أكد الإعلامي والباحث التونسي منصف السليمي، أن العيش في المغرب مُختلف على تونس، إذ تشعر في المملكة بالتوازن بين التراث والثقافة والسياسة والدين، عكس بلده الأصلي، الذي كان يعرف صراعاً حادّاً بين هذه المكونات، مشيراً في سياق منفصل، إلى أن الأمن القومي لتونس، يحتاج إلى علاقات جيدة مع المغرب.
النشأة والدراسة
وقال السليمي خلال حلوله ضيفا على برنامج “معهم حيث هم” الذي يقدمه الإعلامي نورالدين لشهب، وتبثه جريدة “بناصا”: “ولدت ونشأت في منطقة الرقاب التي هي دائرة تابعة لسيدي بوزيد، وسط تونس، في محيط بدوي ريفي. كان طموحي وقتها يميل إلى الأشياء التي فيها حوارات ونقاشات ومشاغبة، لكن في التعليم الثانوي، كنت أدرس العلوم”، مضيفاً: “درست في المعهد الثانوي التقني، ودرست الرياضيات والفيزياء وغيرها، وكنت من التلاميذ المتميزين في الرياضيات”.
وتابع الإعلامي التونسي، المزداد سنة 1962: “بعدها توجهت إلى مدرسة الهندسة بالعاصمة تونس. حين بدأت أكبر، ونظرا لظروف العائلة، بدأت أفكر في التخرج مهندسا لأن العائلة ستستفيد، في ظل أن الوضع الاجتماعي كان يتطلب ذلك”، مسترسلاً: “من المصادفات أني حين ذهبت إلى الجامعة، في بداية الثمانينات، وجدتها، خلال تلك الفترة؛ آخر مراحل بورقيبة، كانت ساحة كبيرة للاضطرابات”.
الانخراط في أنشطة اتحاد الطلبة على حساب المسار الدراسي
وأوضح: “حين تأتي أنت من فيافي بدوية وتدرس في جامعة، وتجد فيها الحريات، تنخرط دون تفكير، وهو ما كان على حساب المسار الدراسي. وفي تونس وقتها، كان هناك قانون يسمح لك بإعادة السنة لثلاث مرات على الأكثر، وإن لم تنجح سيتم حرمانك من مواصلة المسار الجامعي”. مبرزاً: “لذلك بالرغم من أني كنت شعبة رياضيات، وكان عندي إمكانيات لمواصلة الدراسة، إلا أني لم أعطها وقتها، من كثرة مشاركتي في الأنشطة الطلابية مع اتحاد الطلبة الذي كان نشيطا جداً وحيويا في تلك الفترة”.
واسترسل: “كنت أحضر النقاشات السياسية والإيديولوجية، وكان عندنا ما يسمى بالمجلة الحائطية، كنت أنا محررها في الجامعة، وبدأت أحرر المقالات، وفجأة وجدت نفسي خارج الجامعة. آنذاك، غادرت الدرس العلمي والتقني، تبخر الحلم في أن أصبح مهندسا، خصوصا أني كنت في أفضل مدرسة للمهندسين في تونس. غادرت في البداية إلى الجزائر، لأنها بلد جار، وقريب، والدراسة فيها سهلة”.
البحث عن فرصة جديدة للدراسة خارج تونس
في تونس، “كانت هناك قيود كثيرة على الأشخاص الراغبين في متابعة الدراسة في الخارج، حيث كان من الضروري الحصول على ترخيص من وزارة التعليم العالي، التي تعطي منحة أيضا”، مشيراً: “ذهبت إلى الجزائر وبقيت فيها ثلاثة شهور، أو أربعة، أبحث عن متابعة الدراسة في شعبة علم الاجتماع، وأحاول التسجيل في جامعة الخروبة في الجزائر”.
ومضى يقول: “قضيت هناك ثلاثة أشهر، وانصدمت من حجم البيروقراطية الخيالي، ولحسن الحظ، أنا كنت قد أوصيت أصدقاء في المغرب، فاتصلوا بي وقالوا لي إن هناك إمكانية اجتياز مباراة في المدرسة الوطنية للإدارة في الرباط، وبعدها تدخل الجامعة دون الحاجة إلى ترخيص من وزارة التعليم العالي التونسية ولا أي شيء، وعلى الفور توجهت إلى الرباط وكانت بداية جديدة تماماً”.
