Share
  • Link copied

معضلة تسليع التعليم في ظل التوسع غير المراقب للقطاع الخصوصي: تفاسير ومحاذير

تقف الأسر المغربية حائرة أمام دخول مدرسي في ظل جائحة كورونا بشكل يفوق حيرتها أمام الوباء نفسه، فلازالت صدمة الذهول من ممارسات مؤسسات التعليم الخصوصي بعدما فضحتها الجائحة في الموسم الماضي مستمرة في ظل  عجز الدولة أو لنقل صمتها أمام حقيقة هذا النوع من التعليم الآخذ في التضخم حتى بدأ يتورّم.

فقد تبين بأن التعليم الخصوصي ليس مميزا فعلا كما ظل الجميع يعتقد، إذ أن مؤسساته التي تنتظم في إطار شركات تتبنى الرأسمالية الطفيلية الريعية، لا تقدم مزايا تعليمية تناسب الفارق الكبير في المصاريف التي تفرضها على الآباء. كما أن انتشارها لا يقوم على أساس اختلاف الجودة في البرامج بل على اختلاف في طبيعة ومميزات البرامج ذاتها، وهو ما يترتب عنه  مشكل عدم التنفيذ الدقيق لتوجيهات الوزارة الوصية على القطاع حتى مع ادعاء هذه الأخيرة برقابتها التربوية على تلك المؤسسات. وبالتالي فبرامج هذه المؤسسات حتى وإن كانت تزعم السعي لتحقيق الجودة في التعليم فإنها تضر بالقيم التي يعمل التعليم على ترسيخها. ذلك أن التعليم الخصوصي بهذا الشكل لا يجسد النظر إلى التعليم كمصلحة وطنية، حيث أن توسل مؤسساته بتدريس البرامج الأجنبية ينتزع التعليم من إطاره الثقافي الوطني، ويجعل ولاء التلاميذ والأساتذة لغير الوطن والثقافة الوطنية. فالتعليم الخصوصي يركز في نهاية المطاف على الربح ولا يهتم بالقضايا المجتمعية، لأن جوهره يضاد في الأساس أنسنة الخدمة التعليمية بتحويل العلاقة بين المدرسة والتلميذ إلى علاقة تجارية، والعملية التعليمية إلى سلعة تنظر إلى التلاميذ كأدوات.

كما يجسد التعليم الخصوصي نوعا من اللامساواة واتساع التفاوت بين المتعلمين في مختلف أنواع مدارسه، وذلك ليس فقط لاختلاف عروض الخدمات التي تقدمها، بل أيضا لاختلاف رسوم الدراسة بينها، حيث تتفاوت الأسعار فيصبح القادر على الالتحاق بمدرسة معينة غير قادر على الالتحاق بمدرسة موازية، وهكذا يتكرس انقسام طبقي عمودي ينضاف إلى ذلك الممتد بين مرتادي التعليم الخصوصي وغير القادرين عليه.

لكن من الخطأ الاعتقاد بأن كل من يلجؤون للتعليم الخصوصي هم قادرون على ذلك، فالعديد منهم يعاني ضيق العيش ويضاعفون عملهم ويضحون ببعض الأولويات الحياتية من أجل تأمين نفقات تعليم أبنائهم في مؤسسة للتعليم الخصوصي، فقط لأنهم يراهنون على تميزها النسبي عن مؤسسات التعليم العمومي. والحال أن المدارس الخصوصية ليست متميزة عن المدارس العمومية بل متعالية عليها، حيث تركز على اللغات الأجنبية وتنقل تلاميذها في وسائل نقل خاصة وتفرض زيا أنيقا وربما غالي الثمن، وتتيح لتلاميذها من الأنشطة وصنوف المعاملة الرفيعة ما لا يتاح في المدارس العمومية. وهذه الفروقات بين تلاميذ القطاع العمومي وتلاميذ القطاع الخصوصي، هي ما يصنع الفوارق بين القيمة الاجتماعية لرأس المال الرمزي.

في الواقع، يهدر التعليم الخصوصي المجانية التي ارتبطت  تاريخيا بالحركة الوطنية، حيث أن مؤسساته لا تقدم تعليما جديدا بل تعليما ينافس التعليم المجاني، فيؤدي ذلك إلى ظهور طبقية جديدة تهدد التماسك المجتمعي، هي طبقية التعليم التي أخذت هي الأخرى تعمق التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية.

 إن مؤسسات التعليم الخصوصي ليست معنية فقط بغياب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص حينما لا يتيح المجتمع حظوظا تعليمية متساوية نتيجة ربط التعليم المتميز بالقدرة الاقتصادية بما يؤدي إلى إعادة إنتاج التفاوت الطبقي، وإنما معنية كذلك بتأثير ضياع هيبة القانون في الوقت الذي يتم انتهاكه على يد الكثير من هذه المؤسسات، والتي بخروقاتها تكون قد نسفت الدعاية الصاخبة التي صاحبت تكاثرها بترويج أنها تقدم تعليما متميزا وجيدا وعصريا.

والمشكل أن الحكومة لا تبحث بجدية عن سبل  لتحسين أداء التعليم الخصوصي، لكنها تمعن في الاهتمام بتوسع مؤسساته، وبدل أن يتم توجيه الموارد المالية، التي يتم توفيرها، نحو مواجهة أزمة تدني مستوى التعليم العمومي، صار تكاثر مؤسسات التعليم الخصوصي بوابة نحو تخفيض أكثر لدعم التعليم العمومي، وهكذا باتت مؤسسات عمومية خالية من التلاميذ تمهيدا لإغلاقها، كما  تم التخلي مرارا عن تشييد المدارس الذي يفرضه التوسع الديمغرافي في بعض الأحياء.

إن أزمة التعليم بشكل عام تمكّن من تحويل تركيز الرأي العام إلى مشاكل الطبقة الوسطى، خاصة بعدما أخذت هذه الأخيرة في الأفول نتيجة اتساع التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، حيث هذه الطبقة التي تؤمن استدامة قطاع التعليم الخصوصي، صارت في نفس الوقت في قلب المعاناة من تغوّل لوبي أرباب مؤسساته، والذي يسير على خطى جعل الدولة أسيرة لمصالحه.

حيث تعمل الدولة على ترسيخ أهمية التعليم الخصوصي في المجتمع، من خلال الانتقال من خصخصة جزئية للقطاع إلى خصخصة فعلية في إطار تدريس عالي التكلفة يفتقد للجودة المطلوبة،  في حين أن جل أسر الطبقة المتوسطة لم تعد قادرة على اللجوء إليه. وهكذا يتم الانتقال من سياسة إقصاء الأسر المتوسطة من الخدمة التعليمية العامة المجانية إلى سياسة إقصائها من خدمة مخصخصة حقيقية، ما دامت هذه الأخيرة تفتقر للحد الأدنى من المصداقية أمام تحالف الحكومة الضمني مع أرباب مؤسسات التعليم بدل ممارسة دورها الرقابي عليهم.

لقد صارت أسر الطبقة المتوسطة تجهد لإبقاء  أولادها في تعليم خصوصي تلتهم نفقاته الجزء الأكبر من دخلها، وهو ما يجعلها تعيش في صراع يومي من أجل التكيف مع التراجع المتواصل في مستويات المعيشة، وكذا من أجل البقاء في ظل الخوف الدائم من الانحدار إلى دائرة الفقر. وهكذا أخذ ارتفاع تكاليف المعيشة يشد الطبقة المتوسطة إلى أسفل، وجعل بعض شرائحها تنزلق في إطار الهبوط الطبقي إلى مصاف الفقراء، فلم تجد بدا من العودة الاضطرارية إلى التعليم العمومي لأولادها، لتتكبد من جديد تحمل فاتورة القصور في جودة الخدمة التعليمية العامة.

إن طرح أسئلة العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق لا ينبغي أن يتوقف عند مجانية التعليم بل  يتوجب أن يمتد إلى حق التعليم الجيد، ذلك أن الدستور لا يربط بين الحق في التعليم وجودته ومجانيته، بل يخير الأسر بين هذه الخصائص والتضحية بالأخرى.  هكذا إذن، فغياب الجودة في التعليم العمومي هو ما يدعو بشكل مباشر للالتحاق بالتعليم الخاص، وإذا كان للتعليم العمومي الفضل في  تشكيل قوام الطبقة الوسطى، فإن الدفع بهذه الأخيرة للانتقال إلى التعليم الخاص يؤدي إلى انقطاع اهتمامها بالتعليم العام، وهي الطبقة التي ظلت تدافع عن جودته وكفاءته وعدالته.

الخلاصة هي أن جوهر أزمة التعليم الموسوم بغياب تكافؤ الفرص لم يعد ناتجا فقط عن إهمال الدولة للتعليم العام، حيث رغم إعلان التزامها بالمجانية إلا أن السياسيات التعليمية المتتابعة لا تضمن الحفاظ عليه، وإنما صارت الأزمة تعكس عدم حيادية النظام التعليمي، بحيث أن تشجيع الدولة للتعليم الخصوصي وتقاعسها أمام ممارساته التي تصل أحيانا حد الإفساد، يعيد إعلان تحيز نظام اجتماعي فرعي لمصلحة طبقة تتطفل على قطاع التربية والتعليم باسم حيازة الرأسمال الاستثماري.

وعليه، فرعاية الدولة للتعليم الخصوصي بقدر ما ينبغي أن تصحبها مؤشرات وخطط واضحة لاستخدام الموارد الممكن توفيرها لمعالجة اختلالات التعليم العام، بقدر ما يلزم أن تقترن بتحمل الدولة لمسؤوليتها في إخضاع قطاع التعليم الخصوصي لسيطرتها القانونية والتنظيمية الشاملة، وقد رأينا كيف كانت الأوضاع الجائرة في هذا التعليم وراء الحراك الوالدي السنة الماضية، والذي سيظل مطالبا بإعدال الميزان، ولربما سوف لن يكون التجلي الوحيد للسخط هو تمرد الآباء على أرباب مؤسسات التعليم الخصوصي أو نقل أبنائهم إلى التعليم العمومي بل قد يكون أمرا آخر ذا تكلفة سياسية عالية التوقعات، حيث هيبة الدولة وإيمان المواطنين بها يعتمد على مدى حفظ مبادئ العدالة الاجتماعية، والعقد الاجتماعي الذي يجمع بين الطرفين يقوم على ضمان تقديم خدمات اجتماعية جيدة، خاصة حينما تكون مفوضة للقطاع الخاص، وذلك كمقابل للولاء السياسي.

*أستاذ العلوم السياسية- جامعة سيدي محمد بن عبد الله

Share
  • Link copied
المقال التالي