بتاريخ 12 دجنبر 2019، عين الملك اللجنة الاستشارية لصياغة نموذج تنموي جديد للمملكة، من الكفاءات والخبرات المغربية المتواجدة خارج الحقل السياسي، وقد حددت مدة عملها في أفق يونيو 2020، حيث سترفع خلاصات عملها للملك، وذلك بعدما أقر في خطاب 13 أكتوبر 2017، بالبرلمان، بفشل النموذج التنموي القديم، داعيا إلى مراجعته وتحيينه. ويجري عمل اللجنة في سياق الطموح الاقتصادي للمملكة الرامي إلى اللحاق بالدول الأوروبية في أفق سنة 2040.
وهو ما أسماه ملك البلاد في خطاب الذكرى العشرين لعيد العرش ب”المرحلة الجديدة”.
لا يعد خطاب المرحلة الجديدة بعيدا عن خطاب السكتة القلبية، إذ يرى بعض الاقتصاديين المغاربة، أن جذور فشل النموذج التنموي تعود إلى تطبيق مخطط التقويم الهيكلي، والذي أدى إلى انهيار المنظومة الاقتصادية، وهو ما سماه الملك الراحل آنذاك بالسكتة القلبية، مما أدى إلى طرح نموذج اقتصادي جديد.
ويعبر خطاب المرحلة الجديدة عن إرادة سياسية لتحقيق الإقلاع الاقتصادي عبر تجديد وتحيين النموذج التنموي القديم.
وهو ما يتطلب مراجعة غير جذرية للتجربة التنموية القديمة للمغرب، كما جاء في الخطاب، مع الاحتفاظ بما يميزها وإضافة لبنة جديدة إليها، وجعل كل الفئات تستفيد من عائدات التنمية بما يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية. وهو ما معناه سياسيا، تحقيق التنمية دون إجراء إصلاحات سياسية، عبر إعطاء الأولوية للمدخل الاقتصادي.
نظريا، تتنازع عملية التنمية، رؤيتين. رؤية ترى بتنمية الاقتصاد مع تقييد الحقوق السياسية(فرضية لي)، نسبة إلى لي كوان يوو رئيس وزراء سنغافورة السابق، والتي تعتبر أن إنكار الحقوق المدنية والسياسية الأساسية لديه ميزة للنهوض بالتنمية الاقتصادية، وأن هذه الحريات والحقوق تعيق النمو الاقتصادي والتنمية.
وهناك رؤية تعتبرها مسألة حريات، نسبة إلى عالم الاقتصاد الهندي أمارتياصن، التي صاغها في كتاب التنمية حرية، والذي يمثل تصورا للعالم الثالث تجاه قضية التنمية. اعتبر فيه أن شدة المطالب الاقتصادية وكثافتها تضيفان إلى ولا تنقصان من الضرورة الملحة للحريات السياسية، مؤكدا أن التنمية عملية تمتد إلى إدارة الأسواق والإدارات الحكومية والعلاقات بين الحاكم والمحكوم، والمؤسسات التشريعية والأحزاب السياسية، والمنظمات غير الحكومية، والمؤسسات القضائية والمؤسسات الإعلامية والتعليمية والمجتمع كله بعامة. ويتحقق إسهامها في الواقع من خلال تأثيراتها في دعم وتعزيز القدرات، والحريات الفردية للإنسان.
في حين يسعى المغرب إلى تحقيق التنمية مع حد أدنى من الحريات، يحيل مفهوم الإقلاع الاقتصادي، أو أيضا الانطلاق الاقتصادي، إلى مرحلة انتقالية في الاقتصاد، عبر الانتقال التدريجي من مرحلة غير متقدمة، إلى مرحلة الازدهار، مما يتطلب مستوى معينا من النمو، مع تطوير بعض القطاعات الصناعية.
وهو ما تعبر عنه نظرية مراحل النمو الاقتصادي لعالم الاقتصاد والت روستو، المستنبطة من المسيرة التنموية للدول المتقدمة، والتي قدمها سنة 1960،واضعا فيها خمسة مراحل يجب على الدول النامية أن تتبعها للوصول إلى التقدم.
تتحدد أول مرحلة في مرحلة المجتمع التقليدي، حيث تكون الدولة شديدة التخلف، يسود فيها الطابع الزراعي التقليدي، وانخفاض الإنتاجية وضعف متوسط نصيب الفرد من الناتج الوطني. بعدها، تأتي مرحلة التهيؤ للانطلاق، يبدأ فيها ظهور القطاع الصناعي والاستثمارات الاجتماعية، مثل بناء الطرقات والمواصلات، لكن، يبقى نصيب الدخل الفردي منخفضا.
