميز بوعي سياسي وما كانت تولده من أسباب السخط والتذمر كانت توظفه المعارضة في مواجهتها لقمع النظام ، في الوقت التي كانت فيه البوادي مصدرا من مصادر شرعية النظام وحامية لعرشه . وبالتالي ، فقد استغل النظام فترة الجفاف في بداية الثمانينيات من القرن الماضي لفسح المجال أمام اكتساح قروي وبدوي غير مسبوق تم فيه تطويق المدن بأحزمة من مدن الصفيح التي تم بناؤها بمباركة من السلطة ، واختراق المدن العتيقة واحتلال دورها من طرف هؤلاء الوافدين الجدد الذين شكلوا خزانا انتخابيا وسياسيا وظفته السلطة في احتواء كل أشكال المعارضة الحضرية والحد من تهديدها لاستقراره السياسي. وبالتالي ، فإذا كان النظام قد وظف الأعيان في القرى لضبط المجال القروي وتحييده ، فقد تم توظيف التهجير إلى المدن لشل قدرتها على المعارضة والتمرد من خلال ضرب انسجام تركيبتها البشرية والاجتماعية والثقافية . وقد نجم عن هذا الوضع نشر ثقافة قروية بكل سلوكياتها ومظاهرها وعقلياتها . إذ أصبح التكالب على اقتناء العقار سلوكا مترسخا لدى هذه الساكنة الهجينة التي أصبحت ترى في شراء شقة أو بيت من بين أولويات الاستقرار بالمجال الحضري مما رفع من الاستثمار في الوعاء العقاري والمضاربة فيه وأدى إلى الاجهاز على السكن الأفقي لصالح السكن العمودي من إقامات وسكن اقتصادي دون أن يواكب ذلك ثقافة العيش المشترك ضمن هذا النوع من السكن الجماعي أو ما سمي بالملكية المشتركة بحيث يتم الاخلال بكل ضوابط العيش المشترك ضمن هذا النوع من السكن من حفاظ على نظافة المرافق المشتركة من أسطح ومرآب ومصاعد أو أدراج… واحترام راحة الجيران والعمل على تجنب إزعاجهم في أوقات نومهم أو أوقات يقظتهم .فالكل يعتبر بأنه يسكن لوحده وهو يعيش بين جيران يسكنون فوقه وتحته.
2- إجهاض روح المواطنة
إذا كان رجوع الملك محمد الخامس من منفاه قد جسد إلى حد بعيد إحدى مطالب بعض مكونات الحركة الوطنية المتمثلة في الاستقلال السياسي للبلاد ، فقد أدى بالمقابل إلى توقف في إنضاج الشعور الوطني لدى المغاربة ، وبلبلة هذا الشعور بدخول الفرقاء السياسيين الذين واجهوا سلطات الحماية في صراع حاد ودموي على السلطة دام لأكثر من ثلاثة عقود ، تحول فيها هذا الشعور إلى مزايدة سياسية بين مختلف هؤلاء الفرقاء ، حيث أصبحت الوطنية سلاحا في يد البعض لمواجهة البعض الآخر . وفي أتون هذا الصراع السياسي المرير ، تم إجهاض عملية خلق روح المواطنة لدى المغاربة من خلال تخريب المؤسسة التعليمية ، وترييف المدن ، ونسف مقومات دولة الحق والقانون.
