Share
  • Link copied

 محمد بلحسن الوزاني وعبد الهادي بوطالب وإرساء نظام الملكية الدستورية

مقدمة

يشترك كل محمد بلحسن الوزاني وعبد الهادي انتماؤهما لحزب الشورى والاستقلال : الأول كمنظر للحزب والثاني كأحد المؤسسين لهذا الحزب، حيث كان عبد الهادي بوطالب عضوا في المكتب السياسي للحزب بينما انتخب الوزاني كأمين عام لهذا الحزب.كما تتقاسم هاتين الشخصيتين  السياسيتين غزارة الإنتاج الفكري بشكل يذكر بعلال الفاسي  و عبد الكريم غلاب  بحزب الاستقلال . فقد تميز محمد بلحسن الوزاني  بالإضافة إلى تكوينه السياسي الحديث بغزارة إنتاجه الفكري حيث خلف تراثا ضخما من الدراسات والأبحاث والتحقيقات الصحفية تتعلق كلها بإصلاح نظام الحكم بالمغرب حيث  ترك محمد الوزاني مؤلفات هامة من بينها مذكرات حياة وجهاد ( التاريخ السياسي للحركة الوطنية 1900-1955) ، وحرب القلم ( مجموعة مقالات  كتبها بين سنتي 1937 و 1978) ، ودراسات وتأملات  بالإضافة إلى خطب وتصريحات صحفية. ونفس الأمر ينطبق على الأستاذ عبد الهادي بوطالب  ،المتخرج من جامعة القرويين بدكتوراه في الشريعة وأصول الفقه ودكتوراه في الحقوق، الذي ترك العديد من المؤلفات في السياسة و القانون و الأدب باللغتين العربية والفرنسية بلغت حوالي 58 كتابا في مختلف المجالات الأدبية والتاريخية والسياسية. كما أن الخصلة السياسية المشتركة بينهما هما أنهما مارسا السياسة بنبل ونزاهة فقد ظل الراحلان وفيان  للمبادئ وللقيم التي حملاها سواء ضمن الحركة الوطنية أو في حزب الشورى والاستقلال الذي كانا ينتميان إليه  ..لكن بالإضافة إلى هذه الخصال ، فإن ما يشترك  فيه كل من الزعيم الوزاني والمفكر عبد الهادي  بوطالب هما مشروعهما السياسي من خلال طموحهما في إقامة ركائز نظام ملكية دستورية بالمغرب : الأول من خلال تأسيس حزب للدفاع عن إرساء ركائز نظام ملكية دستورية بالمغرب والثاني من خلال العمل على إرساء دعائمها بالمغرب.

الزعيم محمد بلحسن الوزاني وإرساء دعائم  نظام الملكية الدستورية

تميّز محمد بلحسن الوزاني عن باقي رجالات الحركة الوطنية بالمطالبة بإرساء أسس النظام الديمقراطي بنفس درجة مطالبته بالاستقلال، مبيّنا أن هذه المطالبة الثنائية لا تعني رغبته في مواجهة المؤسسة الملكية أو معارضتها من حيث المبدأ، وإنما تدل على رؤية سياسية محددة . ولعل هذه الفكرة هي التي شكلت جوهر وبرنامج كل الحركات السياسية التي قام الوزاني بتأسيسها على مدى مشواره: الحركة القومية (1936) وحزب الشورى والاستقلال (1946) وحزب الدستور الديمقراطي  (1965). وعن ثنائية هذا المطلب يقول عبد الهادي بوطالب:” ركز الحزب على التزام العمل الوطني من أجل الاستقلال بإقامة نظام سياسي تتوزع فيه السلطة والحكم بين مؤسسات تمثيلية ولا تطغى فيه سلطة راجحة على سلطة أخرى . فقد  كانت من مبادئ حزب الشورى والاستقلال عند تأسيسه: «تعزيز التربية الوطنية، والعمل على تحقيق حكم الشعب بواسطة الشعب لتحقيق الديمقراطية على أساس الشورى».

وبالتالي فقد دافع الوزاني عن  مواقفه ونظرياته المتميزة حول الديمقراطية ، كما عبر عن ذلك اليوسفي في ندوة دولية حول ذكرى وفاة الوزاني بمدينة فاس في سنة 1998، التي رآها الجسر القوي والأساسي للمرور إلى تحقيق أي استقلال اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي، في مقالاته التي كان يدبجها في صحيفتي الرأي العام عن إرساء نظام ملكية دستورية يقوم في منظور الوزاني على دعائم ثلاثة : تعددية حزبية ، وضع دستور للمملكة ، والتشبث بالقومية العربية.

