في أغلب الدراسات والأدبيات التي تتناول مفهوم المثقف، يوجد خلط واضح بين النظر إلى المثقف كيف يجب أن يكون من ناحية وبين واقعه الذي يعيشه من ناحية أخرى. وينتج عن هذا الخلط المفاهيمي عدد كبير من التعريفات والتصورات. فهناك من يرى أن المثقف هو الذي تلقى قدرا من التعليم، وهناك من يرى أن المثقف هو القادر على إنتاج الأفكار الجديدة، أو لديه المقدرة على التعامل مع الأفكار القديمة التي أنتجها الفلاسفة والأدباء وغيرهم…
دور المثقف ومسؤوليته:
المثقفون ثلاثة أصناف، صنف يقول كلاما لا يزعج مستيقظا ولا يوقظ نائما في ظل أنظمة حريصة على راحة النيام، وصنف لم يصمد في مواجهة التحدي والصدع بالحق في مواجهة القوة فكان مآله الانسحاب والتقوقع في شرنقة يجتر فيها أفكاره معزولا منبوذا أحيل إلى النسيان! وصنف ثالث (أقلية) ينزل إلى الحوض المجتمعي يعمل على تخليص الإنسان من آفة الغفلة والسبات وتنبيهه لما يراد به من استضعاف واستحمار، لا يبال بالمتابعة والتضييق عليه وتشويه سمعته.
يشير القرآن إشارة واضحة إلى أن قول الحق وتوعية الجماهير الغافلة عن كرامتها وحريتها من مسؤوليات المثقف يجب أن يؤديها ويناضل من أجلها وألا يتقاعس عنها فيلعنه الله والملائكة والناس أجمعين. هذا الخطاب القرآني الواضح في مسوغاته سيبقى يلاحق المثقف باللعنات إن لم يقم بأداء رسالته المنوطة به وكتم الحق عن الجماهير المقهورة المستعبدة.
المصيبة هي وجود مواطن مسلوب الإرادة ومسخر لخدمة الفساد والطغيان من حيث يدري أو لا يدري! ولكن المصيبة الكبرى هي التحام المثقف المأجور بعجلة السياسة فيصير لعبة في يدي السلطان يسخره كيف ومتى يشاء! يصف القرآن هذا الصنف من المثقفين الذين فضلوا الجاه والسلطان على أداء مهمتهم المقدسة بالمؤمنين بالجبت والطاغوت.
في ظل تسويغات فكرية وإبداعية للخطاب السياسي ولا سيما في ظل أنظمة شمولية امتهنت الثقافة بشكل عام، ووظفت جميع وسائل التعبير فيها، مثل الإعلام والكتابة والرسم والمسرح وغيرها من وسائل التأثير لتبرير الأعمال ذات الطابع الاستبدادي.
وفي مثل هذه الظروف والأوضاع يجد المثقف نفسه في مواجهة حالات ثلاثة: القمع والإيديولوجية والإغراء بالسلطة والمال! الحالة الأولى تتلخص في المتابعة وتكميم الأفواه والسجن والحالة الثانية هي بسط النفوذ الفكري الذي يقترب من غسل الدماغ وفي بعض الأحيان يصل إلى حد ممارسة الإرهاب الفكري كما تفعل بعض الجماعات الدينية المتشددة وأما الحالة الثالثة فهي قوة الإغراء بالمال والجاه مقابل خدمة النظام الحاكم ومصالحه.
ليس من السهل أن يصمد المثقف أمام كل هذه الإغراءات والضغوطات إلا من أوتي مبدأ قويا وعلما نافعا وفهم المغزى من التجارب البشرية في مقاومة الشر والصدع بالحق في وجه القوة. وهذا الثلة من المثقفين كما يقول المفكر السوري خالص جلبي:” ترى أنه يجب تحريض التفكير وإطلاق التعبير بدون حدود وبدون خوف من المساءلة، لأن وظيفة الدماغ التفكير مثلما كانت وظيفة القلب ضخ الدم والتنفس للرئتين والكلية للإفراغ.”
إن مسؤولية المثقفين ودورهم اليوم في المجتمع يشبه دور الأنبياء والرسل وقادة التغيير في المجتمعات القديمة. كان الأنبياء وقادة التغيير يخلقون مبادئ وأفكارا جديدة وحركة وطاقة جديدة تغير واقع مجتمعاتهم من حالة الضعف والعبودية إلى حالة الكرامة والحرية ومن حالة السلبية والتخلف إلى حالة الفعالية وتفجير طاقات الإنسان.