*تخريب روح المؤسسة التعليمية
ولدت أحداث الدارالبيضاء ل23مارس 1965 التي تزعمها التلاميذ والطلبة بتحريض من الأساتذة تخوفا سياسيا عميقا لدى نظام الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان في مرحلة تشكله وبسط نفوذه. فقد أحس بأن معقل معارضته السياسية يتجمع في المؤسسة التعليمية ، وأن أهم معارضيه هم من الأساتذة الذين شبههم في إحدى خطبه لهذه الفترة بأشباه المثقفين ، ومن الأفضل أن يبقوا جهلة .ومن ثمة ، استندت استراتيجية الحكم على ضرب مقومات هذه المؤسسة التي تعتبر من أهم القنوات لتلقين روح المواطنة . وهكذا عمد النظام إلى تقسيم وزارة التربية والتعليم إلى قطاعات وزارية كلفت كل واحدة بمستوى دراسي وتكويني معين ، في حين تم العمل على إلغاء كل المواد التي تشجع على روح النقد والتفكير الحر من فلسفة وسوسيولوجيا ، وتعويضها بمواد الفكر الإسلامي العتيق من خلال تشجيع إنشاء الكتاتيب القرآنية ، وإفراغ مادة التربية الوطنية من كل محتوى ملموس يقوي روح المواطنة ، وتعويض ذلك بمادة التربية الإسلامية التي تم حصرها في مسائل العبادات ( ككيفية الوضوء ، والصلاة ، وتكفين الميت …)بدل التركيز على استلهام أسس هذه التربية ( كاحترام الجار ، ورفع الإذاية من الطريق ، وأحب لأخيك ما تحبه لنفسك …) لتقوية الشعور بالمواطنة . بالإضافة إلى ذلك تم إشغال رجال التعليم ، خاصة بعد أحداث الدارالبيضاء ل20 يونيو 1981 وتفاقم العواقب السلبية للتقويم الهيكلي على مستواهم المعيشي ، بروح الكسب واللهاث على الساعات الإضافية ليتراجعوا عن مهامهم التربوية في تلقين روح المواطنة . إذ لم يعد المعلم أو الاستاذ يعتني بخلق روح الانضباط داخل القسم ، أو الاهتمام بالتربية على العمل الجماعي سواء بتنظيم أيام لتظيف القسم أو تنظيف ساحة المدرسة ، أو المشاركة في الأعمال التنشيطية الموازية . بالاضافة إلى ذلك ، شجع النظام على تقوية قطاع تعليمي خاص يقوم على منطلق مركنتيلي يختلف عن منطق المدارس الحرة التي أسسها الوطنيون قبيل الاستقلال ، مستغلا بعض أوضاع التعليم العمومي السلبية لاستقطاب أبناء الفئات المتوسطة ، و استغلال أطره التعليمية في التلقين والتدريس وذلك على حساب تلاميذ مؤسسات قطاع التعليم العمومي .
*نسف أسس دولة القانون
كرست سلطات الحماية لأول مرة في التاريخ السياسي للمغرب الأسس القانونية للدولة العصرية والحديثة ، بعدما كانت الدولة تستند طيلة قرون سابقة إلى الشرع والعرف . فقد عمل الجنرال ليوطي على وضع ترسانة قانونية وضعية لتسيير البلاد سواء على الصعيد الإداري ، أو الاقتصادي أو المدني ، حيث تم إصدار قوانين تتعلق بقانون الالتزامات والعقود الذي ما زال ساريا إلى حد الآن ، والقانون العقاري ، وقانون الحالة المدنية ، والقانون الجنائي …وعلى الرغم من هذه القوانين كانت تستند إلى ثنائية سياسية ( معمرون/أهالي) فقد كانت تقوم على أساس القاعدة القانونية المجردة في التعامل مع السكان . لكن بعيد الاستقلال ، وفي أتون الصراع السياسي على السلطة والذي تجسد في الإعلان عن حالة الاستثناء ، تم التلاعب بهذه الترسانة القانونية بعد مغربتها لتصبح أداة لقمع المعارضة السياسية ، وخرق أبسط حقوق السكان . فقد أصبح تطبيق القانون يتم وفق اعتبارات خاصة ، في حين شكلت الرشوة أحد مظاهر نسف أسس دولة القانون التي تعتبر إحدى مقومات تكريس روح المواطنة.