1-إقرار تعددية حزبية                                                                             

 ينطلق الوزاني من مبدأ التعددية كأساس لمجتمع سياسي سليم. وهذه التعددية تصدق بالأساس على المنظومة الحزبية التي ينبغي أن تترسخ وتتجذر في النظام السياسي المغربي. فهذه المنظومة تبررها في نظره الروح الوطنية وكذا نظام الحكم في الإسلام. فالوطنية تقتضي في المنظور الوزاني تواجد الأحزاب وتعددها، فإذا كانت الحزبية، كما نفهمها ونطبقها، هي الوطنية أساسا، ونظاما، وسلوكا، ومنهاجا فإنها بدون شك حزبية فاضلة ومشروعة لأنها باعتبارها من الوطنية الحق وإليها، جماع كل خير وصلاح وفلاح”.((1). و للرد على كل مفهوم أو فكرة ترى في التعددية الحزبية تعارضا مع الروح الإسلامية ، اعتبر الوزاني أن  التعددية الحزبية لا تتناقض مع مفهوم وحدة الأمة الذي ينص عليه الإسلام، خاصة إذا كان هذا التعدد يستند إلى تعاقد سياسي بين الأمة وقيادتها. وفي هذا السياق أورد الوزاني ما يلي  : ”  “وحدة الأمة والقيادة فيها لا تتنافى مع وجود الأحزاب واختلافها في الآراء والمناهج الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية ولا مع قيام الأغلبية والأقلية في رأيها العام ومجالسها التمثيلية. وإذا كان الرسول (ص) يقول : (أن يد الله مع الجماعة) و(عليكم بالجماعة والعامة)، فإنه كذلك يقول : (اختلاف علماء أمتي بالجماعة والعامة)، فإنه كذلك يقول : (اختلاف علماء أمتي رحمة) و(اتبعوا السواد الأعظم) وإذا كان القرآن يتحدث عن (أولي الأمر) وهم الولاة والحكام الذين يطيعون الله في أوامره ونواهيه مما يجعل الطاعة واجبة لهم في الدرجة الثالثة بعد الله والرسول، فإنه يتحدث كذلك عن (أولي الألباب) وهم قادة الرأي في الأمة من غير الولاة والحاكمين المسؤولين أو أهل الحل والعقد وأهل الشورى، كما يسمون في الدستور الإسلامي. ويتضح من هذا أن وحدة الأمة والقيادة السياسية فيها إنما تقوم على نظام محكم بين طرفي (العقد) الذي يبين حقوق وواجبات كل منهما بالنسبة للآخر وهذا ما يصطلح عليه في دستور الإسلام (بأداء الأمانات إلى أهلها) من جهة، و(بطاعة أولي الأمر) من جهة أخرى(2) .كما يبدو أن المعاناة السياسية لحزب الشورى والاستقلال من هيمنة حزب الاستقلال ، وتعرض بعض قيادييه ونشطائه للاضطهاد والتصفية ، كرست لدى الوزاني كمنظر ورئيس هذا الحزب ، قناعة راسخة بمحاربة وعدم القبول بنظام الحزب الوحيد . فقد أعلن الوزاني عن معارضته الشديدة لقيام الحزب الوحيد كيفما كانت طبيعته. مستندا في ذلك على ثلاث اعتبارات أساسية(3) ومن خلال هذه الاعتبارات انتقد الوزاني إقامة أي شكل من أشكال الحزب الوحيد سواء ذلك الذي حاول حزب الاستقلال فرضه أو ذلك الذي حاولت جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية إقامته. وهكذا كتب الوزاني عدة مقالات سجالية ينتقد فيها تجربة حزب الاستقلال بهذا الصدد منها تلك التي ألمع من خلالها إلى ما يلي :  “وتذكيرا بهذا الماضي وبما فيه من السوابق، وعملا بالمثل : عند الشدائد يعرف الإخوان، نريد أن نلقي هنا ضوءا كشافا على مواقف سياسية سجلها التاريخ على أصحابها سواء في أواخر محنة الملكية المغربية أو في عهد الاستقلال، وفي بيان هذا نقتصر على الأسئلة الآتية : من  نسي تلك التصريحات التي أفضى بها بعضهم لمراسلي الصحف الفرنسية والتي كان أصحابها لا يطالبون بأكثر من عودة جلالة الملك محمد بن يوسف رحمه الله من منفاه السحيق إلى فرنسا لا إلى العرض بالرباط ؟ ومن كان يعمل بكل وسيلة ليحول دون هذه العودة طمعا في الاستيلاء على الحكم وفرض السيطرة على البلاد في غيبة الملك وأسرته بفرنسا التي يراد أن تصبح لهما منفى جديدا لأمد غير محدود؟ ومن كان يعمل في عهد الاستقلال لفرض نظام الحزب الوحيد الذي كان خطرا على البلاد والأمة كما كان خطرا على الملكية وصاحبها. ومن كان يعمل لإخراج السلطة والنفوذ والأمر كله من يد جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله وولي عهده مولاي الحسن ؟ ألم يكن حكم الانسجام آفة على البلاد والشعب كما كان خطرا هدد كيان الملكية بسوء المصير؟ (4)                                                                                               

  وعلى غرار موقفه من محاربة نظام الحزب الوحيد المتمثل في هيمنة حزب الاستقلال ، كان للوزاني نفس الموقف المبدئي في معارضة تجربة تأسيس حزب ملكي ؛ مبررا ذلك بمجموعة من الاعتبارات السياسية التي تظهر تعارض وجود حزب ملكي في نظام ملكي كنظام الملكية بالمغرب. وبهذا الصدد كتب مقالا مطولا بصحيفة الدستور بتاريخ 31 دجنبر 1962 يعدد به مساوئ تأسيس مثل هذا الحزب وتأثيراته السلبية على الملكية بالمغرب حيث جاء فيه ما يلي : ” إننا نفهم ونتصور أن يقوم حزب ملكي في دولة جمهورية كفرنسا وإسبانيا – يوجد فيها فريق من الأمة يتمذهب بالفكرة الملكية ويحن إلى عودة الملكية كشكل وإطار لنظام الحكم فيها. ولاكننا لا نستطيع أن نفهم ولا أن نتصور قيام حزب ملكي في مملكة كالمغرب، خصوصا ودستوره ينظم ملكيته، ويجعلها وراثية، ويمنع إدخال أي تغيير وتعديل في النظام الملكي الذي يسويه في هذا المجال مع الإسلام نفسه. فهل مع هذا كله يحتاج النظام الملكي المغربي إلى نشوء حزب خاص به ؟ (5)    كما يضيف في انتقاده لهذه الظاهرة الحزبية ”  لقد عهدنا أن يقوم حزب ملكي في البلاد التي انتقل فيها النظام من الملكية إلى الجمهورية والتي يوجد فيها ملكيون ضد الجمهوريين، كما يوجد لها أمير يطالب بالعرش سواء في الداخل أو الخارج، وهذا ما نجد ممثلا في كل من فرنسا وإسبانيا، أما في المغرب فالنظام الملكي قائم وقد أصبح مضمونا أكثر  من ذي قبل بالدستور نفسه، فأي داع مع هذا لإيجاد حزب ملكي ؟ . وإذا وجد هذا الحزب فهل معناه أن غيره من الأحزاب المغربية سيعتبر غير ملكي ؟. وإذا صح الاعتبار فهل ستكون نتيجته هي حل غير الحزب الملكي الجديد من الأحزاب الموجودة او التي قد توجد فيما بعد ؟ وإذا تم هذا فإن الحزب الملكي الجديد سيصبح حزبا وحيدا في البلاد وهو ما يحرمه الدستور تحريما صريحا تاما مطلقا، وإذا أصبحنا أمام حزب وحيد فمن سيكون رئيسه أو كاتبه العام غير جلالة الملك الذي صرح أخيرا بأنه لا يجوز له أن يترأس أو يتحمل مسؤولية أي حزب أنه رئيس للدولة والحكم الأعلى… وبالإضافة إلى تلك فإن قيام حزب ملكي ليس من شانه إلا أن يخلق في البلاد- عاجلا أو آجلا- ما يمكن الاصطلاح عليه (بالمسألة الملكية) ثم في أية مملكة دستورية يوجد الملك رئيسا فعليا أو شرفيا لأي حزب من أحزاب الأمة حتى يمكن أن يوجد هذا في المغرب. وإذا ترأس ملك حزبا معينا فمهام ومسؤوليات الرئاسة تقتضيه أن ينزل إلى الميدان السياسي لينشط فيه ويخاصم ويعارك، مما لا يتفق مع منصب الملك ورئاسة الدولة، أي مع وظيف الحكم الأسمى والقيادة العليا في البلاد والأمة، ونزول الملك في أي بلد إلى ميدان النشاط الحزبي، والعراك السياسي مع فرقة ضد الفرق الأخرى يعرضه لكل ما يتعرض له قادة الأحزاب مما يسمى (بأخطار الحرفة)، وكيف هذا في مملكة كالمغرب يجعل دستورها شخص الملك مقدسا لا تنتهك حرمته ؟وإذا أمكن لملك ما أن يكون متحزبا لطائفة معينة ضد الهيئات السياسية الأخرى فهل يستطيع أن يؤدي الأمانة على وجهها، ويقوم بواجباته ومسؤولياته كرئيس وحكم أعلى ؟ وإذا كان الملك يملك بمقتضى الدستور أكثر ما يمكن من الاختصاص والامتياز والسلطة والنفوذ فهل يستعمل هذا كله لصالح الحزب الذي يعتبر حزبه ؟ وإذا كان هذا فمعناه أن الحزب الملكي أصبح بمثابة الحزب الوحيد حيث يكون الأكثر حظوة، وتفوقا، وسيطرة؟حيث يفلت الدستور البلاد من خطر الحزب الوحيد ويعمد “المتدسترون” في نفس الوقت إلى إقحامها فيما هو له شبيه ومثيل. وكيف يحرمون على غيرهم في الدستور باليد اليمني ما يحلونه لأنفسهم فيه باليد اليسرى وخلاصة القول إن قيام حزب ملكي في المغرب ليس في صالح الملكية نفسها لا في الحال ولا في المآل وأن الملك بالجميع وللجميع وفوق الجميع ” (6)                                                       