وأوضح: “درست الحقوق وأكملت حتى الماجيستير في القانون العام في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، والإدارة العامة في جامعة محمد الخامس بالرباط، وكان تكويني الأكاديمي في الحقوق والإدارة العامة متقاربا جداً، بنفس المواد تقريبا، في الرباط حصلت على الاجازة في الادارة العامة، والماجستير في القانون العام. وفي جامعة بن عبد الله حصلت على الاجازة في الحقوق. وهكذا بدأت أميل إلى البحث عن شيء له علاقة بالصحافة، لأن مواهبي في الجانب الأكاديمي والكتابة والنصوص كانت قد برزت، لأدخل إلى عالم الصحافة بعدها”.
وأبرز: “لم أحصل على منحة خلال دراستي في المغرب، وكنت أعتمد على إمكانياتي الذاتية”، متابعاً: “في 1984، لما عرفت أني سأغادر الجامعة في تونس، هاجرت في الصيف، إلى سويسرا عبر إيطاليا، لم يكن هناك وقتها تأشيرة، وذهبت لأشتغل في حقول التفاح والعنب وغيرها، خلال فصل الصيف، من أجل جني مال ليساعدني في استكمال مساري الدراسي”.
وأردف: “بعدها ذهبت إلى باريس، وقلت ربما أستطيع أن أتسجل في الجامعة بفرنسا، غير أني وجدت هنالك عالما آخر، وأن الدراسة هناك يتطلب إمكانيات كبيرة، لذا عدت إلى تونس، ومن هناك قلت إن طريقي ستكون نحو الغرب، يعني الجزائر أولا، خصوصا أن الدراسة هناك كانت مجانية”، متابعاً: “في البداية ساعدتني عائلتي، ولكن بعدها، بدأت أعتمد على نفسي، من خلال العمل”.
الخروج من تونس، اختياريّ أم اضطراريّ!
هذا، وأوضح: “خروجي من تونس كان اختياريا، ولكنه اضطراري في نفس الوقت. أنا من اخترت الخروج، ولكني كنت مضطرا لذلك، بحكم أني لم أكن أستطيع استكمال دراستي في الجامعة، بسبب القانون سالف الذكر، لذا قررت الخروج بحثا عن فرصة دراسة في الخارج، ولكن هناك العديد من الطلبة الذين خرجوا، وقتها، مضطرين، خصوصا النشطاء السياسيين، لأن تلك المرحلة كانت تشهد صداما قويا بين المعارضة بتياراتها الإسلامية واليسارية، ومع نظام بورقيبة الذي كان في مراحله الأخيرة، ونظام بن علي لاحقا”.
ونبه إلى أنه “وقتها كانت تونس تعيش فترة قمع شديدة، وكثير من أصدقائي هاجروا، ولكن أنا سافرت بحثا عن الدراسة بسبب انسداد أفقها. خصوصا أني لم أكن أستطيع استكمالها في أوروبا، لأن الأمر يتطلب إمكانيات مالية كبيرة، وحاولت بالفعل فعل ذلك في باريس وفي بلجيكا ولكني رأيت أني لا أستطيع تحمل التكاليف”.
وبخصوص ما إن كان قادرا على العودة إلى تونس خلال تلك المرحلة، أوضح السليمي: “نعم كنت قادرا على ذلك، صحيح تعرضت لمضايقات، لكن دون الدخول كثيرا في تفاصيلها. بعدها اضطررت إلى العودة إلى المغرب وعجزت عن السفر لتونس لحوالي ثمان سنوات من الزمن بسبب سحب جواز سفري مني. كنت أشتغل وقتها مع الشرق الأوسط، التي لعبت دورا إيجابيا في وضعي وقتها، حيث كانت تعتبرني السلطات المغربية صحفيا وأدرس بالجامعة، ولا أقوم بأي نشاط سياسي معارض أو غيره، لذلك بقيت إقامتي في المغرب تقريبا طوال فترة التسعينات”.
