على مرّ ستةِ أشهر بالتمام والكمال، فقدت مراكش طعمها الامبريالي وصخبها الاستثنائي، تحتَ وطأة الحجر الصحي الذي فرضه تفشي وباء كوفيد 19. الوضعُ لا يبشّرُ بأي خير، والجوّ بحرّهِ وملحهِ لا يشفي الغليل. ساحةُ جامع الفنا خاوية على عروشها، والصمت في كل مكان بأرجاء المدينة القديمة، حيثُ يحضر ضجيج أقدام السياح والأجانب.
اختفت روائح “الطنجية” في المقاهي والمطاعم التقليدية التي تخترقُ بصرك في كل جانب. حتى سيارات الأجرة تغلب عليها أغاني الحزن والغم، والسائقون على غير عادتهم يفضلون الصمت المطلق. يحضرُ في أذهان كل المراكشيين تقريباً سؤالٌ وحيدٌ: كيف انقلب الليلُ نهاراً وانقلب النهارُ ليلاً حتى بدت المدينة الحمراء خاليةً من الوجود الإنساني؟
مراكشُ الكئيبة!
بآذانٍ صاغيةٍ يستمعُ إليّ محمد الأسمر البشرة الوافد من الريصاني إلى مراكش بسبب العمل. يرشفُ من كأسه القليل من مشروبه الغازي، ثم يجمعُ تنهيدةً عميقةً ليقول “لقد أصبحت مراكش فعلاً مدينةً كئيبةً” ثم يضيفُ بكلمات يتخلّلها ريحُ التبغ “إن المدينة الحمراء لها قيمتها في فصل الصيف من خلال تواجد المسابح الجيدة والأماكن المؤنسة من حيث جميع المعايير، والتي تضفي ذلك الحر رونقاً وبهاءً، بيد أن إغلاق جميع المرافق جعل المدينة كمدينة للأشباح” ينطقها جاحظُ العينين يحاول رسم ملامح الرعب لينسجم مع قولهِ.
وخلف الشّباكِ بكمامتها والعياء يبدو على عينيها بعد يومٍ كامل من العمل، تقول خديجة إن ضغط استلام الدعم المخصص للفئات المعوزة، والذي شهد اكتظاظاً في تلك الفترة أثّر كثيراً على صحتها النفسية، وآدائها، وما عقّد كل ذلك حسبها “هو أن دابا فمراكش فهاد الظرفية مكاين لا فين تمشي لا فين تجي، وليتي خايف من جنابك وفيك الوسواس اللهم تكلس فدارك”، قالتها وهي تجيبُ على الأسئلة مترددةً تعتقدُ أنني أستهزئُ عبر هذه الأسئلة، قبل أن أثبت لها كونه عملٌ مهني فعلاً، ليكمئن قلبها وتبدي ابتسامة كشفتها ملامحها المخفية وراء الكمامة.
جامع الفنا الحزينة…
لا يُعقلُ لأي زائرٍ ألاّ يأتي إلى مراكش دونَ أن يشتم روائح المشويات والدخانُ يتصاعدُ صوب السماء، تُمسكهُ اليدُ ويتذوقهُ اللسان، قبَيلَ أن يخافَ اللسانُ واليد من تذوق الفيروس مع ذلك الدخان، فانقلبَ كل شيء “حزناً” و”قلقاً” و”خوفاً”.
“لم نكن نتخيلُ أن نرى الحزن بساحة جامع الفنا عشيةَ أن كانت ملجَأُ جلاءِ همومنا وأتراحنا.” عبارةٌ تقولها وئام الضوحي الطالبة بحسرةٍ على جامعِ الجُموعِ بمراكش، حيثُ كل الطرقِ تؤدي إلى الساحة.
وأضافت وهي ترفعُ يديها لاستعمال لغة جسدها “نتساءلُ ما مصيرُ “الحلايقية”؟ وكيفَ يعيشونَ الآن؟ وما تأثير هذه الظروف الاستثنائية على صحتهم النفسية؟ لطالما رسموا البهجة على وجوهنا، فمن يرسمها على وجوههم الآن؟ إنها حقاً أزمة أصابت الكل، بما فيها حرّاسُ الضحكة وحماةُ البهجة المراكشية.”
مراكش بؤرةُ العالقين…
يتحدثُ ياسين في رسالة صوتية بصوت خفيت، يضمرُ أحاسيس الشوق للوالدة والعائلة وهو عالقٌ بمراكش منذ أزيد من شهر تقريباً، ويقولُ إبن الرباط إنهُ جاء لرؤية العائلة والخروج من الملل القاتل بالعاصمة آنئذٍ. جاء ليستمتعَ بنفحة المدينة الحمراء قبل أن يتم إغلاق منافذ المدينة ومخارجها، فأصبح عالقاً مليئاً بالقلق متوجساً. ويضيفُ بنبرةٍ من الندم “مليت من مراكش حق الرب”، جملةٌ يختمُ بها وتحملُ في طياتها الآثار النفسية الوخيمة التي أحدثها “لجوؤهُ” في مراكش إبان هذه الفترة.
وعبرَ سهيلُ المفتول العضلاتِ في مكالمةٍ هاتفيةٍ، بعد أن نجح في الهروب إلى مدينته مكناس، عن فرحهِ الغامر بضحكات النصر التي تنقلها الأمواجُ الهاتفيةُ بوضوحٍ، “بسيف باش خرجنا من ديك مراكش، مابقاتش كيما كانت، رجعات بؤرة ديال العالقين”، يقولها ورائحة السعادة لا تغادرُ حديثه، لأنه بين أحضان الوالدة ودفء الإخوة في المدينة الإسماعيلية. وأضاف بنوعٍ من التحدي كونهُ قطع مسافةً على الأقدام ليتعدى مواقف الشرطة والدرك ثم يستوقف أحد المارة ليصل إلى أي مدينة، لأن المهم أن يخرج من مراكش المحاصرةِ أمنياً، كما يورد سهيلُ المكناسي.
تعليقات الزوار ( 0 )