2-إقرار ملكية دستورية

    شكلت المسألة الدستورية مسألة مركزية في الفكر السياسي للوزاني ، إذ يعتبر هذا الأخير أول من طرح هذه المسألة بالمغرب ، منذ ” تقديمه على رأس حزبه في 23 شتنبر 1947 ، مذكرة ربط فيها ما بين الاستقلال والديمقراطية “. فالمسألة الدستورية في نظر الوزاني ليست شكلا لنظام الحكم بل هي بالأساس مرتبطة بطبيعة السلطة ومصادر شرعيتها ، وكذا بتحديد الضوابط السياسية لعلاقة المؤسسات فيما بينها ، وتحديد قواعد اللعبة بين الفاعلين السياسيين . وبالتالي ، فالدستور يبقى في نظر الوزاني مقياسا للتطور السياسي للدول ، إذ أن أي ” أمة التي لا دستور لها إنما هي أمة متأخرة ، وكل نهضة تقوم فيها تكون ناقصة ومعرضة في كل حين إلى التعثر…فنحن لا نعلم أمة شرقية أو غربية نهضت من غير دستور مقرر لها ” (7) وفي هذا السياق ، اعتبر الوزاني أن نظام الملكية الدستورية يجد جذوره السياسية في مؤسسة الشورى التي عرفها المغرب ، حيث كان “ملك المغرب في كثير من المناسبات يدعو مؤتمرا شوريا يحضره أعيان المملكة وقضاتها واساتذة كلية القرويين بجانب اعضاء الحكومة وكبار الموظفين ، ويعمل على العموم بمشورتهم وعلى هذا المنهاج سار المولى عبد العزيز وقتما اشتدت الأزمة السياسية الداخلية ، فقد كان يعقد مؤتمر الشورى ما بين الفينة والفينة في عاصمة فاس” (8). وقد شكل مجلس الأعيان ، في نظر الوزاني، خير مثال على نظام الشورى الذي نهجه السلطان المولى عبد العزير في تسيير امور البلاد التي كانت تواجه العديد من الأخطار الدولية والأزمات الداخلية ، حيث كان يرجع في تدبير الأمور ، من إعلان الحرب ، والتوقيع على المعاهدات إلى أهل الحل والعقد .فإذا ” نظرنا إلى تاريخنا القومي المغربي قبل نكبة الوطن بالحماية والحكم الأجنبي الدخيل ، رأينا بصورة مكبرة واضحة أن سلطة القانون وممارسة السيادة الشعبية كانتا دائما حقيقيتين قائمتين لا سبيل إلى إنكارهما وأنهما تجلتا في قوة وجلال كلما سنحت الفرص وسمحت الظروف بذلك” (9) وهكذا يرى الوزاني أنه لإعادة إقرار نظام الملكية الدستورية بالمغرب بعد حصول البلاد على استقلالها ، أصبح من الضروري وضع دستور للبلاد ، تتوفر فيه الشروط السياسية الضرورية والحقة . ولتحقيق ذلك ، أكد على ضرورة أن يستند هذا الدستور على المبادئ الأساسية للديمقراطية والتي تقوم على اعتبار” الأمة مصدر السلطات ، وضمانة الحقوق والحريات للفرد والجماعة والفصل بين السلطات”( 10) . وقد اعتبر  محمد حسن الوزاني أن الطريقة الطبيعية والديمقراطية في وضع أي دستور هو المجلس التأسيسي المنتخب انتخابا حقيقيا عاما وحرا ونزيها (11) . وبهذا الصدد كتب في صحيفة الدستور بتاريخ 12 نوفمبر 1962 مدافعا عن ضرورة انتخاب جمعية تأسيسية لوضع أول دستور للبلاد ما يلي : ” … قطعت الدولة بالمغرب المرحلة الأولى من معركة الدستور وهي مرحلة التسجيل الذي دعي إليه المواطنون البالغون إحدى وعشرين سنة، وقد تجلت بداية تلك المعركة من طرف الدولة فيما عبأته من وسائل وإمكانيات ورجال وإطارات خاض بها طور التسجيل من معركة الدستورية، غير مدخرة في هذا أي جهد، وأي أسلوب في الدعاية، وأي نوع من التأثير والإغراء بل الضغط والإكراه المعنوي والعملي، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على بعد هذه الحركة المدبرة، وهذه الضجة المفتعلة وهذه المغامرة المحبوكة عن حقيقة الحرية وأبسط مبادئ الديمقراطية، ولا بدع في هذا ولا غرابة ما دامت الأمور قد سارت وتسير في غير نطاقهما مهما ادعى الحاكمون في الإذاعة المسخرة والصحافة الموالية أو المواجهة ونحن نلتقي هنا بمجرد الإشارة إلى ذلك عملا بالقول : من جاء على أصله فلا سؤال عليه. ومرة أخرى نعيد الكرة ونسأل : لماذا تصر الدولة على وضع مشروع الدستور دون أن يكون هذا من حقها ولا من اختصاصها ودون أن تعهد الأمة إليها بذلك تنازلا منها عن حق هو أقدس الحقوق على الإطلاق في عصر الرقي والتحرر، والديمقراطية ؟ إن الدولة تجيب عن هذا يجعل الأمة أمام الأمر الواقع مستبدة عن طريقه بحق لا تملكه مطلقا، وهو عدوان صريح على أكبر حق من حقوق الأمة وانتهاك فظيع لكل حرية وديمقراطية روحا وجوهرا، وقانونا، ونظاما واختلاف شنيع لكل المقطوعة سابقا للأمة –في عهد استقلالها – بأن تتولى هي وضع الدستور بواسطة مجلس يمثل مختلف نزعاتها واتجاهاتها وفعلا أسس مجلس للدستور احتفظت به الدولة سنوات ولم نعد نسمع له حسا ولا ذكرا حتى فوجئنا بقرار استفتاء عام في مشروع دستور معد باسم الدولة نفسها. إن كل من يقول بحق الدولة في وضع الدستور يقول في نفس الوقت بوجود دولة في المغرب لا تتصرف كدولة عصرية تنصر الحرية باحترامها وتخدم الديمقراطية بتطبيقها، ودولة هذا شأنها إنما تريد أن تحكم بروح وأسلوب ونظام الدول في عصر الانحطاط والاستبداد، هذا العصر الذي كانت فيه الشعوب مغلوبة على أمرها، وكانت الدولة فيه حاكمة بأمرها إن شاءت. إننا إذ ننكر على الدولة العصرية تطاولها إلى أخذ حق أمة في وضع دستورها بواسطة من تنتدبهم لهذا العمل فإنما نتحدث كأبناء عصرهم الذي هو عصر النور لا الظلام، والحرية لا الاستبداد، الديمقراطية لا الطغيان، والاختراعات النووية لا الجهالة العمياء وبعبارة أخرى، إن عصرنا عصر الشعوب الدول والحكومات فيه إنما هي منبثقة عن الأمم باعتبار أنها مصدر السيادة وما يتفرع عنها من السلطان، كما أن الدساتير فيه توضع عن الأمم باعتبار أنها مصدر السيادة وما يتفرع عنها من السلطان، كما أن الدساتير فيه توضع من طرف ( السلطة التأسيسية والتشريعية وهما غير السلطة التنفيذية وبما أن المغرب يملك قانون ونظام فصل السلطات فإن تولي الدولة فيه وضع الدستور خرق صريح لهذا. وفي الحقيقة إن تولى الدول أمر وضع الدساتير إنما عرف في التاريخ بما سمي (بالديمقراطية القيصرية)، وهي غير الديمقراطية الحقة السليمة الصحيحة بل هي نوع من الديمقراطية كما يفهمها ويريدها (القياصرة) أمثال نابليون في فرنسا وأشباهه غيرها قديما وحديثا، فهل هذه الديمقراطية الأثرية المسيجة المشوهة هي التي يراد بعثها من مرقدها ليحكم المغرب باسمها، وتحت سيطرتها ؟ إننا نجل المغرب عن هذا المصير في عصر تحرره وتطوره.(12)