المغرب ملاذ النخبة التونسية الشّابة
أما فيما يخص تواجد العديد من الطلاب التونسيين المعارضين للنظام التونسي في المغرب، فقال السليمي: “وقتها، في سنتي 1987 و1989 لم يكن الملك الراحل الحسن الثاني، رحمه الله، موافقا على الطريقة التي أزيح بها بورقيبة، لأنه كان صديقا شخصيا له. كان بورقيبة صديقا للملك الراحل محمد الخامس رحمه الله، لذلك كان بالنسبة له، الخروج عن الشرعية بتلك الطريقة، فيها إهانة لبورقيبة، الذي كان زعيما وطنيا. كما أنه كانت هناك روابط قوية بين القصرين في الرباط وتونس”.
وأشار إلى أنه “بسبب هذا الأمر، لم يكن هناك تناغم بين الملك الحسن الثاني وزين العابدين بنعلي، الذي كان سابقا ملحقا عسكريا في الرباط. العلاقة لم تكن سيئة جداً لكنها كانت باردة جدا”، مسترسلاً: “وقتها كان عدد من الطلاب والشباب التونسيين المعارضين يخرجون من تونس ويجدون في المغرب ملاذا لهم، وفي فترة معينة أيضا في الجزائر. قيادات من المعارضة أيضا، خصوصا الإسلاميين، ذهبوا إلى الجزائر. لكن الأخيرة، حين وقع انقلاب 1991، شهدت فرار الإسلاميين. أما في المغرب فلم يأتيه السياسيون، وإنما الطلاب والباحثون أو لنقل، نخبة شابة”.
والبعد الثاني للموضوع، حسب السليمي، أنه “في الصحافة المغربية وقتها، أذكر الاتحاد الاشتراكي، العلم، وأنوال، الصحف الرئيسية في البلاد وقتها كانت معارضة، وكانت تنتقد الأوضاع الحقوقية في تونس، وكان المنصف المرزوقي (رئيس تونس الأسبق)، يزور المغرب، وتنظم له الجمعية المغربية لحقوق الإنسان مؤتمرات صحفية، وكذلك المنظمة المغربية لحقوق الإنسان”. متابعاً: “عموما، كانت العلاقة بين النظامين التونسي والمغربي وقتها، علاقة متوترة، ولكن في الوقت نفسه، كانت محافظة على درجة معينة من حدود التوتر، دون الانزلاق بشكل كبير إلى الصدام المباشر على مستوى الملك والرئيس، اللذان كانا يحضران القمم المغاربية مع بعض”.
وقتها، يقول السليمي: “كانت هناك قمم مغاربية عقدت في الدار البيضاء والجزائر، وكانت تجمع الحسن الثاني وبن علي، لكن العلاقة بنهما لم تكن جيدة بشكل عام، ويمكن القول إن هذا المناخ المتوتر بين البلدين، سمح للعديد من الشبان التونسيين، أن يتواجدوا في المغرب، ومن ضمنهم حتى من أصبحوا وزراء في الحكومات ما بعد الثورة، ربما عددهم 12 وزيرا درسوا في المغرب”.
وأغلب هؤلاء، حسب السليمي، “من جماعة النهضة، والبعض منهم من نداء تونس، حزب الباجي قائد السبسي”، موضحاً في هذا السياق: “أنا تعرفت على السبسي في الرباط. فقد كان في وقت معين مغضوبا عليه في تونس، وكان يزور المرحوم مولاي مصطفى العلوي في الرباط، وفي إحدى المرات أواخر التسعينات، اتصل بي العلوي، وقال لي إن عنده ضيفا ويريدني أن أتعرف عليه. ذهبت إلى منزله، ووجدت الباجي قائد السبسي، تعرفنا على بعض”.
وإلى جانب السبسي، يقول المتحدث: “كان محمد مواعدة، زعيم حزب حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، وُلد ابنه طارق في المغرب”، وهو نفسه “كان يأتي دائما للمملك، حضر في مقر مركز دراسات الوحدة العربية، وكان ينظم ندوات هناك”، مشيراً إلى أن “النخب السياسية المعارضة بمختلف تياراتها، كانت تأتي إلى الرباط، سواء المفكرين أو السياسيين أو الطلاب. المغرب كان يأتيه طيف من الشبان والباحثين والمعارضين لنظام بن علي، والذين سيتحولون فيما بعد، إلى مؤثرين في المشهد السياسي التونسي، بعد الثورة”.
