فكرة راسخة عند الكثير من المتعلمين وأصحاب الشهادات، الذين زاد عددهم بشكل كبير في السنوات الأخيرة، بعد الانتشار الواسع للتعليم في الجزائر، التي عرفت بندرة انتشار التعليم وقلة المتعلمين تاريخيا. فكرة أعود إلى مناقشتها بمناسبة الذكرى 33 لوفاة مولود معمري، الذي فارقنا في مثل هذا التأريخ من سنة 1989 في حادث سيارة وهو عائد من المغرب، الذي كان قد أقام فيه مدة طويلة من شبابه للدراسة عند عمه الموظف السامي في القصر العلوي.
حالة مولود معمري التي يمكن الانطلاق منها لمناقشة مسألة التهميش هذه، التي اخترنا هذا الأسبوع للقول إنها قضية حمّالة أوجه، ومطروحة بشكل غير دقيق، بل ومغلوط، فالمقصود عند الكثير من المتعلمين الجزائريين، وهم يتكلمون عن تهميش المثقف، يبقى يقاس بالبعد عن السلطة السياسية، بما يفترض أن يأتي معها من مزايا، وبالتالي يكون الحديث عن تهميش سياسي بالدرجة الأولى، يتجسد في عدم وصول المعني إلى منصب الوزارة، الذي أصبح مطلب الكثير من المتعلمين، لم يعد بعضهم يتورع عن اقتراح السير الذاتية على الوسائط الاجتماعية لزملائه أو زميلاته لاحتلال هذا المنصب داخل الهيئة التنفيذية، منصب تدهورت مكانته الرمزية بشكل واضح في الآونة الأخيرة، بعد اضطراب أداء مؤسسات الانتقاء التي كان معروفا بها النظام السياسي، لتكون النتيجة تلك الصورة الكاريكاتيرية التي نعيشها منذ سنوات. تعيين وزير لبعض الساعات، منصب أصبح في الكثير من الأحيان أقرب طريق إلى السجن وليس إلى مكان آخر.
تركيز المتعلم الجزائري على البعد السياسي للتهميش الذي يقول إن المثقف يعيشه، يمكن تفسيره من عدة مستويات، لعل أهمها أننا أمام “نخب” متعلمة، فقيرة في الغالب، اكتشفت الطابع الريعي للنظام السياسي – الاقتصادي وتريد الانغماس فيه عن طريق المنصب السياسي، في مجتمع يخلو من وجود استقلالية للفعل الثقافي والفكري، بواسطة جمعيات كبيرة وحياة ثقافية مُكرسة كان يمكن أن تكون وسيلة لهذا المتعلم المهمش نحو تحقيق ذاته، هو الذي اكتشف مع الوقت أن التهميش السياسي لا يأتي وحده، نظرا لهذا الطابع الريعي للنظام السياسي الذي يقصي سياسيا وهو يقصي إعلاميا كذلك، فالمغضوب عليه من قبل السلطة الحاكمة يكون عادة مغضوبا عليه إعلاميا كذلك، في مجتمع لا يملك وسائط ثقافية وفكرية على شكل جمعيات ومنابر فكرية مستقلة، كان يمكن أن تكون البديل عن طغيان مؤسسات النظام عندما تقرر تهميش من قررت أن يُهمش ويُبعد. تهميش سنكتشف ونحن نتابع يوميات مفكر كمولود معمري، أنه ليس دقيقا كثيرا، فالرجل ولأنه كان يحمل مشروعا فكريا، استطاع أن يفرض وجوده على الساحة الفكرية والسياسية في الجزائر مع الوقت، حتى وهو يُحارب ويُقصى من قبل النظام السياسي ومؤسساته المختلفة، بعد أن تم تبنيه من قبل فئات واسعة من الجزائريين، خرجت في مظاهرات حاشدة عام 1980 عندما منع من إلقاء محاضرته المشهورة في جامعة تيزي وزو، حول الشعر الأمازيغي، جامعة تحمل اسمه الآن، فهل هناك أجمل من هذه الصورة عن حضور المثقف وتبنيه من قبل مجتمعه وأهله، عالم أنثروبولوجي يمنع من إلقاء محاضرة حول الشعر الأمازيغي داخل الحرم الجامعي، تخرج منطقة كاملة بقراها ومداشرها للدفاع عنه، ليصل صداها إلى بقية جهات الوطن وكل المغرب الكبير.