    ومن خلال هذا النص يتضح ليس فقط ترسخ القناعة السياسية لدى الوزاني بضرورة  انتخاب جمعية تأسيسية لوضع الدستور ، بل أيضا الشراسة التي دافع بها الوزاني عن هذه القناعة نظرا لاعتباره أن الدستور هو قبل كل شيء تعبير عن سيادة الأمة .إذ يعتبر الوزاني أن كل الدساتير هي أساس إي نظام سياسي لأنها تعكس وتعبر عن إرادة الأمة . وبهذا الصدد أشار إلى أن ” جميع الدساتير الحرة السليمة في الدول الراقية ، وحتى في بعض الدول المتخلفة ، تجعل من سيادة الأمة أساس النظام السياسي في البلاد ، والخطب الذي تدور عليه رحى الحكم في خدمة الصالح العام للأمة جمعاء ، ولم يكن الدستور المغربي الأول ليشذ عن ذلك ، حيث أعلن في فصله الثاني أن السيادة للأمة ، وكذلك فعل مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء العام ” (13)    ولكي يعكس الدستور السيادة الحقيقية للأمة حدد الوزاني مجموعة من الشروط التي ينبغي أن تتوفر في هذه الأمة ، حيث كتب بأن ” لا سبيل إلى هذه الممارسة العملية الصحيحة التامة للسيادة من طرف الأمة إلا إذا كانت هذه الأمة سيدة نفسها ، ومالكة زمام أمرها ، وقادرة على التصرف في شؤونها ، وحرة في تقرير أنظمتها ، وإقامة أجهزة التمثيل والحكم فيها ، وإجراء الرقابة على المسؤولين عن تدبير الشؤون العامة فيها. فإذا حقق الدستور هذا ، كانت السيادة للأمة حقا ويقينا ، وإذا لم يفعل كانت السيادة المنسوبة للأمة مجرد مبدأ معلن عنه لا نصيب له من الحقيقة والواقع ”   وقد اعتبر الوزاني أنه متى عكس الدستور السيادة الحقيقية للأمة ، فإنه يتحول إلى كابح لجماح السلطة والحد من من تجاوزاتها . حيث أن الهدف من وضع الدساتير هو أن تشكل   هذه الدساتير( حصارا) لفرملة تغول السلطة وتجبرها ، حيث كتب بهذا الصدد ما يلي : ” إذا بحثنا عن السبب الأصلي في قيام الدساتير وجدنا أنه يتمثل في القيام بوظيفة الحصار بالنسبة للجهاز المحرك الذي ينبني عليه الحكم والسياسة ، وبوجود أنواع الحصارات الدستورية المعهودة بكون الدستور منبثقا من سيادة الأمة ، وضامنا لممارستها على الوجه الأصلح ، ويستحق بهذا أن يعتبر من صميم الديمقراطية السليمة ، ونظام الحكم الصالح ن والعكس بالعكس.” (14)