الهوية.. تكامل أم تمزّق؟
وبخصوص المدة التي عاشها في المغرب، أوضح منصف السليمي: “عشت من 1985 إلى 2004، يعني تقريباً عشرين سنة. تزوجت هنا في المغرب. ومدينة فاس كانت مدينة خاصة بالنسبة لي، لأن زوجتي منها، وهي من أسرة مغربية تونسية مختلطة. كما أني درست في فاس الحقوق. أولادي الكبار ولدوا في الرباط، وهم يعتبرون أنفسهم رباطيين، ومنهم الدكتورة صوفيا، التي تزوجت الصيف الماضي، واخترنا إقامة الحفل في الرباط، رغم أنها تزوجت ألمانيا. كما أن ابني الكبير مازن ولد في الرباط هو الآخر، فيما ولد ابني الصغير في ألمانيا”.
أما فيما يخص شعوره بشأن هويته، وما إن كان هناك تكامل بين مكوناتها أم تمزّق، أوضح: “هذا سؤال صعب. أنا حاليا أجتهد لبلورة رؤية للهوية التي أحملها في وضعي الحالي. أنا خرجت من تونس التي تكونت فيها تكويني الأولي، شابا، الظروف دفعتني للخروج، وغادرت بنوع من المعاناة. جئت بعدها إلى بلد مث المغرب، الذي أعطاني فرصة للتكوين وهو مدرستي في الإعلام. منحني فرصة في الحياة فترة العشرين عاماً من الشباب. استفدت من المغرب، وبالتالي فأعتبر أن فترتي في المغرب لها مكانة قوية في نفسيتي. ذهبت إلى دبي لسنة ونصف، لم أشعر بأنه من الممكن الاستمرار طويلاً هناك، لأنها كانت مكانا للتجارة والعمل ليس أكثر”.
اخترت بعدها، يتابع السليمي: “أن أهاجر إلى ألمانيا، وهو بُعد مهم، فبالإضافة إلى المسار المهني الذي شعرت فيه بمكانة أكبر في ألمانيا، لأن هنا مكافأة على العمل الذي تقوم به، وحسن تقييم للدور الإعلامي، يعني مهنيا أنت تكافؤ بقدر العمل الذي تقوم به. لكن بعد ذلك عندما حصلت على الجنسية الألمانية، شعرت أني مواطن كامل. أقوم بممارسة حياتي ولا أشعر أن علي ضغطاً أو أنك إن اخترت التحزب مثلاً، يمكن أن تتأثر حياتك المهنية. بأت أشعر بحياتي المدنية. لأني في المغرب مثلا، كنت أتصرف كصحفي أو طالب أو باحث، هذا هو سقف النشاط، لأنه لم يكن بإمكاني القيام بنشاط ثقافي مثلا، أو تنشط في المجتمع المدني. لا تشعر بأنك أنه يمكنك الاندماج المدني الحديث”.
وأضاف: “بينما هنا في المجتمع الألماني، بعد الحصول على الجنسية، صرت أملك حقوقا، ولهذا أسست المؤسسة المغاربية الألمانية للثقافة والإعلام، لأني هنا شعرت أنه بإمكاني العمل، والمساهمة ثقافيا في ربط النخب والمجتمع المدني في البلدان المغاربية بألمانيا. لذلك أنا يمكن أن أعطي خلاصة لهوتي: أشعر أن لدي هوية هي مزيج بين الهوية الألمانية المغاربية. وأنا فعلا أشعر بتنوع وثراء حتى في البيت، ولا نشعر بأي تمزق أو عناء، بل بأريحية كبيرة”.
أين سؤُدفن؟ السؤال المؤرق!
