شارك المقال
  • تم النسخ

مغامرة رئيس مجلس النواب الفاشلة في تعريف مهمة المجلس الأعلى للحسابات

إهداء إلى السيد رئيس مجلس النواب الذي يريد إعادة تعريف مهمة المجلس الاعلى للحسابات (20 يونيو 2023) فكانت مغامرته فاشلة ومكشوفة الدوافع والأغراض! مما اضطره (أو دفع إلى ذلك دفعا) إلى التنصل منها وكأن شيئا لم يكن(تصريحه لموقع 360 يوم أمس 26 يونيو 2023)؟!

يسألونك عن مهمة المجلس الأعلى للحسابات

لا يمكن فهم مهمة واختصاصات المجلس الأعلى للحسابات بعمق، تمهيدا لتحليلها وتقييمها، بدون الانتباه،من زاوية شمولية بنيوية، إلى وعائها وخصائصها العامة ،والتي تتلخص في مهمته الرسالية البالغة الأهمية، وفي ازدواجية طابعه التنظيمي وتنوع اختصاصاته وتداخلها واتساعها:

المهمة الرسالية:

لا تنفصل المبادئ والقواعد والمفاهيم التنظيمية والتسييرية والوظيفية والقانونية والمسطرية لاختصاصات المجلس الأعلى للحسابات عن الانشغال الرسالي الأساسي لهذا المجلس، ألا وهو الرقابة العليا المستقلة والفعالة على المال العام، من أجل ترسيخ الشفافية والمحاسبة وحكم القانون في دواليب الدولة والمرافق العمومية، خدمة للحكامة الرشيدة والنزاهة في تدبير الشأن العام والمال العام، باعتباره جهازا أعلى للرقابة والمحاسبة وفق الاصطلاح المتعارف عليه عالميا،وبحسبانه عمادا من أعمدة النظام الوطني للنزاهة وأساسا من أسس البنية التحتية الأخلاقية للدولة؛

ومن هنا فإن الغرض من خلق المجلس الأعلى للحسابات هو المساعدة ، من موقع موضوعي ومحايد، في المحافظة على استقرار النظام العام المالي للقطاعات الإدارية والمالية العامة، وعلى سلامة ما يرتبط به من قواعد قانونية وضوابط تنظيمية وإدارية، وهو ما يشكل جزء لا يتجزأ من استقرار وطمأنينة الفرد والمجتمع لقاء وفاقا للمساهمات الضريبية والمالية المؤداة للدولة ومشتقاتها . وسلاحه في ذلك غطاؤه الشكلي الموزع بين الطابع القضائي والطابع غير القضائي، واندماج وتوسع وظائفه واختصاصاته.

ازدواجية الطابع وتنوع الاختصاصات وتداخلها واتساعها:

بداية ينبغي القول إن المجلس الأعلى للحسابات يكتسي طابعين مندمجين، قضائي وغير قضائي:

1) أرجحية الطابع القضائي الذي يتجلى على مستوى تنظيمه الثنائي التركيبة المكون من قضاء جالس وقضاء واقف، ومن هيئات جماعية تداولية جلها قضائي، وعلى مستوى تشكيلته المؤلفة من أعضاء فنيين مختصين في المراقبة والمحاسبة، يتوفرون على الصفة القضائية، لكنهم منتظمون في إطار هيئة خاصة هي هيئة قضاة المحاكم المالية، المنفصلة عن هيئة رجال القضاء، وعلى مستوى الاختصاصات والمساطر فإن جزءا هاما منها يكتسي صبغة قضائية. أما خصوصية التنظيم القضائي فتتمثل في وجود مجالس قضائية مالية خاصة متخصصة ليست مدنية وليست جنائية، ولا تتبع لهرمية النظام القضائي المتعارف عليه، ولا سلطة لوزير العدل على نيابتها العامة،ويعبر اللبوس التنظيمي القضائي عن خيار مقتبس عن النموذج الفرنسي اللاتيني لأسباب تاريخية، الهدف منه أن يتسلح المجلس الأعلى للحسابات بضمانة أكيدة لتأمين استقلاله عن كل من السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وبالتالي صون حياديته في أداء عمله، ويتجلى الطابع القضائي عملياتيا في اختصاص ومسطرة المراقبة القضائية للحسابات التي يدلي بها المحاسبون العموميون سنويا للمجلس كواجب من واجباتهم الوظيفية الملزمة ، وفي اختصاص ومسطرة التأديب المالي إزاء المسؤولين والموظفين العموميين، وهذا الاختصاص مندمج ضمن الاختصاصات القضائية للمجلس، في حين أن لفرنسا محكمة تأديبية مالية خاصة منفصلة عن المجلس الأعلى للحسابات الفرنسي ، وإن كانت تربطها به روابط بشرية ووظيفية. ومع أن كتلة الاختصاصات القضائية للمجلس تندرج حسب معظم الفقه في باب القضاء الإداري المتخصص ولذلك تنظر الغرفة الإدارية بمحكمة النقض -في انتظار تأسيس مجلس الدولة- في قراراته على مستوى النقض فقط، فإنه بالمعنى الوظيفي الضيق قضاء من نوع خاص، لا يمكن مماثلته بأي قضاء آخر.