         3– الانتخابات وإرساء ديمقراطية حقة

       اعتبر الوزاني بأن الانتخابات لا تشكل لوحدها نظاما ديمقراطيا حقيقيا ، بل قد تساهم في، غياب شروطها السياسية الأساسية تكريسا لنظام تنتفع منه أقلية من ذوي المصالح وأصحاب النفوذ.  فلتجاوز ما سماه “بمحنة الديمقراطية” بالمغرب لا بد من توفير بعض الشروط لإرساء ديمقراطية حقيقية وسليمة. وقد حدد مفكرنا هذه الشروط في المسائل التالية:  نزاهة العمليات الانتخابية، حسن اختيار المرشحين من طرف الناخبين، إصلاح القوانين الانتخابية، تنافسية حزبية حرة وشريفة، النضج السياسي للناخبين. فبدون هذه الشروط من الصعب جدا، إرساء نظام ديمقراطي سليم؛ علما بأن الديمقراطية ” أصعب نظام عرف في مجال الحكم والسياسة لأنه لا يستقر أمره، إلا بتوفير شروط في طليعتها التربية الوطنية والسياسية الملائمة للممارسة الديمقراطية على أساس حق الانتخاب والنظام النيابي ومسؤولية الحكم والمعارضة ورقابة الرأي العام فكل بلاد متأخرة بسبب ما يسود فيها من جهل وبؤس ويسيطر عليها من تعفن وفساد لا يمكن ان تكون ميدانا صالحا لتجربة الديمقراطية كيفية سليمة مرضية، وبهذا تكون الديمقراطية صورية وشكلية كما تكون في صالح المسيطرين من ذوي النفوذ والامتيازات مهما ادعى القائمون على الشؤون العامة من خدمة الصالح العام أي صالح المجموع أو الأكثرية من المواطنين وهكذا تصبح الدعامة الكبرى التي ترتكز عليها كل ديمقراطية حقة وهي المساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص بالنسبة للجميع، متصدعة ومنهارة،  فتتحكم أقلية المسيطرين المتأثرين  بالمنافع والمصالح في مصائر الأمور  ويكيفون مصلحة للجميع، متصدعة ومنهارة، فتتحكم أقلية المسيطرين المتأثرين بالمنافع والمصالح في مصائر الأمور ويكيفون مصلحة الشعب كما يشاؤون ويستبدون بنشاط الدولة ويسخرونه لما يريدون من أغراض وغايات . وهنا نتساءل : ما هو المصير الذي يراد للديمقراطية الدستورية وينتظرها عندنا بمناسبة الانتخابات الآتية ؟ إنه من الصدق والصراحة أن نجيب على هذا بأنه لن يكون هو المصير الذي يرضاه لها الديمقراطيون حقا، فإن الهيئة الناخبة المغربية –بكل أسف- قلما تتوفر فيها شروط الانتخاب الذي هو حسن الاختيارعن طريق التصويت الحر النزيه السليم وأقوى برهان على ذلك ما جرى في الانتخابات البلدية والقروية السابقة من مخالفات ومفاسد وتشويهات أخرجت هذه الانتخابات على جادتها المثلى، وجعلتها تخطيء المقاصد المتوخاة منها وأبرز صورة تجلى فيها الفساد أن أكثرية الناخبين صوتوا طوعا أو كرها لألوان الرجال فأساؤوا إلى مبدأ التصويت وحقيقته وغايته كما تصرفوا أسوأ تصرف في ورقة الناخب وبطاقة التصويت فتنكروا بهذا كله لحقهم كمواطنين وللديمقراطية كأصلح نظام للحكم والسياسة في هذه البلاد”(15). لكن تحقيق هذه الشروط رغم أهميتها تبقى مع ذلك غير كافية بالنسبة للوزاني؛ فالديمقراطية الحقة تتطلب أيضا القضاء على مختلف الفساد الداخلي؛ بحيث كتب بهذا الصدد ما يلي :

“وبالإضافة إلى العيوب الأساسية التي تنطوي عليها الهيئة الناخبة المغربية وهي عيوب لا يستطيع أن يصلحها القانون وحده بل تحتاج إلى التربية المثلى وحنكة التجارب وطول الممارسة توجد عيوب أخرى لا تقل عنها فسادا وخطورة، وهي عيوب الأوضاع العامة في المغرب من اجتماعية وخلقية، سياسية –حكومة وحزبية- واقتصادية فجميع هذه الأوضاع السيئة تشكل ما سميناه مرارا بالفساد الداخلي الذي يتفاقم شره، ويشتد خطره مع الأيام والليالي، فكيف يمكن مع هذا أن يقوم صرح الديمقراطية عاليا في بلادنا المنكودة الحظ، لأنها منكوبة على يد أهلها قبل أعدائها؟ وهل يرجى مع الفساد خير وصلاح ؟ وعلى فرض أن المغرب قد زود أو قد يزود بدستور يكون المثل الأعلى في بابه فهل يمكن أن يظفر هذا الدستور بالحياة في ميدان التطبيق الكامل السليم ؟ إن أي عاقل لا يستطيع ان يتصور شيئا من هذا مطلقا، لأن الفساد والصلاح لا يمكن ان يلتقيا في مواءمة ويقترنا في توأمة… ومن هذت يتضح لنا جليا أن المسألة في بلادنا ليست مسألة دستور، ولا مسألة انتخابات وما بعدها بل هي مسألة قضاء على الفساد أولا، وإصلاح الأوضاع ثانيا، فعلى هذا الأساس وحده يمكن علاج أمراض المجتمع والدولة وما أكثرها وأخطرها في بلادنا ودرء المفاسد أولى من جلب النعم كما قيل، فالمغرب حينما اتجه إلى إقرار الدستور بالكيفية التي نعلمها جميعا، وحينما يراد به أن يتجه في طريق هذا الدستور على علاته، مع بقاء أوضاع الفساد الداخلي على ما هي إنما قذف أو يقذف به في هوة الله أعلم متى وكيف يمكن أن يتخلص منها …”(16).