واستدرك: “لكن، هنالك سؤال أنا أفكر فيه دائما، وكنت في الفترة الأخيرة مع أحد المثقفين هنا، أتناقش فيه معه، وهو مسألة الدفن والموت. أنا ناقشت الكثير من الناس الذين وصلوا إلى سن متقدمة هنا، من أجيال العمال المغاربة والتونسيين والجزائريين، ويكون قد بنى داره هنا وأولاده كبروا، بخصوص سؤال: أين سأدفن؟ هل أدفن بجوار أمي وأبي وجدي وعائلتي في المكان المعين؟ أم أدفن حيث أولادي، حيث يزورونني؟ ولكن هذه المقابر التي توجد هنا، يجب دفع المال لأجلها، ويمكن بعد عشرين سنة أو ثلاثين، لن يبقى القبر، وقد تباع الأرض التي كان فيها”.
لهذا السبب، حسب السليمي: “من الصعب الإجابة عن سؤال الهوية، لأنه يمكن أن أجيب الآن لأني أشعر بهذه الأريحية، ولكن بعد سنوات، قد أشعر بضيق حين أسعى لاختيار مكان الدفن. الهوية ليست فقط ما تعيشه الآن أو تشعر به، أو ما تفكر به أو عنصر الانتماء الحالي. لكن أيضا المآل في الأخير. لذلك أعتبر أن مسألة الهوية معقدة جدا. وينبغي التفكير فيها من جديد”، متابعاً: “ألاحظ أياض عند أولادي، الذين ولدوا في المغرب، هم يعتبرون أنفسهم مغاربة. ويتصرفون باعتبارهم مغاربة. وابني الذي ولد في ألمانيا، يشعر أنه ألماني حاليا، ويجيب بأنه ألماني إن سئل عن هويته، ولكن حين يصل إلى سن الوعي الكامل، قد يقول إنه ألماني من أصول كذا…”.
شخصية الإنسان نتائج لاختياراته وبيئته ومساره
وواصل السليمي في سياق متّصل: “شخصية الإنسان، هي بالأساس ذاته وطموحه واجتهاده واختيارته وقراراته. بعدها يأتي المكان والمحيط والمجتمع الذي يعيش فيه والبيئة التي يعيش فيها، هي تساهم بشكل كبير في تشكيل تلك الشخصية. أسرتي وعائلتي في الرقاب في تونس لعبت دوا كبيرا في تشكيلها. ومسار أمي وتضحيتها، وهي أمور أرغب في الكتابة عنها يوما ما، لعبت دورا كبيرا في تشكيل الشخصية التي أنا عليها الآن”.
وتابع: “حين دخلت مرحلة الشباب والعنفوان، وخصوصا في الجامعة، احتكيت بالطبقة السياسية والحراك الاجتماعي، وبدأت تتشكل شخصية أخرى ومنها أنا اكتسبت أشياء جديدة. أعتقد أن طبيعة المجتمع التونسي المنفتحة والمتفاعلة لعبت دورا كبيرا في إعطاء شخصية منفتحة قادرة على التأقلم مع أشياء كثيرة وقادرة على التكيف في أي مكان، وربما هذا الأمر من مكاسب التعليم في تونس”، مردفاً: “بعد ذهابي إلى المغرب، وجدت فيه التوازن، ففي تونس مثلا كان هناك صراع بين الدين والسياسة والعلمانية، وكانا حادا ودمويا في الجامعة مثلا. في المغرب، وفي المدينة القديمة بالرباط مثلا، تشعر بالهوية والتراث، وهو شعور مختلف عن ما كنت أشعر به في تونس. بيئة المغرب فيها تراث وثقافة ودين، لهذا شعرت بالتوازن في حياتي المجتمعية بالمغرب”.
المغرب، التوازن بين الحداثة والتراث
ويقول السليمي: “في التسعينات، حين كنت لا أملك جواز السفر، ولم أكن قادرا على مغادرة المغرب، كنت أتفق مع الجريدة التي كنت أشتغل فيها، على السفر كل أسبوعين إلى إحدى مناطق المغرب العميق، لعمل روبورتاج، فكنت أكتشف المغرب، ويمكنني القول إن عدد الأماكن التي زرتها في المغرب، لم أزرها في تونس، بل أعتقد أنه لا توجد عمالة إلا وزرتها. وقد وجدت في هذه المناطق، ثقافة محلية. هذا الأمر لم يكن موجودا في تونس، حيث دمرت الدولة الحديثة جزءاً كبيراً منها، لأن الحداثة في تونس بنيت على هدم التقليدية في المجتمع، مثل الأغنية الشعبية والمؤسسة الدينية التقليدية، حتى الأسرة في تونس أصبحت على النمط الفرنسي هي أسرة من أب وزوجة وثلاثة أطفال على الأكثر”.