إن الأنبياء والرسل العظام أحدثوا ثورة فكرية تغييرية على النظم البالية التي تستعبد الإنسان لخدمة مصالحها وزعامتها. لم يأتوا الأنبياء وقادة التغيير بالانقلابات العسكرية وتكوين أحزاب وجماعات لتجريم المخالفين في الرأي والاعتقاد، كلا! لقد جاءوا من أجل الإنسان وحقه في الوجود بغض النظر عن عرقه ولونه وفكره واعتقاده!.. فجرت دعوتهم ثورة فكرية اجتثت جذورا وغرست جذورا وغيرت مجتمعا بأكمله.
الأنبياء وقادة التغيير – بتعبير علي شريعتي – من نوع ثالث لا هم من عوام الناس الذين هم أسارى التقاليد الاجتماعية، ولا هم فصيلة الفلاسفة والفنانين والرهبان ورجال الدبن الذين هم أيضا أسرى أفكارهم وكشوفاتهم العلمية وكراماتهم الباطنية. ومن هنا فإن المثقفين هم ورثة الأنبياء في مقارعة الظلم والاستبداد وتعرية الفساد والفاسدين.
فالأنبياء كانوا منذرين، وأتباعهم من أبناء الشعب المظلوم والبسطاء الذين أساءت لهم الحياة. فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (عليهم السلام) وغيرهم كانوا زعماء الحركات الثورية الاجتماعية. وكان المترفون يحسبونهم شرذمة مقلقة، تثير الشغب والفتن والتفرقة بين الناس. وكذلك قوم نوح سخروا منه ومن من اتبعه: “وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي”.
هناك فرق جوهري بين الدين المستأجر الذي يستخدمه أصحاب الكراسي والسلطة لدعم بقائهم واستبدادهم وبين الدين الذي أتى به الأنبياء للتغيير وإحداث الانقلاب في التصور. بكلمة أخرى: الدين الذي يحدث التغيير النفسي والثورة الفكرية الاجتماعية.
إن من أعظم المسؤوليات المثقف وأهدافه هو منح الإنسان الوديعة الإلهية الخالدة أي المعرفة ووعي الذات، ذلك أن الوعي والمعرفة تغير الجماهير من الجمود والركود إلى البناء الفكري، لأن بناء الإنسان النفسي والفكري هو حجر الزاوية في خلق العبقريات العظيمة والقفزات الواسعة.
المثقف الواعي هو الذي يسعى جاهدا لإيجاد السبب الحقيقي لانحطاط المجتمع، ويضع يده على مكمن مشكلة الركود والتأخر والمأساة بالنسبة لمجتمعه وبيئته. ثم يقوم بتنبيه المجتمع الغائب عن الوعي إلى ما يراد به وبمصيره وبقدره التاريخي المشؤوم، ويقترح الحلول ويضع الأهداف ويدل المجتمع على بداية الطريق الذي يجب أن يسلكه للتخلص من وضعه المتأزم. كل هذا ينبغي أن يدار بخطة مدروسة لا تهور فيها، يكتشف من خلالها التناقضات والروابط الحقيقية القائمة في المجتمع ويعرف الأسباب والنتائج بين أنواع الأمراض والانحرافات والانحطاط وعلاقتها بالعوامل والظواهر الداخلية والخارجية.
المثقفون الحقيقيون هم من يكرسون حياتهم للدفاع عن الإنسان وحقه في التعبير والاعتقاد ويتحملون بشجاعة تبعات مواقفهم لا يخافون في الله لومة لائم، يصدعون بكلمة الحق في وجه القوة ويناضلون من أجل خلق ثقافة سلمية راشدة في المجتمع تقوم ليس على إلغاء المخالف في الرأي بل الاجتماع به، ليس قتله بل الحفاظ عليه والدفاع عن حقه في حرية التعبير والرأي.. والرأي الآخر.
هؤلاء المثقفون كما يعرفهم المفكر إدوارد سعيد بقوله إنهم: “عصبة صغيرة من الملوك الفلاسفة الذين يتحلون بالموهبة الاستثنائية، والحس الأخلاقي الفذ، ويشكلون ضمير البشرية”. فالمثقف الحقيقي لديه يتلخص دوره في الدفاع عن ثوابت الحق والعدل من خلال فضح الفاسدين وتحدي السلطة القائمة وتنبيه الغافلين عن حريتهم وكرامتهم ولا يتنازل عن مبدئه مهما تعرض للضغوطات والإغراءات، لأن إيمانه بالقضية وشعوره بالمسؤولية أكبر وأقوى من الإغراءات والأشياء الدنيوية الزائلة الفانية. هذا هو المثقف الحقيقي المخلص وما عدا ذلك أشباه مثقفين تاريخهم ما هو إلا سلسلة من تاريخ الخيانات المتتالية.
تعليقات الزوار ( 0 )