رجل انطلق في عمله الفكري الذي ركز فيه على الدفاع عن الثقافة الأمازيغية على حلقات طلابية صغيرة العدد، في جامعة الجزائر، ليتطور مع الوقت ويأخذ أبعادا مؤسساتية متنوعة، أخذت شكل الحزب والجمعية، دار النشر، والجريدة، إلخ، أدت في النهاية إلى ترسيم الأمازيغية الذي كان مطلب الكثير من الأجيال. عمل فكري مع عدد قليل من الطلبة داخل جامعة الجزائر في منتصف سبعينيات القرن الماضي، لم يكن مقبولا من قبل السلطات الرسمية، حتى وهي تسكت عليه مؤقتا، يشبه ما قام به مثقف جزائري ثان هو المفكر مالك بن نبي، الذي استطاع الحصول على اعتراف فكري داخل وخارج الجزائر لاحقا، رغم ما تعرض له من إبعاد من قبل نخب سياسية وفكرية رسمية منافسة، تماما كما حصل مع مولود معمري، رغم الاختلاف الكبير في المنطلقات الفكرية والقناعات التي انطلقت من الدفاع عن اللغة والثقافة الأمازيغية عند معمري، وعن نوع من المشروع النهضوي المرتكز على الإسلام عند بني نبي، يجد في الوقت الحالي حضورا كبيرا داخل الأوساط الجامعية الجزائرية، من الشباب الذين تبنوه من دون القدرة على الإضافة الفكرية له، لكي يرتبط أكثر مع التحولات التي يعيشها العالم، رغم أن مشروع بن نبي لم يجد العصبية – بالمفهوم الخلدوني، التي وجدها مشروع معمري الفكري، فكان الدفاع عنه محتشما ولم يجند الكثير من النخب الفاعلة.
فكرتان ظهرتا على شكل مشروع نخبوي محاصر في جزائر السبعينيات، التي سيطر عليها فكر سياسي وطني على المستوى الرسمي، ضعيف الحمولة الثقافية، ارتكز أساسا على نخب سياسية ريفية ضعيفة التأهيل العلمي، لم تول أهمية كبيرة للقضية الثقافية، ولا للمثقف كانت مهمومة في المقابل الأول بمشروع تنمية اعتمد على توليفة فكرية انتقائية جمعت داخلها الكثير من الأضداد، كان من بينها اليسار الحاضر داخل الجامعة، الذي استعملته المؤسسات الفكرية والإعلامية للهجوم على المشروعين المنافسين، ما ساعد على منح هذه الفترة من تاريخ المؤسسة الجامعية حيوية فكرية لم تعد حاضرة في الوقت الحاضر. مراكز القرار السياسي والثقافي التي استطاعت أن تجند، زيادة على اليساري، الإسلامي والعروبي والأمازيغي تحت راية الوطنية، وهي تطلب من الجميع التستر على قناعاتهم والتقية الفكرية في أوقات العمل، وأثناء الدوام الرسمي! مثل العامل الموسمي المشتغل بعقد عمل غير دائم، ما جعل الكثير من المتعلمين الذي التحقوا بمؤسسات الدولة يشعرون بأنهم غير مقبولين تماما، بل مهمشون بدرجات متفاوتة، وهم على رأس أرفع المناصب، في الوقت نفسه الذي يظهر فيه المشروع الرسمي، من دون حماية ولا يجد من يدافع عنه خارج أوقات الدوام الرسمي، يعيش هشاشة فكرية وخائفا من محيطه الاجتماعي والبشري المباشر المتوجس منه على الدوام، في وقت سيبقى فيه المشروع الثقافي والفكري الوطني في حاجة إلى حريات أكبر، لكي يحصل على الشرعية المطلوبة له كمشروع جامع، تدعمه وتتبناه النخب الفكرية والمثقفة بمختلف مكوناتها، من دون أن تتنكر لقناعاتها، يفرض استقلالية المجتمع وفعله الفكري الثقافي والفكري الحر بعيدا عن سيطرة مؤسسات النظام السياسي البيروقراطية.
تعليقات الزوار ( 0 )