يحكي أحد الفقهاء، قبل سنوات، أنه خلال موسم الحج استفتاه أحدهم في نازلة معينة، غير أنه استغرب من طريقة طلب الفتوى، حيث قبل شروعه في الإجابة قاطعه المستفتي قائلا: “لا تقل أن المسألة حرام”؛ وكذلك يفعل بعض الحداثيين اليوم عندما يطالبون الفقهاء بالاجتهاد لكن شريطة أن يكون هذا الاجتهاد موافقا لما اعتنقوا من أفكار وإلا نعتوا الفقه والفقهاء بالجمود والماضوية؛ وهذه الأيام، ونحن نتابع ما استجد من الأخبار، لاسيما السياسية منها، تفاجأنا من تصرفات بعض دعاة دولة الحق والقانون، سواء من الأشخاص الذاتيين أو المعنويين، وهم يصطفون مع خصم دون الآخر، ويتحدثون بكل يقينية عن إدانة طرف وتبرئة الآخر رغم يقينهم أن القضاء الذي يثقون فيه ما زال يجري أبحاثه ويقوم بما يلزمه من إثبات الحق لصاحبه، ولما لا إدانة من يستحق الإدانة.
بدون شك أن القضايا المعروضة على القضاء، وذات الصلة بما هو سياسي، كثيرة جدا؛ لكن التي اتجهت إليها الأنظار هذه الأيام بشكل قوي هي الخصومة التي افتتحتها رفيعة المنصوري مع نور الدين مضيان قبل أسبوع؛ والتي طالبت من خلال شكواها الإنصاف؛ وفي المقابل واجهها خصمها بشكوى مضادة يترجى بدوره من المحكمة نفس الأمر؛ وإلى حين النطق بالحكم، فإن المحكمة بدأت بالإجراءات التي تراها مناسبة، من قبيل عرض التسجيل الصوتي على فرقة الشرطة القضائية المكلفة بالجرائم الإلكترونية وغيرها من الإجراءات.
لكن الغريب في الأمر، تفاجأنا بالكم الهائل من الأصوات التي تطالب بإدانة المشتكى به، لا سيما من طرف بعض المنظمات والشخصيات السياسية والمدنية والحقوقية وكأن الأمر محسوم لصالح خصم دون الآخر؛ بل ما أثار استغرابنا أكثر هو ظهور بعض الصفحات الفايسبوكية الممولة (أي مدفوعة مصاريف الإشهار والإعلانات بشكل رسمي ومن جهة معلومة لدى إدارة الفايسبوك) والمروجة بشكل ملفت لكل ما ينتصر للمشتكية ويدين المشتكى به، حتى بدا لنا أن الملف سار سياسيا بامتياز، وكاد تشبيهه بتلك اللحظات الأخيرة من الحملة الانتخابية؛ وكأن لسان حال هؤلاء يقول: صوتوا لبرنامجنا الانتخابي (أي ملفنا القضائي)، فبقدر الأصوات المحصل عليها تكون نتيجة الحكم؛ بل في بعض الأحيان تشعر ببعض الأصوات تتبنى شعار بوش الابن خلال حربه على الإرهاب بعد 11 سبتمبر: “معي أو ضدي”، ولا تقبل رأيا ثالثا محايدا ينتظر قرار المحكمة التي التجؤوا إليها، مع عدم الخوض في أعراض الناس، سواء المشتكية أو المشتكى به.
وعليه، لابد من التنبيه إلى ضرورة التفريق بين الترافع السياسي والترافع أمام القضاء، لأن لكل ترافع قواعد وشروط؛ بل وجب استيعاب أن الضغط الإعلامي لاستمالة الرأي العام لا يصلح لتحقيق العدالة بعدما تم الاحتكام للقضاء؛ بل إن المبالغة في هذا الضغط الإعلامي وبكل الأساليب، حتى رأينا صفحات ممولة، يوحي عدم الاقتناع بالقضاء حَكما؛ وإنما أثبت أن الشعارات التي ترفع من أنصار هذا التوجه لا تؤمن بفصل السلط ولا استقلالها، ولربما حتى حق الخصم في الدفاع لإثبات براءته، فضلا عن حق المطالبة بإنصافه لما تعرض له من التشهير على المواقع الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي.
وعلى سبيل الختم، نقول: قد نتفهم تشبث أطراف الخصومة بما يدعون، بل وجب تشبث كل منهم بما يراه وهو يدافع عن حقه ورد الاعتبار؛ لكن أن يتم الضغط على الرأي العام ومحاولة تطبيق شعار بوش الإبن: “معي أو ضدي”، فلا نراه إلا انتكاسة حقوقية وتنم عن فكر دكتاتوري وسلطوي لو توفرت بعض الظروف لأكرهوا الناس على الاصطفاف دون نقاش، وقد يصل الأمر إلى العمل بالاقتصاص بأنفسهم كلما ادعوا امتلاك الحق، غير أن القوة (أو العنف المشروع) ما زالت تمتلكها الدولة؛ بل ما يحز في النفس، أن تجد من بين من يناصر شعار بوش الإبن، ويحاول التأثير والضغط، يعتبر نفسه مناصرا للحرية وحقوق الإنسان ومعه شواهد أكاديمية ذات ارتباط بالحقوق والقانون.
والحال أن الواجب على المنظمات السياسية والحقوقية وكذا الشخصيات الوازنة، بعد علمهم أن ملف المنصوري ومضيان أمام القضاء، الوقوف على نفس المسافة من أطراف الخصومة وتبني الحياد وانتظار قرار المحكمة، حتى لا يساهموا في إصدار القضاء لأحكام تحت ضغط الرأي العام وفتح المجال للضرب في نزاهة واستقلالية القضاء، لأن آخر المطاف سيصدر حكما ينتصر فيه لطرف دون الآخر، ولربما إدخال أسماء جديدة لا ندري عنها شيئا الآن؛ لذلك، لا داعي من تبني أحكام دون الاطلاع على جميع المعطيات، لأن ما يبدو اليوم حقا لا يقبل النقاش، من خلال ما نشر من معطيات، قد يتحول إلى باطل نسخر منه غدا، بعد تحقيقات القضاء، والله أعلم.
وفي النهاية، لا بد من تقبل ما سينتهي إليه القضاء، حتى إن كان كل طرف في هذه الخصومة يعتقد صدقه وسلامة حججه.
تعليقات الزوار ( 0 )