3- تكريس روح المواطنة
وعموما، فلمواجهة مظاهر هذا التسيب المجتمعي الذي يتفاقم بسرعة قصوى خاصة بمدن المملكة وعلى رأسها مدينة الدارالبيضاء ، والتي تنعكس بجلاء في أعداد قتلى حرب الطرق التي تزهق أرواح حوالي أربعة الف مغربي ومغربية وما تخلفه من جرحى وذوي العاهات المستديمة في كل سنة ، يقتضي تكريس روح المواطنة في المغرب ، إعادة صنع المواطن المغربي وتحويله من كائن رعوي إلى كائن سياسي مستقل مما يتطلب بالأساس توافقا سياسيا شاملا تلعب فيه كل المكونات الدور المنوط بها .وهكذا ، ينبغي على السلطة بعد أن تتخلص من نظرتها السياسية إلى المحكومين بكونهم مواطنين قبل أن يكونوا رعايا و إلغاء كل مظاهر الثقافة المخزنية بكل مكوناتها الفكرية والسياسية والبروتوكولية ، من خلال امتلاك إرادة سياسية للعمل على تعبئة مختلف مؤسساتها لصنع هذا المواطن سواء من خلال التحسيس ، او التكوين ، أو الزجر:
– ففيما يتعلق بالتحسيس والتوعية ، ينبغي أن تتحول شبكة المساجد إلى قناة لبناء المواطن المغربي من خلال توظيف كل الموروث والمأثور الديني الذي يقوم على الاستقلال الفكري ، والمسؤولية الشخصية ، و احترام حقوق الآخر…في خطب الجمعة ، ومجالس الوعظ والإرشاد …كما أن الإعلام الديني ، وخاصة قناة محمد السادس التي تعتبر الأكثر استماعا ينبغي أن تركز على تكريس روح العيش المشترك والاحترام المتبادل ، والحرية الفكرية و الشخصية لدى المواطنين . في حين ينبغي أن تشمل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة برامج تقوم على تربية المواطن على احترام المجال العمومي والتحرك داخله ، وتوظيف بعض البرامج كبرنامج الكاميرا الخفية في فضح السلوكات السلبية للمواطنين كعدم احترام إشارات المرور على سبيل المثال ، حيث يتم نشر صور المخالفين على الملأ كنوع من العقاب والتشهير .في حين يتم تخصيص جائزة كل سنة للمواطن المثالي في مختلف المجالات ( جائزة للسائق المثالي ، جائزة لعامل النظافة المثالي ، جائزة للموظف المثالي ، جائزة للمربية المثالية ، جائزة للشرطي المثالي ن جائزة للممرضة أو الممرضة المثالية …).
-أما فيما يخص التكوين ، فقد آن الآوان للدولة بالمغرب من أن تتحول من دولة راعية إلى دولة مربية وذلك بإعادة النظر في دورها التربوي من خلال تحديد مهمات جديدة للمؤسسة التعليمية و المؤسسة العسكرية وباقي المؤسسات الأخرى التابعة لها حتى تقوم بدورها الأساسي في خلق المواطن المغربي العصري في عقليته وأخلاقه المدنية وشعوره الوطني .فالشعور الوطني يكتسب ويلقن من خلال التربية و التكوين وليس فقط من خلال توزيع الوثائق الرسمية والبطاقة الوطنية . وفي هذا السياق ينبغي أن يعاد النظر في نظام الخدمة العسكرية من خلال تعميمه على مختلف شرائح الشباب المغربي سواء كانوا ذكورا او إناثا ، مع إبرام اتفاقيات شراكة بين هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الملكية ووزارة التربية الوطنية لإخضاع الطلبة والتلاميذ لتداريب عسكرية تزرع فيهم ،بالإضافة إلى حب الوطن ، روح الانضباط . وتحمل المسؤولية.
– في حين يمكن أن تسن الدولة في إطار تربية مواطنيها مجموعة من العقوبات لزجر السلوكات التي تمس بروح المواطنة ، كفرض غرامات مالية على من قام بتخريب ممتلكات عامة أو قام بإزعاج أو ضوضاء في الشارع العام … ، بينما يفرض على من قام برمي نفايات في الشارع العام وما شابه ذلك بأشغال ذات نفع العام كتنظيف بعض الشوارع أو الأزقة.
وإلى جانب الدولة يمكن للأسر ، وجمعيات الأحياء ، وباقي جمعيات المجتمع المدني أن تساهم بدورها في تربية المواطن على احترام نفسه واحترام الآخر ، حيث تعلمه كيف يتحرك في المجالات العمومية سواء كانت ساحات عمومية أو حدائق ، أو مرافق أو وسائل نقل وغيرها .فروح المواطنة تكتسب وتلقن ، والمواطن لا ينزل من السماء ، بل يربى ، ويكون ويخضع لتنشئة واضحة المعالم ومتجذرة الأسس .كما أن المواطنة هي ممارسة يومية وسلوك دائم لا يقتصر فقط على التغني بالوطن والتلويح برايته وتقبيلها ، بل بترجمة هذا الحب إلى واقع ملموس يتمثل في الحفاظ على مكوناته البشرية والبيئية والمجالية ويتجسد في الانضباط ، و الاحترام المتبادل ، وعدم خرق القانون.
تعليقات الزوار ( 0 )