-الأستاذ عبد الهادي بوطالب والعمل على إرساءدعائم  نظام الملكية الدستورية

من المعروف أن الزعيم محمد بلحسن الوزاني عمل طوال مساره السياسي على محاولة إرساء الفكر الديمقراطي بالمغرب من خلال جريدته عمل الشعب (l’action du Peuple)  التي أسسها في سنة1937. و تأسيسه لحزب الشورى والاستقلال وإصداره لصحيفة ناطقة باسمه ” الرأي العام”. فإن تجربته السياسية كوزير للدولة في الحكومة التي ترأسها الملك الراحل محمد الخامس وإسراعه في تقديم استقالته منها ، وانتخابه كنائب عن مدينة وزان في أول تجربة برلمانية للمغرب في سنة 1964 بقيت قصيرة جدا مقارنة بالتجربة السياسية العملية للأستاذ عبد الهادي بوطالب التي قاربت نصف قرن كما ورد في مؤلفه  ( نصف قرن من السياسة ) . فبالاضافة إلى عمله كأستاذ بالمدرسة المولوية وأستاذا للقانون بجامعتي محمد الخامس بالرباط والحسن الثاني بالدار البيضاء حيث كان أستاذا للملك الراحل الحسن الثاني وللملك الحالي للمغرب محمد السادس بالمعهد الملكي بالرباط ،  فقد شارك في أول حكومة مغربية بعد الاستقلال كوزير للشغل والشئون الاجتماعية. ليتقلد بعد ذلك عدة مناصب وزارية: كاتب الدولة في الأنباء والشبيبة والرياضة، وزير العدل، والتربية والتعليم، وزيرللخارجية . بالإضافة إلى تعيينه  سفيرا للمغرب بكل من بيروت و دمشق، وواشنطن والمكسيك . كما ترأّس البرلمان المغربي سنة 1970. ليعين  مستشارا للملك الحسن الثاني في فترة (1976-1978) و (1992 – 1996).

وقد حاول خلال هذه التجربة الحكومية الطويلة أن يجسد بعض مبادئ حزب الشورى والاستقلال التي كان من أعضاء مكتبه السياسي (17) والتي حددت من طرف زعيم حزب الشورى والاستقلال في خطاب ألقي خلال تأسيس الحزب في 20/9/1959  في ثلاثة مرتكزات أساسية:

    أولا- القومية العربية المتحررة كعقيدة سياسية للحزب

           ثانيا-الديمقراطية المثلى كهدف سياسي للحزب ( لاعتبارات ترسخ النزعة الديمقراطية بالمغرب، كون الحزب منذ تأسيسه كحركة قومية وهو قائم على الشورى ، التضحيات الكبرى لأعضاء الحزب لتحقيق الديمقراطية )

           ثالثا-  كون أن الديمقراطية تجد مرجعيتها في الشورى التي دعا إليها دستور الإسلام؛ وهو القرآن الذي نص في آية من آياته وأمرهم شورى بينهم، كما أن التجربة السياسية في عهد ثاني خليفة للرسول استنكرت استعباد الناس الذين ولدتهم أمهاتهم أحرارا.)

1-عبد الهادي بوطالب والدفاع عن القومية العربية

           عمل الأستاذ عبد الهادي بوطالب من خلال عمله الدبلوماسي كسفير أو كوزير للخارجية  على تشبثه بثوابث القومية العربية . فقد أولى الأستاذ عبد الهادي للقومية العربية ، كما أولاها الزعيم الوزاني (18)  ، أهمية كبرى ليس فقط في كتاباته  السياسية (والتي كان من بينها مؤلف القومية العربية والتضامن الإسلامي، ونظرات في القضية العربية (باللغتين العربية والفرنسية) و بين القومية العربية والجامعة الإسلامية) بل أيضا في تحركاته الدبلوماسية سواء من خلال تعيينه سفيرا بدمشق سنة 1961، وتكليفه رسميا من طرف الملك الحسن الثاني للقيام بدور الوساطة بين سوريا ومصر، اللتين طلبتا ذلك من المغرب، حيث كانت الوحدة بين البلدين مهددة بالانهيار. وإذا كان الأستاذ عبد الهادي بوطالب قد تحمل مسؤولية عدة وزارات، بدءًا بأول حكومة بعد الاستقلال في 7 دجنبر 1955، فقد تولى من سنة 1966 إلى سنة 1969، حقيبة وزارة الخارجية التي فتحت له آفاقا واسعة في مجال العمل الديبلوماسي وفي مجال العلاقة مع المنظمات الدولية وغيرها من آليات العمل الديبلوماسي(19). وهكذا تردد على الملك فيصل (4 أو 5 مرات ، مرة وردت عليه لأحمل له دعوة الملك الحسن الُاني لحضور القمة الاسلامية .ثم جئت إليه مبعوثا لأحمل له دعوة القمة العربية التي انعقدت بالرباط ) (20). كما استأثر مشكل تسوية  النزاع العربي – الإسرائيلي باهتمام الأستاذ عبد الهادي بوطالب لما عين وزيرا للخارجية وخاصة مخطط روجرز حيث أشار إلى ذلك بأنه بقوله ( عندما عينت على راس وزارة الخارجية ، زارني الوزير الأمريكي روجرز مرتين في وزارة الخارجية المغربية ، واستقبله الملك الحسن الثاني بحضوري مرتين) . كما لعب الأستاذ عبد الهادي بوطالب كمستشار للملك الحسن الثاني دورا دبلوماسيا فعالا خلال الحرب الكويتية العراقية  وبهذا الصدد  ورد بمذكراته   ( نصف قرن من السياسة ) ما يلي : ( والمعروف أن الملك تدخل لدى العراق والكويت ليصفي ما بينهما من خلافات .وفي هذا السياق لعب شخصي المتواضع دورا كبيرا بعدما غادرت الايسسكو وأصبحت مرة أخرى مستشارا لجلالته ، إذ ترددت زياراتي للبلدين عدة مرات لا أحصيها ، بصفتي مستشارا لجلالة الملك ومبعوثا خاصا وذلك بعد نهاية الحرب  .واحتضنت مدة تزيد على ستة أشهر ملف الأسرى الكويتيين الذين قالت عنهم الكويت إنهم موجودون في العراق وتريد أن تعلم مصيرهم …)(21)

2- عبد الهادي بوطالب والدفاع عن  ثوابت القضية الوطنية     

       من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ عبد الهادي بوطالب، النضال السياسي دفاعا عن استقلال المغرب وسيادته حيث كان عضوا في الوفد المغربي الذي عرض القضية المغربية أمام الأمم المتحدة في باريس. كما عايش تطورات العلاقات  المغربية الجزائرية كوزير للإعلام عندما رافق الملك الحسن الثاني في زيارته للجزائر  لنقاش مسألة الحدود مع الجزائر كوزير للإعلام خلال تداعيات حرب الرمال.                                                

– تداعيات حرب الرمال                                                                                   

  قبيل هذه الحرب بعث الملك الحسن الثاني الأستاذ عبد الهادي بوطالب برفقة الحاج أحمد بلا فريج إلى الرئيس بن بلا بدون جدوى. ليعاود إرساله مرة أخرى  ” إلى الرئيس بن بلا وبرفقتي مدير ديوانه العسكري الكومندان محمد المدبوح في مهمة تستهدف تحسيس الرئيس الجزائري بخطورة الموقف وحمله على إيقاف مسلسل الاعتداءات والتحديات ” (22) و” أقلتنا طائرة دس3 من مراكش إلى الجزائر في رحلة استمرت ما يقرب من خمس ساعات ….وابتدأ الحديث مع الرئيس بن بلا في جو متشنج .وكنت أحاول أن ألطف حدته شكلا دون تساهل في العمق : فالمغرب متشبث بترابه المدمج من فرنسا في التراب الجزائري وبالمطالبة بإرجاعه طبقا للحجج المؤيدة له ، ولكن عن طريق التفاوض والحوار . والمغرب يعتقد أن حوادث العدوان مفتعلة من عناصر جزائرية ، ويأمل ألا يكون العدوان من عمل الحكومة الجزائرية وبإرادتها ….وانتظرت ، وأنا أحاول أن أفتح أقفال الرئيس ، أن يسلك من أحدها إلى تجاوز الأحداث بإعطاء تطمينات عن نوايا الجزائر ….فلم يسعفني الرئيس ببارقة مهدئة لجو التشنج التي كانت تبدو ملامحه فوق وجهه ، واندفع يطلق لسانه بما يفضح طوايا صدره . لم يقدم الرئيس اعتذارا عما حصل …ولم يطلب مني أن أنقل لجلالة الملك أية عبارة للمواساة والعزاء في الضحايا ، بل في انفعال مثير قال : إن مشكلة الحدود ةمشكلة وهمية ويجب السكوت عنها في الوقت الحاضر لتجاوزها فيما يستقبل وزاد يقول على النظام الملكي المغربي أن يواجه مشاكله الداخلية ،وأن يعلم أن النظام الجزائري حصين منيع ، ولا يملك النظام الملكي المغربي النيل منه . وكانت هذه الفقرة من الحديث خاتمة الجدل تعطلت معها لغة الكلام …ووجدتني مضطرا لان أدخل مع الرئيس في ملاسنة حفظت فيها كرامة المغرب  ووضعت حداللحوارالعقيم”(23)                                                                                                                         

 -عبد الهادي بوطالب واسترجاع الأقاليم الصحراوية                                     

في إطار التحضير لتنظيم مسيرة سلمية نحو الصحراء، تحدث الأستاذ عبد الهادي بوطالب في  كتاب “نصف قرن في السياسة” وفي برنامج الجزيرة “شاهد على العصر” ، عن المسيرة الخضراء وعلاقته بهذا الحدث التاريخي. إذ بعد سنوات، من الاعتزال السياسي، عاد الأستاذ عبد الهادي بوطالب إلى معترك السياسة، سفيرا في الولايات المتحدة الأمريكية بعدما اختاره الملك الراحل الحسن الثاني سفيرا للمغرب بواشنطن للدفاع عن قضية الوحدة الترابية.  حيث يقول في هذا الصدد، بأن الملك الحسن الثاني بعث إليه صديقه أحمد بنسودة مدير الديوان الملكي آنذاك، وأبلغه أن الملك يعرض عليه أن يذهب سفيرا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فكان جواب عبد الهادي بوطالب، كيف يمكن أن أكون سفيرا بعد أن تقلدت مناصب عليا. بعد هذا توجه الأستاذ عبد الهادي بوطالب إلى الملك وكان ذلك قبل انطلاق المسيرة بسنة أي في أوائل نونبر 1974، ليشرح له الملك الأسباب الذي أدت إلى اتخاذ قرار تعيينه سفيرا  بواشنطن . فقد كان اختيار الأستاذ عبد الهادي بوطالب للذهاب إلى واشنطن يدخل ضمن تصور سياسي  شرحه له الملك الحسن الثاني بالقول “أنا لم أحتج إليك لتكون سفيرا فحسب، بل لأنك مكافح وطني كانت لك مواقف في الحركة الوطنية، وعايشتَ جميع التطورات التاريخية التي عرفها المغرب قبل الاستقلال وبعده. وأريد ألا تفوتك فرصة الحضور في منعطف تاريخي مهم أحرص على أن تكون أحد أطرافه وفي طليعة المشاركين فيه”. فسألته : “ما هو يا جلالة الملك؟”. فأجاب : “تعلم أن قضية الصحراء تهمني، وأنني أشرت في عدد من خطبي إلى أنه لا يمكنني أن أتركها بدون حل. والحل هو استرجاعها وأنا قد نوعتُ الأساليب التي عرضتها على الإسبان لتحرير الصحراء بالتوافق ووجدتهم غير مستعدين. الآن أنت تذكر أنك عشتَ معي المظاهرة التي خرجت فيها متسللا وأنا داخلي بالمعهد الملكي للتظاهر مع الوطنيين بالمشور الملكي بالرباط. وأريد الآن أن نقوم بمظاهرة شعبية كبرى من أقصى المغرب إلى أدناه، نضغط بها على إسبانيا ونرفع صوتنا : يسقط الاستعمار الإسباني وستكون هذه المظاهرة كبرى المظاهرات في تاريخ المغرب”. فاستفسرته عن حقيقة هذه المظاهرة فرد علي : “لا أستطيع أن أقول لك الآن أكثر. المظاهرة ستكون كبرى وستثير ثائرة أصدقائنا وحلفائنا، كما ستزلزل أعداء تحرير الصحراء. وأنا الآن أريد أن تكون مراكز ديبلوماسيتنا في الخارج وفي أيد كفؤة، أمينة للدفاع عن المشروع الذي سأعلنه. واخترتك سفيرا في واشنطن لهذه الغاية”. فقلت له : “يا جلالة الملك، بفضل ثقتك في سعدتُ بتولي مهام كبرى، فكيف تراني أعود لأتسلق درجات السلم من البداية كسفير؟ علق الملك قائلا : “هذا الحدث مهم جدا، وسترى فيما بعدُ أنني أسديت إليك خيرا بإعطائك دورا فيه سيبقى معه اسمك ضمن أسماء من سيصنعون الحدث. واخترتك لمركز واشنطن المهم الذي لا يذهب إليه الوزراء الأولون السابقون أو وزراء الخارجية السابقون، أومن تقلبوا في مهام كبرى، مثل مهامك السابقة” (24)                                                               

