في أواخر القرن الماضي، حين كانت رياح التغيير تهب على العالم العربي، وتحديدًا عندما كانت طبول الحرب تُقرع على أبواب العراق، انطلقتُ مع حشد من الشباب الأوروبي، نحمل في قلوبنا شعلة الأمل والسلام، رافضين لغة السلاح ومطالبين بالحوار. في خضم تلك الأجواء المشحونة، برز اسم محمد بن عيسى، وزير الخارجية المغربي آنذاك، كشعاع نور يضيء دروبنا.
لم يكن بن عيسى مجرد مسؤول رفيع يتابع الأحداث من برجه العاجي، بل كان إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. أوصى سفير المغرب في بغداد، عبد الوهاب البلوقي، بالتواصل معي، ليس بصفتي ناشطًا فحسب، بل كأخ يحتاج إلى الدعم والرعاية في أرض غريبة. كانت رسائله تصلني محملة بعبارات الحنان والمودة، تُطمئن قلبي وتشد من أزري، وكأنه يقول: “لسنا بعيدين عنك، نحن معك قلبًا وقالبًا”.
بعد عودتي، لم تنقطع خيوط التواصل. دعاني للمشاركة في موسم أصيلة الثقافي، ذلك الملتقى الذي أسسه ليكون جسرًا بين الثقافات وحاضنة للأفكار النيرة. هناك، وقفتُ أمام جمهور متعطش للمعرفة، أتحدث عن أحوال المسلمين في فرنسا وأوروبا، وعن تحديات الاندماج والمواطنة ومواجهة الإسلاموفوبيا. كان بن عيسى يجلس في الصفوف الأمامية، ينصت بكل جوارحه، وعيناه تلمعان بفخر واعتزاز. بعد كل محاضرة، كان يقترب مني، يربت على كتفي قائلاً: “أنت صوت الحق في زمن الصمت، استمر فنحن بحاجة إليك”.
في أكتوبر من العام الماضي، وبينما كانت الأحداث تتسارع في القدس، اتصل بي بن عيسى. طلب مني إعداد ورقة بحثية حول مستقبل جماعات الإسلام السياسي بعد اغتيال قياداتها التاريخية. قال لي: “أعلم أن المهمة شاقة، لكنني أثق بقدرتك على الغوص في أعماق الموضوع وتقديم رؤية ثاقبة”. عند وصولي إلى أصيلة، استقبلني بحفاوة الأب لابنه العائد من سفر طويل. طلب مني ترؤس جلسة نقاشية بمشاركة نخبة من المفكرين والسياسيين. كانت تجربة غنية، أبحرنا فيها في عوالم الفكر والسياسة، وتبادلنا الرؤى والأفكار. بعد الجلسة، اقترب مني بن عيسى، وعيناه تفيضان بالرضا، وقال: “لقد أجدت وأفدت، أنت فخر لنا جميعًا”.
كان بن عيسى مثالاً للإنسان المتواضع، الذي يرى في كل شخص قيمة وإضافة. لم يكن يعرف التكبر أو التعالي، بل كان يحتضن الجميع بحب ودفء. في كل لقاء معه، كنت أشعر وكأنني أمام موسوعة من المعرفة، ينهل منها الجميع دون كلل أو ملل. كان يؤمن بأن الثقافة هي السلاح الأقوى لمواجهة الجهل والتطرف، وكان يسعى دائمًا لفتح نوافذ الحوار والتواصل بين الشعوب.
رحل بن عيسى، لكن ذكراه ستبقى خالدة في قلوبنا. ترك لنا إرثًا ثقافيًا وإنسانيًا نفخر به، ومسؤولية كبيرة لنكمل مسيرته في نشر قيم التسامح والمحبة. وداعًا أيها الأب الروحي، ستظل كلماتك نبراسًا يضيء دروبنا، وعطاؤك مثالاً نحتذي به.
تعليقات الزوار ( 0 )