ثم مرحلة الانطلاق، وتعتبر هي مصدر التقدم، وتتطلب ارتفاع الاستثمار، وتطوير قطاع أو أكثر من القطاعات الصناعية الرئيسية. لتظهر بعدها، مرحلة الاتجاه نحو النضج، حيث تعتبر الدولة متقدمة اقتصاديا، وهي الفترة التي يستطيع فيها المجتمع أن يطبق على نطاق واسع التكنولوجيا الحديثة، ويرتبط بلوغ الدول هذه المرحلة بحدوث تغيرات أساسية، تتمثل في ارتفاع المهارات، وميل السكان للعيش في المدن، وتراجع أرباب العمل ليحل محلهم المديرين الأكفاء. وأخيرا، مرحلة الاستهلاك الكبير، وهي مرحلة تتميز باتجاه السكان نحو التمركز في المدن وضواحيها واستخدام السلع على نطاق واسع.
استنادا إلى هذا التوضيح، يقصد بالإقلاع الاقتصادي في ظل التجربة التنموية المغربية، إحداث تغيير في النظام الاقتصادي. وهو ما معناه الانتقال من نظام اقتصادي مركب، يجمع بين الليبرالية واقتصاد الريع، إلى نظام اقتصادي تنافسي ينبني على المنافسة، وتكافؤ الفرص. وهو ما يطرح إشكالية التوفيق بين تحقيق التنمية مع حد أدنى من الحريات، وإحداث رجة في النظام الاقتصادي، كأهم إشكالية نظرية في تجديد وتحيين النموذج التنموي المغربي. مما قد يدل على أن تجديده قد يتطلب من حيث التصورات النظرية المرتبطة بالحلول، ثلاثة مداخل أساسية، متمثلة في التنمية مع حد أدنى من الحريات، وتسريع وتيرة الاقتصاد المغربي بما يتلاءم مع متطلبات الإقلاع الاقتصادي، مما يتطلب تغيير النظام الاقتصادي المغربي بما يتلاءم مع شكل التنمية، وهو ما قد يفرز تطبيق الرأسمالية السياسية. ويبقى المدخل الثالث، متعلقا بكيف يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية في ظل النمط الجديد من التنمية.
أولا: التنمية مع حد أدنى من الحريات.
ما يعزز هذا المسار من الحلول الممكنة، إلى جانب ما تضمنه الخطاب للتغيير الجزئي للنموذج التنموي القديم، ما تتضمنه الالتزامات الدولية للمغرب من أجل استكمال مسيرة الإصلاح التي يتطلبها اللحاق الاقتصادي، والتي شملت التعديل في السياسات.
ومن الملاحظ أن هذا التعديل رافقه تقييد بعض الحريات العامة، مثل الحق في الاحتجاج، باعتباره حتمية تفرضها المصالح الاقتصادية للدولة، ولعله أهم تحد تواجهه سياسة الإصلاح المؤسساتي وتعديل السياسات التي تهدف إلى الإقلاع الاقتصادي، في ظل ضعف تكيف الفئات المشمولة بالإصلاح، مع تغير شكل الدولة.
لقد تضمن تقرير صندوق النقد الدولي آفاق الاقتصاد الإقليمي 2018، انتقادا حول تطبيق سياسة الإصلاح دون تغيير ثقافي، حيث لم يواكب هذه الإصلاحات تغيرات ثقافية لجعل هذه الفئات تتكيف مع هذه الإصلاحات. كما جاء فيه ، أنه من شأن تصاعد الصراعات أو تدهور الأوضاع الأمنية الإقليمية، أو تكثف القلاقل الاجتماعية المحلية، أو حدوث إرهاق ناتج عن الإصلاح، أن يؤدي إلى الانحراف عن مسار تنفيذ السياسات والإصلاحات، وإضعاف النشاط الاقتصادي. فتطبيق هذه الإصلاحات، والتي ستكون على المدى البعيد، يحتاج إلى الاستقرار.
إزاء ذلك، ترفض بعض الفئات تخلي الدولة عن أدوارها الاجتماعية. إذ أجمعت موجة الاحتجاج الاجتماعي التي عرفها المغرب السنة الماضية، على التشبث بالدولة الحارسة والراعية كمطلب رئيسي لموجة الاحتجاج. ولا زالت تنسيقية الأساتذة المتعاقدين تطالب بإسقاط التعاقد وإدماجهم في النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، في الوقت الذي تسير فيه الحكومة إلي توسيع آلية التوظيف الجهوي، ولا زالت بعض التنسيقيات الجهوية للمعطلين حاملي الشهادات تطالب بأن تحقق لهم السلطات فرص الشغل القار. كما رفض الطلبة الأطباء السنة الماضية، إصلاح التكوين في مهن الطب، للحفاظ على مكتسبات القطاع العام. أيضا، يطمح جل الشباب المغربي(60 %)، إلى الالتحاق بالخدمة العمومية، إذ لم يرافق الإصلاح تغيير للعقليات وبناء ثقافة الابتكار، وتوجه الشباب نحو المقاولة والقطاع الخاص. ويعول على البرنامج المندمج لدعم وتمويل المقاولات الصغرى والمتوسطة، لخلق مناصب الشغل للشباب وتحقيق اندماجهم السوسيواقتصادي. يضاف إلى ذلك تنامي الطلب الاجتماعي على الصحة، واندلاع موجات الاحتجاج الاقتصادي على المستوى المحلي بين الفينة والأخرى، كان آخرها حراك تزنيت.
ثانيا: تسريع وتيرة الاقتصاد بما يتلاءم مع أهداف الإقلاع الاقتصادي.
جاء في خطاب الملك في الذكرى العشرين لعيد العرش أن “تجديد النموذج التنموي الوطني ، ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو مدخل للمرحلة الجديدة، التي نريد، بعون الله وتوفيقه ، أن نقود المغرب لدخولها، مرحلة جديدة قوامها: المسؤولية والإقلاع الشامل. (…)، ويظل طموحنا الأسمى، هو أن يلتحق المغرب بركب الدول المتقدمة”، معتبرا أن تجديد النموذج التنموي يتطلب كسب مجموعة من التحديات والرهانات الداخلية والخارجية، ومنها، رهان التسريع الاقتصادي والنجاعة المؤسسية، لبناء اقتصاد قوي وتنافسي. مما يجعل من تسريع وتيرة الاقتصاد عبر زيادة معدل النمو الاقتصادي، بما يتلاءم مع أهداف الإقلاع الاقتصادي أحد أهم الرهانات الخارجية للحاق بالدول المتقدمة.
وهو ما يتطلب تغيير النظام الاقتصادي، إلى اقتصاد تنافسي ينبني على روح المقاولة والتنافسية وتكافؤ الفرص، وتوحيد النظام الاقتصادي في إطار نوع من الرأسمالية. إذ لم يتمكن إلى حدود اليوم من حل مشكلتي التشغيل والحد من الفوارق الاجتماعية، كما يصفه الاقتصاديون المغاربة بكونه اقتصادا مركبا يجمع بين الرأسمالية الليبرالية والجوانب التقليدية، والمتمثلة أساسا في اقتصاد الريع.
وهو ما قد يؤدي إلى تطبيق الرأسمالية السياسية، عبر التركيز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية مع حد أدنى من الحريات السياسية، مثل ضبط الاحتجاج الذي قد يعيق استكمال سلسلة الإصلاحات المؤسساتية، والتعديلات في السياسات العامة والتي نفذتها الحكومة المغربية بتوصية من صندوق النقد الدولي والتي من شأنها أن تحقق الإقلاع الاقتصادي.
فبما أن أهم هذه الإصلاحات ستكون على المدى الطويل، فهذا من شأنه تقييد بعض الحريات. ولا شك أن هذا التوجه سيحدد معالم النظام الاقتصادي المفترض تطبيقه في مشروع الانطلاق الاقتصادي، لأنه توجد علاقة بين الأولويات التي تعطى في تفعيل التنمية هل الاقتصاد أم الحرية، وبين طبيعة النظام الاقتصادي، إذ يحيل تطبيق التنمية مع حد أدنى من الحريات إلى النظام الاقتصادي الذي ينبني على الرأسمالية السياسية، التي تركز على النمو الاقتصادي مع تقييد الحريات السياسية، مثل نموذج روسيا والصين. في حين أن إعطاء الأولوية للحريات، يعطي نمط الرأسمالية الليبرالية، الذي يركز على نمو القطاع الخاص، وضمان تكافؤ الفرص للجميع. لذلك، من المحتمل تطبيق نظام الرأسمالية السياسية، مع إمكانية الإبقاء بشكل نسبي على اقتصاد مركب يجمع بين الرأسمالية السياسية والرأسمالية الليبرالية.
ثالثا: العدالة الاجتماعية
يطرح هذا المدخل كيف يمكن للرأسمالية السياسية أن تحقق العدالة الاجتماعية، بصيغة أخرى، كيف يمكن لتطبيق التنمية مع حد أدنى من الحريات أن يحقق العدالة الاجتماعية؟ وكيف يمكن تحقيقها على المستوى المحلي عبر نقل التنمية من الدولة المركزية إلى الوحدات المحلية. يبقى السؤال الأول مطروحا للتفكير، في حين أن تحقيق العدالة الاجتماعية على المستوى المحلي، عبر توفير الخدمات الأساسية، مثل الطرق والمدارس والمستشفيات، وفرص الشغل، يحتاج إلى تعزيز السلطات المحلية. وهو ما قد يؤدي على مستوى التصورات المتعلقة بالحلول إلى تطوير التدبير الترابي للمملكة عبر منح سلط فعلية تجعل هذه الوحدات قادرة على نقل التنمية من الدولة المركزية إلى باقي الوحدات الترابية على المستوى المحلي. وهو ما سيطور من نظام اللامركزية المالية عبر الشراكات بين القطاع العام والخاص، إلى جانب خلق دينامية على مستوى الأوراش المحلية. وهو الدور الذي يمكن أن تقوم به الجهوية الموسعة.
باحثة في العلوم السياسية من جامعة محمد الخامس أكدال
تعليقات الزوار ( 0 )