أما الطابع غير القضائي للمجلس فيتمثل في كتل من الاختصاصات الرقابية الإدارية(2) والتخليقية (3) الاسنشارية (4):

2) تنطوي الاختصاصات الرقابية الإدارية على اختصاصات ومساطر متداخلة تنظيميا ووظيفيا ومسطريا مع الاختصاصات الرقابية القضائية، وهي صنف جوهري ووازن من مهام المجلس الأعلى للحسابات وتتلخص في المراقبة الإدارية للتسيير وتقييم البرامج والمشاريع العمومبة ( وهي التي أثارت وتثير الجدل المستمر حول مخرجاتها بين من ينتقد محدودية مآلاتها ومن يحرض علي هذه المخرجات لذاتها ويتمنى تقييدها وربما محوها من الوجود)، وهي تنصرف إلى افتحاص أو تدقيق التدبير العمومي وتقويم أدائه ،من أجل ترشيده وتحسين مردوديته، وتخضع لمقتضيات فنية مهنية تنهل من حرفة التدقيق أوالمراجعة ذات المنشأ الانجلوسكسوني من جهة. ومن جهة أخرى غالبا ما ينتج عنها مخالفات مالية تعاقب ماليا من طرف المجلس أو جرائم مالية تحال على القضاء الجنائي لترتيب الآثار الملائمة. وللمجلس كتلتان أخريان من الاختصاصات غير القضائية جل ما فيهما مستحدث بموجب الدستور الجديد ، وقد بزغت إلى السطح في السنوات الأخيرة، بفضل الطلبات المجتمعية لمزيد من النزاهة والديموقراطية، كتلتان ثالثة ورابعة من الاختصاصا:

3) واحدة ذات طابع رقابي تخليقي مستجد وتنطوي على أهمية حيوية وتتمثل في مراقبة حسابات الأحزاب السياسية وتتبع التصريحات بالممتلكات في إطار تنزيه الحياة العامة ومكافحة آفة الفساد وهذا الاختصاص الأخير يجعل من المجلس مسؤولا مسؤولية مبارة عن مكافحة الفساد المتمثل في الإثراء غير المشروع،

4) الكتلة الرابعة ذات طابع فكري واستشاري تتمثل في بذل المعاونة المدعمة والمتنوعة للبرلمان من خلال توفير الاستشارة الفنية والإسناد الفكري والمعلوماتي في كل ما يتعلق بالرقابة وتقييم السياسات العمومية من شؤون،وتستهدف هذه الكتلة الأخيرة تثبيت وتدعيم مفهوم المراقبة الديموقراطية للحكامة في إطار توازن السلط وتعاونها check and balance ، وقد تعزز هذا المفهوم تأثرا بالحراك الديموقراطي المرافق للربيع العربي، الذي ظهر في سياقه الدستور الجديد…

فمن المستفيد من المحاولات المتواصلة لتقويض هذا المعمار المؤسساتي الشامخ الذي نباهي به الامم المتحضرة ؟!

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي