Share
  • Link copied

مقترحات تعديل المدونة والتأسيس لمفهوم الدولة الدينية

لقد سال من المداد الكثير، وتنوعت النقاشات بخصوص تعديل مدونة الأسرة، لاسيما بعد اللقاء التواصلي الذي خصص لعرض المضامين الرئيسة لمقترحات مراجعة المدونة يوم 24 دجنبر 2024، والذي ضم من المسائل المثيرة للجدل، لاسيما التي أفتى فيها المجلس العلمي الأعلى؛ وعليه، رغم تأكيد الملك، أكثر من مرة، على أهم مبدأ وقاعدة سيؤطر تعديل مدونة الأسرة بالقول: “لا أحل حراما، ولا أحرم حلالا”، إلا أن المسائل 16 التي عرضت على المجلس العلمي أثارت نقاشا فقهيا، خاصة أنه لم ينشر، إلى حدود اللحظة، فحوى الفتوى كاملة والأدلة المعتمدة لترجيح رأي على آخر، حتى أنه خرج أكثر من متخصص في الشريعة الإسلامية، فضلا عن مهتمين بالفقه، بل عامة الناس، يؤكدون أن معظم هذه المسائل خالفت القاعدة الذهبية وقد حرمت ما أحل الله وحللت ما حرم الله.

وفي المقابل، نجد من خاب ظنه في التعديلات المقترحة التي لم تواكب تطلعات الحركة النسوية والحداثية، ولكن اعتبر ما تم الاجتهاد فيه خطوة إيجابية لتحقيق المناصفة والمساواة المنشودتين في قادم الأيام، مع دعوة الهيئات العلمية إلى ضرورة الاجتهاد أكثر حتى يتم إقرار قانون يواكب تطورات الحياة وتجاوز كل النصوص القديمة التي لم تعد تناسب العصر الحديث، لاسيما التي تتعلق بحقوق المرأة.

وفي سياق كل هذا الاختلاف بين التيار المحافظ والتيار الحداثي نجد أنفسنا مضطرين لاتخاذ موقف من النقاش القائم بشكل عام، ومن مقترحات مراجعة مدونة الأسرة بالأخص، لأن نصوص قانون مدونة الأسرة تسري على الجميع دون استثناء، بل تنظم حتى حال المرء قبل ولادته وبعد وفاته، فضلا عن حياته وعلاقته بمحيطه (للتنبيه فقط، فإنه نقصد بالتيار الحداثي ذلك التيار الذي يتخذ من القيم الغربية مرجعا، وإلا فإن الحداثة لا تعني بالضرورة تقليد الغرب كما يقرر الفيلسوف طه عبد الرحمن حفظه الله).

وعليه، فإن التفاعل مع تعديل مدونة الأسرة، شئنا أم أبينا، نستحضر فيه عند تقييمه، أو تقديم اقتراحات بخصوصه، معتقداتنا وقناعاتنا بوعي أو بدونه؛ ذلك أن الإنسان في هذه الحياة يؤمن، بالضرورة، بشيء مهما حاول اعتبار نفسه فوق التموقع في زاوية معينة، بل يجوز لنا ادعاء أنه يعبد شيئا ما مهما حاول تبرئة نفسه من عبادة اللاشيء، وذلك مصداقا لما قرره الله في كتابه الكريم في أكثر من آية، حيث يقول الله عز وجل: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ”؛ ما يعني أن الإعلان عن المرجعية في بناء الموقف أمر في غاية الأهمية، ويعفينا من الجدل العقيم، وإلا فإن الاختباء وراء الشعارات الفضفاضة والتنابز بالألقاب وتوزيع التهم بين مكونات المجتمع لن يصنع حضارة ولا يبني أجيالا سليمة؛ وهذا لا يمنع من وجود اختلاف وخلاف في المرجعيات، بل هذا الاختلاف سياهم في بناء مواطن ذا وعي ثاقب يعرف هدفه جيدا ولا تنطلي عليه الخطابات البراقة التي تأتي من هنا وهناك.

وبالتالي، هذه المرة، فإن التفاعل مع تعديل مدونة الأسرة سيكون من زاوية أخرى مخالفة للغوص في تفاصيلها، بل سيكون التركيز على ما يصاحب تعديل هذه المدونة، والذي سيكشف عن اتجاه جديد في فلسفة لتسيير الدولة، وبدون شك فإن ما سيؤطر نقاشنا هو محاولة النظر إلى الخلاف القائم حول مدونة الأسرة من زاويتين متباينتين وهما: المرجعية الإسلامية والمرجعية العلمانية؛ بكل تأكيد، فإن كل واحد منا يفهم هاتين المرجعتين بشكل مغاير إلا أنه سنحاول الاعتماد على ما هو متفق عليه.

كما هو معلوم، رغم أن مدونة الأسرة تعتبر كأي قانون عادي، إلا أن مضمونه يجعل منها موضوع القاصي والداني، فضلا عن كون المرجعية التي اعتمدت في صياغتها أول الأمر هي المرجعية الإسلامية؛ بمعنى أن تعديلها يعني في نظر الأغلبية تعديل لما نص عليه الإسلام بخلاف القوانين الأخرى التي صارت في نظرهم غير معنية بتلك المرجعية، كأن الإسلام لم يحدد المبادئ والقيم التي تؤطر المعاملات الأخرى، بل الكثير يجهل ذلك التنصيص على قواعد معينة بشكل من التفصيل أفضل بكثير من بعض القوانين المعمول بها اليوم، كالمعاملات المالية مثلا.

وعليه، صار النظر في نصوص المدونة من كلا الطرفين، أي المحافظين والحداثيين، لا ينفك من استحضار النصوص الشرعية وتفسيرها، بل تأويلها، بما يناسب كل تيار، لاسيما أن الحديث في تعديل مدونة الأسرة دون الاستناد على هذه النصوص أمر مرفوض مجتمعيا، ويشكل عائقا حقيقيا لإقناع عامة المواطنين والمواطنات؛ ولعل هذا ما يفسر استبشار الحداثيين ببعض المسائل المفتى فيها من قبل المجلس العلمي الأعلى والتي كانت بالأمس القريب عصية عن النقاش، بل اعتبروا ذلك انتصارا لهم، وصاروا يحثون ويطالبون بالاجتهاد الفقهي أكثر لقبول بعض الأمور المعروضة للنقاش من طرفهم والتي تهم وضعية المرأة بالأخص، والمتعلقة بالإرث وغيره.

وفي المقابل، نجد أن جزءا كبيرا من التيار المحافظ لم يستسغ تلك المسائل التي أفتى فيها المجلس العلمي الأعلى، واعتبرها خارجة عن النص الشرعي، وأن الاجتهاد فيها أمر مرفوض، لأنه تعدي عن حدود الله ومخالفة للقاعدة الذهبية السالف ذكرها، وأن الفتوى لم تكن تخرج بتلك الصيغة لولا الضغط، وغيره من الكلام الذي قيل هنا وهناك.

ولعل هذا السياق والنقاش ساعد على إقحام النقاش عن مفهوم الدولة من جديد، وما الوصف الذي يليق بها، وهل حقا نحن دولة إسلامية كما ينص الدستور، أم أن وصف وزير الأوقاف أحمد التوفيق المغاربة بالعلمانيين بدا تظهر ملامحه ونتائجه تتحقق؟ بمعنى أن السماح بإدخال تعديلات جديدة على المدونة وبالصيغة التي بدأت تظهر يعتبر إيذانا بعلمنة قانون الأسرة في نظر المحافظين، وسيرا إلى بناء دولة حداثية ديموقراطية في نظر الحداثيين؛ إلا أن السؤال المنطقي الذي يجب طرحه: هل هذا الأسلوب المعتمد في إقرار قانون مدونة الأسرة يتماشى مع مفهوم الدولة العلمانية الحداثية، بل هل يُقبل العمل به في الدولة الإسلامية؟أكيد أن التشريع في الدولة العلمانية لا يُؤمن فيه بشيء اسمه شريعة ولا فقه ولا دين، بل كل ما في الأمر هو ما توافق عليه ممثلو الأمة دون النظر فيما يقوله الدين أو رجاله؛ ذلك أن أصل الدولة العلمانية يعود لثورتها ضد رجال الكنيسة الذين كانوا يحكمون باسم الله ويوجهون الدولة وفق أهوائهم، دون الحق في نقدهم ولا تصحيح أفعالهم، لأنهم بكل بساطة يعتبرون أنفسهم ينوبون عن الله في التحريم أو التحليل، بل يدعون امتلاك مفاتيح الجنة والنار، فيدخلون من شاؤوا ويطردون من أرادوا.

وفي المقابل، في الدولة الإسلامية لا يحق للإنسان التشريع إلا إن كان في ضوء المبادئ الكبرى التي نص عليها الإسلام دون مخالفة النص الشرعي، لأنه لا اجتهاد مع النص كما هو معلوم، وهذا ما أكده الملك في أكثر من مناسبة؛ ومن باب التذكير فقط، لابد من التفريق بين مفهوم النص عند الفقهاء والنص كما يتداوله عامة الناس، إذ أن النص المقصود هنا هو ذلك النص الشرعي، سواء آية قرآنية أو حديث شريف، والذي يدل على معنا ذو دلالة واضحة، لا يقبل التأويل ولا يحمل أي وجه آخر؛ وعليه، فإن الحاكم أو العالم الفقيه في الدولة الإسلامية لا يملك من الحصانة لجعل كلامه منزها عن الخطأ أو الانتقاد أو مناقشته وهكذا؛ بل التاريخ الإسلامي سجل أن الرسول عليه الصلاة والسلام تم استفساره من قبل أصحابه عن قراراته إن كانت وحيا يجب الالتزام به أم رأيا رءاه حتى يتم مناقشته والإدلاء بما يرونه مناسبا.

لكن ما أفرزه النقاش حول تعديل مدونة الأسرة، لاسيما ما رأيناه من دفاع مستميث من البعض عن ما نسب من فتاوى للمجلس العلمي الأعلى، حتى سجلنا من استنكر مناقشة ذلك على غير الهيئات الرسمية المغربية، وكأن الأمور الفقهية محصورة على علماء المغرب دون سواهم، بل محصورة على العلماء الرسميين وفقط؛ وفي المقابل، استغربنا إلحاح من يسمون أنفسهم “حداثيون أو علمانيون” على العلماء الاجتهاد لدعم مطالبهم بفتوى تجيزها كأمر إلغاء التعصيب وإلغاء النص القرآني “للذكر مثل حظ الأنثيين” وغيرها من النصوص بمفهومها الفقهي الذي ذكرناه أعلاه؛ والحال أن مفهوم الدولة الإسلامية في تناغم تام مع فتح النقاش والانتقاد، بل الاعتراض على كل ما يهم الشأن العام، وبالتبع القواعد القانونية التي بدت المقترحات بشأنها مخالفة للنص؛ وفي المقابل، ألا يعتبر تيار الحداثيين والعلمانيين متناقض مع نفسه وهو يدعو العلماء والفقهاء، أو رجال الدين كما يحلو لهم تسميتهم، الاجتهاد لإصدار فتاوى دينية تبرر ما أنتجه الاجتهاد البشري وجعله يحمل صفة دينية تخالف مقومات الدولة العلمانية الحديثة؟

وبخلاصة، إن الأسلوب الذي يدافع به أنصار المقترحات الخاصة بمدونة الأسرة، سواء ممن يعتبرون أنفسهم يمثلون الشريعة ويدافعون عن أي اجتهاد آت من الجهات الرسمية، أو ممن يحسبون أنفسهم على العلمانيين والحداثيين، لا ترقى إلا أن تكون اللبنة الأولى لبناء دولة دينية، يكون فيها الاجتهاد محصورا على فئة معينة دون غيرها، بل في أمور يراها العامي وغيره مناقضة لما يسري عليها القاعدة “لا اجتهاد مع النص”؛ أي الاتجاه في ترسيخ فكرة احتكار الحديث باسم الله، كما كان الأمر عليه في الدولة الدينية التي عرفتها أوربا مثلا؛ ولكن الغريب من كل هذا هو إلحاح العلمانيين على الفقهاء الاجتهاد لمخالفة النص، والافتاء بجواز مقترحاتهم، متناسين أن الإفتاء في عمقه وفلسفته ما هو إلا الكشف عن حكم الله في نازلة ما من قبل المجتهد والعالم، والتي لا تكون في الإسلام إلا وفق ضوابط صارمة جدا، بل الفقهاء المتمكنين يتهربون من الفتوى خوفا من التقول على الله بدون علم في النوازل التي لم ينص القرآن أو الحديث على حكم فيها.

وختاما، نقول: إن كانت الحياة تعرف تطورا وتغييرا يجعل من القوانين المنظمة لعلاقات الأفراد تحتاج للتعديل والمواكبة، فإن مدونة الأسرة لا ينبغي استثناءها من ذلك، إلا أنه لابد من استحضار ما نص عليه الإسلام في مختلف الجوانب إن نحن حقا نؤمن بأن المملكة المغربية دولة إسلامية؛ كما ينبغي للمدافعين على التوجه الحكومي، سواء المحافظين منهم والحداثيين، عدم الوقوع في بدء الخطوات الأولى للدولة الدينية التي لا يقبل بها الإسلام ولا العلمانية؛ ذلك أن الإفتاء تحت الضغط لمباركة توصيات المؤسسات الدولية وتوجهات العلمانيين رغم مخالفتها الصريحة للفقه الإسلامي ما هو إلا أمر مشابه لما كانت عليه الكنيسة في أوروبا التي كانت تُستغل للتحكم في الشعوب والقضاء على كل معارض مهما كانت حجته قوية.
اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.

Share
  • Link copied
المقال التالي