أما في المغرب، يوضح الإعلامي نفسه: “الوضع مختلف. هناك عائلات مغربية تعرفت عليها واحتضنتني وكنت أذهب إليها بدون حتى أن يعرفوني، وشعرت بنفسي جزءاً منهم. لاحظت ذلك التضامن. حين تسمع الإيقاع الموسيقي لمحمد رويشة رحمه الله، تشعر بشيء عميق في داخلك. إنها الخصوصيات الثقافية المحلية. هذه الخصوصيات كانت موجودة في منطقة الرقاب التي ولدت فيها، لأن الدولة لم تنجح في اختراقها، إلى الآن. لهذا أعتقد أن جزءاً كبيرا من التونسيين الذين هاجروا إلى المغرب، لم أقم بدراسة ولكن عندي بعض المؤشرات، هم ينحدرون من مناطق عميقة في تونس. كما أن 11 في المائة من التونسيين هم من أصول مغربية. هذا التواصل العميق المجتمعي يمنحك دفءا كبيرا”.
مرحلة الجامعة، الجابري والعروي والقادري
وبخصوص مساهمة مرحلة الجامعة في تكوين شخصيته: “نعم، دراستي في الجامعة ساهمت. كنت محظوظا أني التقيت بأساتذة كبار في الجامعة، وتجربتي المهنية في المغرب أعطتني شيء أعتقد أنه من الصعب تكراره، لأني مثلا، أتيحت لي فرصة أن أكون على اتصال مع المرحوم عابد الجابري، وعبد الله العروي. خصوصا الجابري، الذي كان لي علاقة شخصية معه. لما تتصل وأنت شاب بواحد مثل هذا الرجل المتواضع، والمفكر العميق، حتما ستستفيد منه. كما أني كنت محظوظا أني درست عند المرحوم عبد الرحمان القادري، عضو اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي”.
كان القادري، يضيف السليمي: “يستضيفنا في بيته كل أسبوع، نحن الطلبة الأجانب، وما زلت أحتفظ بذكريات جميلة معه. فيما بعد ساعدني العمل في جريدة الشرق الأوسط، لأنها كانت تحافظ على مسافة من الأطراف السياسية الداخلية في المغرب، لأنه لو انغمست وقتها في تجربة صحفية محلية ربما كانت الأمور ستحو بي في منحى آخر غير الذي أنا عليه الآن”، مسترسلاً: “من الأشياء التي تأثرت بها بشكل كبير هو وجود نخب كبيرة مغربية مثقفة في الجامعة، التي كانت غنية جداً. لقد كانت في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، مختبرا كبيرا للمفكرين والباحثين من مختلف أنحاء العالم العربي، وهو ما يعطيك فرصة لا تعوض”.
وأشار إلى أن “هذه الصورة ربما اهتزت أو تأثرت، فأنا كتونسي، نظرة المغرب للتونسي ساعدت كثيرا في نجاحه. المغرب يثق في التونسي كصحفي أو كغير صحفي. في المنطلق لأن العلاقة كانت دافئة جداً تاريخيا، والعلاقة كانت عميقة وهناك تداخل كثير بين العائلات، وهناك قواسم مشتركة. في تونس هذا الشعور لا تجده عند الجميع، هناك فئة معينة تشعر بدفئ أكبر مع المغرب، وقرب منه، وثقة فيه، لكن في السنوات الأخيرة هذا الأمر تضرر بشكل كبير، وصارت النظرة فيها كثير من الريبة وعدم الثقة وأحيانا صراعية، بسبب تداخل عدة عوامل منها السوشيال ميديا”.
وبالرغم مما شهدته العلاقات بين البلدين في الفترة الأخيرة، إلا أن السليمي يقول: “تاريخيا في التوجهات الاستراتيجية في سياسة تونس، كانت قائمة على التقارب مع المغرب، أقصد هنا التوجهات الأساسية التي تأسست عليها الدولة الحديثة في تونس، وبالضبط خلال مرحلة الراحلين بورقيبة والحسن الثاني. هذه الأسس انطلقت طبعا مع الحركة الوطنية، ولكن بدايتها كانت بعد استقلال البلدين”.
