نزلتُ من الطائرة قادما من باريس في اتجاه موعد هام في مدينة الدار البيضاء ، ركبت القطار من مطار محمد الخامس بعد أن اشتريت كعادتي بعض الصحف المغربية، وبعد أن اخترت مقعدا في نفس اتجاه القطار حتى لا أصاب بالدوار، بدأت بقراءة إحدى الجرائد وإذا بامرأة شابة بلباس محتشم وغطاء رأس المسمى حجابا عند بعض الناس، تجلس أمامي ومعها طفلة صغيرة تلاعبها وترمقني بنظرات ثم تقول لي “على سلامتك” فأجيبها بكل أدب “الله يسلمك” وأرجع إلى جريدتي لاستكمال ما كنت بدأت بقراءته.
تخاطبني الشابة مرة ثانية معتذرة لتسألني من أين أتيت فأجبتها “من باريس” ظانا مني أنها بحاجة إلى معلومات قد تنفعها، لتستطرد الفتاة لتخبرني أنها أتت لمرافقة أختها إلى المطار وأنها كانت تود لو أن أختها تعيش في باريس وليس في بلد عربي خليجي ، رددت عليها وأنا أكمل قراءة مقالي : “المهم هو أنها تشتغل ولا يهم المكان” ردّت علي معترضة، “بل هذا مهم، ما هي مهنتك؟” أجبتها ثم سألتها “وماذا عن أختك؟” ردت علي بضحكة ساخرة “أنت تعرف في أي مجال تشتغل!!” صدمت من هول الجواب وأغلقتُ صفحات الجريدة، فقد أصبح الحديث مثيرا بل جد مهم.
أخبرتني أن الجميع يعلم بما تشتغل البنت وهي الفتاة الجميلة الفاتنة حسب قولها، وأن الوالدين لا يسألان عن طبيعة عملها، وأن الإخوة الذكور يتحاشون الحديث في الموضوع ما دامت الأخت تعيلهم كما تعيل باقي الأسرة، بل حكت لي أن بعض الجارات تأتين إلى أمها لاقتراح بناتهن، متحدثات عن جمالهن الباهر الذي سيسمح لهن بالنجاح في مجال التجارة والترفيه والتسويق السياحي….أترك لكم التفاصيل.
تخلصتُ من الفتاة بعد أن زعمت أنني سأنزل من القطار في المحطة التالية وكلّي أسى وحسرة على واقع مرير يعيشه العديد من مغاربة العالم ولا يراه أقرباؤهم في الداخل، حجبه الفقر وقد كاد أن يكون فقرا، وغلفته المظاهر الخداعة التي توحي بأن الخارج جنة، وأن الإقامة فيه نعمة، وأن العمل فيه بركة وأن العيش فيه سعادة وهناء.
دفعني لكتابة هذا المقال، كمية الاتصالات التي توصلت بها من بعض مغاربة العالم قلقين بِشأن عملية “التبادل الآلي للمعطيات المالية” بين المغرب وبعض دول الإقامة خاصة تلك التي تبحث للاطلاع عن ممتلكات المغاربة المقيمين بالخارج داخل بلدهم مما سيجعلهم عرضة للمحاسبة والعقاب ،باعتبار العديد منهم يسكنون السكن الاقتصادي ويتلقون الإعانات العائلية والمساعدات الاجتماعية ، ولا يؤدون الضرائب لكن يمتلكون شققا أو فيلات في المغرب، ويدخلون كل صيف على المغرب بسيارات رباعية الدفع، يبيعونها فور عودتهم لقضاء ديونهم المتراكمة .
انتظرت كغيري توضيحا، فقيل لنا إننا نشكر مغاربة العالم، “ياك، أسيدي!”، فقد رفع بنك المغرب توقعاته المتعلقة بتحويلاتهم إلى 71,9 مليار درهم برسم سنة 2021 وأن هذه التحويلات أبانت عن متانة جيدة سنة 2020 إذ ارتفعت بنسبة 5 بالمائة إلى 68 مليار درهم، ويُرتقب أن تصل إلى 73,4 مليار درهم في 2022، لكن لم يصدر عن المسؤولين عن القطاع إلا تصريح يتيم يؤكد أن نصف المهاجرين نساء مهاجرات، ” نعم ألالا ، ومن بعد!” وهو خبر قديم تردد على مسامعي منذ أكثر من عقد من الزمن من طرف مسؤولي مجلس الجالية المغربية بالخارج، وبالمناسبة المجلس وهو مجلس استشاري واستشرافي ، ولو ألا أحد يستشيره أو يأخذ برأيه، ومن ثمة فالمسؤولية عند الحكومة ومن يمثلها.
هذه الأرقام وهذه القصة التي أوردتها يؤكدان على أمر واحد، وهو أن المغاربة المقيمين في الخارج يأكلون العلقم ليساعدوا عائلاتهم في الداخل وليخرجوهم من الفقر، وما تصاعد المبلغ إلا مؤشر على القيام بالواجب في عز أزمة كورونا التي أحس بوجعها الأشدَّ إيلاما الطبقاتُ الفقيرة ُوتلك التي تعيش في الاقتصاد الموازي غير الرسمي، وتبحث عن لقمة العيش عندما تتيه في الصباح خارجة من البيت دون أن تدري ماذا تكسب في يومها فكيف في غدها، فالتجأتْ إلى أهلها ومعارفها من أهلها من مغاربة العالم، فآثروا على أنفسهم في كرم مثير ، جعل العديد من الدول تحسدهم عليه وتعطي المثل به وتعير جاليتها به .
نحن في واد وهم في واد، ولولا وجود بعض البرلمانيين المخلصين في عملهم لمساءلة الحكومة عن هذا الملف لما سمعنا جوابا، ولما أثير هذا الملف ولطُمس كما طُمس ملف مشاركة مغاربة العالم في الاستحقاقات القادمة ، فبعدما كنا نسمع أصواتا تجاهر بالدفاع عنها وتصرخ في وجه مجلس الجالية متأسفة على خذلانه لمغاربة العالم، تغيرت المناصب وتغيرت المواقف، فأصبح المدافع خاذلا وأصبح الخاذل مدافعا، وتلك هي السياسة ونتائجها عندما تكون الأولية في ملفات أخرى غير ملف الجالية، ما دامت هذه تظهر ملفوفة بستار ظاهره كرم مثير وباطنه واقع مرير.
تعليقات الزوار ( 0 )