Share
  • Link copied

من التنوير إلى التطبيع

أثار خروج أبناء زيد من التطبيع السري إلى التطبيع العلني الكثير من الجدل والنقاش، والذي من المرتقب أن يتبعه إلى العلن كل ما كان يعيش من المال الإماراتي؛ من القنوات السمعية البصرية؛ ومراكز البحث والدراسات؛ وخاصة تلك التي كانت تحمل شعارات التنوير الإسلامي.

لا يمكن أن أقول منذ البداية إن فعل التنوير أو عمل المتنور بشكل عام لا بد أو ضرورة أن يكون على صلة بمال الإمارات، ولكن ما أجزم به بداية هو أن أبناء زيد لم ينشئوا فعل التنوير ولا بدؤوه أول مرة؛ ففعل التنوير أقدم منهم ومن كيانهم، ولكن الذي حصل هو أنهم اهتدوا إلى تبني هذا الاتجاه خاصة في العشر السنوات الأخيرة؛ لما وجدوا أنفسهم كما سيتقدم معنا في تقاطع مع هذا التيار الذي انبرى للوجود متهما الإسلام السياسي والجماعات الدينية بتخريب العالم الإسلامي؛ فيما سمي بموجة الربيع العربي. وإذا كان فعل التنوير له أهداف أخرى غير الإسلام السياسي فإن أبناء زيد يبقى هدفهم الأكبر هو الإسلام السياسي الذي يرون فيه الخطر الأكبر على كيانهم .

إن فعل التنوير اليوم يكاد يتفق على معاداة الإسلام السياسي. وهذه الخلاصة قد ينتهي إليها أغلب المتنورين بعيدا عن أموال الإمارات. لكن فعل التنوير ليس بالضرورة في عداء مع جماعات الإخوان ولا المؤمنين بالحل الديني، فالناظر في تاريخ التنوير يلفي أن كثيرا من المساهمين في فعل التنوير؛ والذين وقفوا في وقت ما كان أحد يقدر على الوقوف في وجه التيار الإسلامي المتزمت هم من الإخوان ومن مناصري الحل الديني. وكثير من المحاولات الفردية الوازنة كانت قبل أن تظهر أموال الإمارات تجادل الإخوان فكرة الخلافة.

إن الذين انتقدوا بشدة مشروع الإسلام السياسي كانوا من التقدميين العرب؛ الذين مزجوا بين فكرة الوطن الكبير والمبادئ الاشتراكية، وكان عداؤهم ظاهرا للكيان الصهيوني، ويعتبرون أن القضية الفلسطينية قضية لا تقبل النقاش، بل كانت تصل ببعضهم الشدة في الانتصار للقضية إلى اتهام الإخوان بالرعونة والمهادنة، وأنهم صنيع القوى الامبريالية والسلطوية العربية؛ في القضاء على التقدمية، والدولة الدمقراطية، والتطبيع مع الكيان الصهيوني.

لقد كانت هذه هي الأفكار التي قام عليها التنوير التقدمي؛ إيمان بالثوابت ومحاولات للتقدم بعيدا عن التزمت الديني، وكان هؤلاء المفكرون الوازنون في العالم العربي منارة المتنورين الجدد ابتداء من القرن الواحد والعشرين. لقد وجد الكيان الصهيوني بعد فشل المشروع التقدمي نفسه في تقاطع مع المتنورين الجدد وفلول التقدميين، في عداء مشاريع الإسلام السياسي الذي غم على العالم العربي وظهرت نتائجه بعد الانتفاضة العربية. وبهذا بدأت الحكاية بين التنوير والتطبيع.

عندما تبنت الإمارات مشروع التنوير الإسلامي كان هدفها بالأساس أن تقطع مع فكرة الإسلام السياسي وأيضا مع فكرة دمقرطة العالم العربي؛ ولهذا يظهر التنويريون أقل اهتماما بالشأن السياسي، بل بالشأن العام. فالمتنور لا يهتم بأحوال الناس الاجتماعية، ولا يشارك في الأحزاب؛ والجمعيات؛ والمنظمات الحقوقية؛ والاحتجات ذات الحمولة السياسية؛ فهو همه أن يعود باستمرار إلى نقد ومحاولة نقض تراث المسلمين وتبخيسه، بل إن المتنور غالبا قريب من السلطة إن لم يكن مدافعا عن السلطوية بقوة. ولما تقوم حكومة أو برلمان بطبيعة دمقراطية فيه رائحة الاسلاميين أو الصناديق، فإنه يتمنى أن تعود السلطوية. فالسلطوية المدعومة من أبناء زيد تعطي للمتنور كافة الصلاحيات في ضرب ما يكون من مصلحة الإمارات ضربه من ثوابت الإسلام والمسلمين. فالمتنور يجد نفسه حرا في بلاد السلطوية.