لهذا، يؤكد السليمي: “الدبلوماسية التقليدية التونسية العيمقة، وهي التي تجدها في الدولة العميقة في تونس، وعند النخب المثقفة والنخب السياسية والنخب الإعلامية، تضع العلاقة مع المغرب في خانة العلاقة الاستراتيجية الدائمة التي لا ينبغي أن تُضرب. لماذا؟ لأنه في عمق الأمن القومي التونسي في المنظور الكلاسيكي، سواء عند المؤسسة العسكرية في تونس أو المؤسسة الدبلوماسية ينبغي أن تحافظ على علاقات توازن مع الجزائر وليبيا والمغرب”.
الأمن القومي لتونس يحتاج إلى المغرب
وأشار أيضا، إلى أن “تونس تقع بين جارين كانا في السبعينات والثمانينات نظامان عسكريان شرسان، وأحيانا يتدخلان في الشأن التونسي الداخلي، لهذا كانت العلاقة مع المغرب بمثابة الدرع. وهنا أذكر الأحداث التي شهدتها سنة 1980 عندما دخل كوماندوز بدعم من ليبيا والجزائر، إلى مدينة قفصة، في محاولة انقلابية على بورقيبة. وقتها تدخل المغرب وفرنسا وبعث قوات جوية لنجدة الرئيس. هذه الحادثة تعطيك السبب الرئيسي لكون الأمن القومي التونسي يحتاج إلى ألا ينحرف في نظرته الاستراتيجية، لأنه إن انحرف، يمكن أن تتعرض الدولة إلى خطر شديد. ولهذا كان موقف تونس من نزاع الصحراء، دائما موقف حياد إيجابي”.
وبخصوص تعريفه للحياد الإيجابي، يقول السليمي: “الحياد الإيجابي في الفلسفة الدبلوماسية التونسية، هو إن كانت هناك إمكانية لتقريب وجهات النظر بين الجزائر والمغرب، فستقوم بذلك الدولة. لكن لا يجب أن تقوم بأي دور من شأنه أن يعمق الخلاف، أو ينحاز، خصوصا لأطروحة الانفصال. لأنه بورقيبة في مواقف عديدة عبر عن رفضه لقيام دولة في الصحراء، لهذا السبب، لم تستسغ النخب التونسية موقف الرئيس قيس سعيد من استقبال زعيم البوليساريو”.
وبشأن ما إن كانت أحداث الربيع العربي، التي انطلقت من المنطقة التي ولد فيها سيدي بوزيد، قد فاجأته، أوضح السليمي: “أنا كنت مدرك لتفاصيل المعاناة والقمع الشديد الذي كان يطال كل الأسر التونسية. الظلم كان عميقا في المجتمع. أنا مثلا، فقط لأني كنت أعيش في المغرب بدون جواز سفر، بعض من أفراد أسرتي، لم يكن مسموحا لهم بالاشتغال. في إحدى المرات ذهبت زوجتي مع ابني مازن، كان وقتها بعمر ثلاث سنوات. كان الحرس الوطني يأتون لمحاولة التحقيق معه، رغم أنه لا يتجاوز الـ 3 سنوات. يعني أن القمع كان عميقا في المجتمع إلى درجة كبيرة. لكن في المقابل، قوة النظام جعلتني لا أتخيل وقوع ذلك”.
وذكر السليمي أن “الفساد وسط النظام لعب دورا كبيرا في انهياره. وهو من أوصل الوضع إلى المساس بالمعيش اليومي للتونسيين، والتسبب في غضب عارم وسط الناس”، كما أن هناك عاملا آخر، وهو “أنه في داخل الدولة، كان هناك تيار، لم يعد مقتنعا بأن الدولة قادرة على الاستمرار في الوضع الذي كانت تمر به وقتها، وهو ما دفعه إلى الانقلاب، وإزاحة بن علي، لهذا كانت تكلفة القتلى والمصابين محدود وسريعة، عكس ما حدث في ليبيا أو سوريا”.
تعليقات الزوار ( 0 )