وهذا راجع بالأساس إلى أن فكرة التنوير تم تحريفها بتجريدها من ما قامت عليه أساسا في العالم الغربي والعربي؛ من محاربة الحكم الديني وإقامة الدولة الدمقراطية المدنية؛ إلى محاربة الدولة الدينية والإسلام السياسي لإقامة السلطوية..ثم من اعتبار القضية الفلسطينية قضية عربية مقدسة إلى محاولة التطبيع مع الكيان الصهيوني. فأبناء زيد يريدون عالما عربيا له القدرة فقط على الاستهلاك فارغ من أي محتوى يؤهله للنظر في الشأن العام، بينما يكون الشأن السياسي والشأن العام من اختصاص السلطوية.

لم تكن فكرة التنوير الديني متحدة إلا في الإيمان بأن الأوضاع ليست بخير في عالمنا العربي، وأن فهم الدين بطرق ما هي ما يحول بين الأمة والقيام. وقد كان من السهل إقناع المتنور بالمفاضلة بين السلطوية وفوضى الحكم الإسلامي خاصة في تجليه الداعشي، لكن فكرة التطبيع ربما لم يكن من السهل إقناع المتنور بها. وبما أن مدارس التنوير ليست واحدة موحدة فقد تم الاهتداء إلى ضرورة تمويل مدارس أخرى ليست إسلامية، أو باحثين من أصول إسلامية لهم مشكل مع الإسلام ككل؛ فتكون مهمتهم وعملهم نشر ثقافة التشكيك، تشكيك الأمة في مسلماتها، فيكون الغرض هو تحييد المسلمين تاريخيا من القدس وأرض فلسطين حتى لا يعود للمسلمين ارتباط  ديني إلا بأرض الحجاز وينفك ارتباطهم الروحي والتاريخي والوجداني من القدس؛ فينتهي الأمر إلى احتلال سائغ بانقطاع آخر الحبال حبل الوجدان الديني. ولا تعجب إن رأيت دعوات لفصل القوميات في الوطن الكبير عن بعدهم العربي وتاريخهم الإسلامي، فالخطة هي تشتيت العالم العالم الإسلامي إلى قوميات متناحرة حتى يكون من السهل التهامهم.

لا يمكن الحديث عن التنوير الإسلامي مدرسة واحدة أو تيار واحد منسجم يتم توجيهه كما توجه التيارات، والتنظيمات، والمشاريع ضربا من الالتزام، ولكن التنوير الإسلامي هو تنويرات تتقاطع في نقط ثم يتم التركيز فيها تمويلا في التقاطعات التي تخدم توجهات المانحين. ولعل أبرز نقطة من تلك النقط هي قضية الإسلام السياسي ومحاربة أي دعوة أو محاولة لإقامة دولة دمقراطية تعود فيها السيادة للشعب، وقد قاموا بالمستحيل في بلدان كثيرة ومولوا المرتزقة ودعموهم بالمال الوفير لإبطال ذلك، حتى إن الرئيس التونسي في الفترة الانتقالية خاض أمام مؤامراتهم حربا كلامية مباشرة. ولا عجب أن يقول كثيرون بما أصبح يقوم مقال النكتة إنها دولة المؤامرات العربية. إنها تريد تثبيت السلطوية خيارا وحيدا حيث الشعب وظيفته أن يعيش وكفي.

لقد اجتهدت الإمارات بأموالها بشراء المواقع والجرائد وذمم الكتاب والباحثين لتكريس أفكار قد يظهر أنها واقعية أو تنبع من غيرة كاتبيها والمروجين لها، ومثال ذلك أن يتم الترويج لفكرة الإصلاح على أنه دمار وخراب، وأن الاستقرار مع السلطوية هو الخيار الوحيد بعيدا عن أي محاولة للاحتجاج وإسقاط الأنظمة حيث تؤول السلطة للإسلام السياسي.

إن ما انتهت إليه الإمارات من التطبيع العلني لم يكن إلا نتيجة لمجهود كبير وتمويل وفير على امتداد عقدين من الزمن. لقد كانت المحاولات حثيثة وعمل معهم خلق كثير من المغفلين والذين لا يعلمون؛ لجعل المعرفي خادما للسلطوية ولأهداف إنشاء جيل يرى التطبيع أمرا طبيعيا. فالتنوير لم يعد غرضه خدمة الإنسان كما حدث في أوروبا حيث انتهى بالدولة الدمقراطية، ولكن التنوير العربي بقيادة أبناء زيد آل إلى تقديس السلطوية وتصوير الكيان الصهيوني على أنه كيان دمقراطي ناجح دون الحديث عن الخلفية الصهيونية العنصرية.

فنتساءل في الأخير..ما مصلحة الإمارات من تمويل التنوير؟ وأي مصلحة للدين والقومية العربية أن تنبثق فكرة جليلة مدفوعة بمال إماراتي؟ ومتى كان أبناء زيد يحرصون على أن تكون الأوطان العربية والإسلامية بخير..فقد نتفهم أن باحثا شابا على جهله أو حاجته للمال، ولكن ما لا نستوعبه هو أن يكون باحث قضى من الدنيا وطرا وتقلب بين الكتب لعقود تنطلي عليه هذه الحيل..حيلة تنوير بقيادة إمارات غارقة في التخلف.

Share
  • Link copied
المقال التالي