   وخلال فترة تولى الأستاذ بوطالب سفارة المغرب ابتداء من نهاية 1974 إلى سنة 1976، نسج هناك عددا من العلاقات وتعرف على الديبلوماسية الأمريكية، حيث يقول ” قدمت أوراق اعتمادي إلى الرئيس جيرالد فورد الذي خلف الرئيس ريتشارد نيكسون بعد فضيحة ووترغيت. وأصبحت أرتبط بصداقات وأُنوِّع اتصالاتي بالوزراء وفي طليعتهم هنري كيسنجر، ومساعده جوزيف سيسكو، ونائب وزير الدفاع بالبنتاغون كليمونت وبأعضاء مجلس الشيوخ والكونغرس. وكان حديثي إليهم متصلا دائما بقضية الصحراء والنزاع العربي الإسرائيلي. وكلما مر شهر أو شهران كان الملك يطلب مني القدوم إلى الرباط ثلاثة أو أربعة أيام أحضر فيها مجلسه مع خاصته، وأُطْلعه على الأوضاع في الولايات المتحدة وألخص له التقارير التي كنت أبعثها لوزير الخارجية “.                                                     

  وهكذا يحكي لنا الأستاذ عبد الهادي بوطالب كيف أصبح سفيرا في واشنطن، ويحكي في نفس الوقت كيف كانت تجربته هناك، وهو يمارس عمله الديبلوماسي بشرح موقف المغرب. وبعد الإعلان عن المسيرة، يتحدث الأستاذ عبد الهادي بوطالب عن الحذر الأمريكي وكيف كانت تجري اتصالاته مع الخارجية الأمريكية وعرابها آنذاك هنري كيسنجر. وتتحدث بعض الوثائق الرسمية الأمريكية، كيف كان يقدم الأستاذ عبد الهادي بوطالب شروحاته للأمريكيين ولوزير خارجيتهم كيسنجر، وفي وثيقة مؤرخة في 17 أكتوبر 1975، وفي لقاء جمع بين كيسنجر وبوطالب، يتحدث الفقيد، عن كون إسبانيا كانت تعترف دائما بأن الصحراء مغربية وأن الجلاء عنها مسألة وقت وأن رأي محكمة العدل الدولية ولجنة تقصي الحقائق جاء لصالح المطالب المغربية، وأن المغرب لن يبدأ هجوما أو اعتداء على الصحراء ولا يريد حربا مع إسبانيا ولكن يريد حوارا وتفاوضا لحل المشكل. كان هناك حذر أمريكي وتخوف من اندلاع الحرب بين المغرب وإسبانيا ولم يتنفس الأمريكيون الصعداء، يقول الأستاذ عبد الهادي بوطالب إلا حينما علموا أن الجنرال فرانكو بعث رسولا إلى الملك الحسن الثاني يبلغه استعداد إسبانيا للدخول في مفاوضات مع المغرب لإنهاء مشكلة الصحراء. ودخل المغرب وإسبانيا في مفاوضات وتوقفت المسيرة وأبرمت معاهدة مدريد التي خرجت منها موريتانيا بعد أن هددتها الجزائر حيث قال بومدين للرئيس الموريتاني المختار ولد دادة، وهدده بالقول، “ارفع يدك عن الصحراء، انسحب وانفض يدك من التعاون مع المغرب وإلا فنحن لك بالمرصاد. لقد كانت تجربة الأستاذ عبد الهادي بوطالب، وهو سفير بواشنطن، متميزة، سواء بالنظر للتطورات التي عرفها ملف الصحراء أو بالنظر لعمله الديبلوماسي وعلاقاته المتنوعة مع الإدارة الأمريكية والكنغرس” (25)                                                                             

عبد الهادي بوطالب والدفاع عن قواعد اللعبة الديمقراطية 3-    

     في إطار تشبته بالفكر الديمقراطي وإرساء أسس الملكية الدستورية ،  دافع الأستاذ عبدالهادي بوطالب باقتناع عن التجربة الديمقراطية الوليدة من خلال ما يلي                                                                                                                                               

 المشاركة في العملية الانتخابية* 

  ساهم الأستاذ عبد الهادي في العمل على إنجاح التجربة البرلمانية التي أفرزها دستور 1962 من خلال المشاركة في الانتخابات التشريعية  لعام 1963  التي خاض فيها المعركة الانتخابية ضد أحزاب  المعارضة المكونة من حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية . حيث ترشح بالمحمدية كوزير من الأغلبية الحكومية  دون أن يوظف إمكانيات السلطة  في حملته الانتخابية . وقد صرح بهذا الشأن بما يلي ” أذكر بكل شفافية وصدق أنني كنت أذهب للمحمدية لاقوم بحملتي الانتخابية وأنا وزير على متن سيارتي الخاصة وبسائق غير موظف في وزارتي . وكنت أخطب في التجمعات الانتخابية ، ولم يسبق لي أن طلبت من رجال السلطة في المدينة أن يناصروني . وخضت المعركة الانتخابية في مواجهة الاستقلالي ابن العربي . وكان من يعارضونني يرجمون بالحجارة من يتجمعون حولي وأنا أخطب .ولم تتدخل الشرطة التي كانت موجودة في المكان لحماية من كانوا يهاجمون حملتي الانتخابية(26)                                                                           

   من خلال تعيينه كوزير منتدب لدى الوزير الأول في حكومة باحنيني التي أفرزتها نتائج  أول انتخابات تشريعية  في المغرب والتي عينها الملك في 13 نونبر 1963، دافع الأستاذ بوطالب كناطق رسمي باسم هذه الحكومة  ومكلف بتنسيق  العلاقات بين الحكومة والبرلمان ، من خلال مواجهته لملتمس الرقابة الذي قدمته المعارضة لإسقاط الحكومة وحجب الثقة عنها . وبهذا الصدد صرح بما يلي : ” لما جاء ملتمس الرقابة إلى مجلس النواب الذي تقدمت به المعارضة ، كان علي أن أقوم بالدفاع عن الحكومة بدلا من رئيس الحكومة الذي كان ملتمس الرقابة يستهدف شخصه وحكومته .وطيلة الأيام الثلاثة من مناقشة ملتمس الرقابة (حجب الثقة) ، كان المتحدثون ينتقدون الحكومة ، إلا أن الملتمس لم يحظ بالأغلبية وسقط بعد أن دافعت عن الحكومة في بث تلفزيوني دام ثلاث ساعات حرصت من خلالها على الرد على جميع الانتقادات الواحد تلو الآخر.” (27)وعلى الرغم من الاتهامات الموجهة إليه بأنه قد غير مواقفه السابقة عندما كان منتميا إلى كل من حزب الشورى والاستقلال أو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، فقد رد على ذلك بأنه ، بالإضافة إلى مساهمته لأول مرة في نقل نقاش البرلمان إلى الرأي العام عن طريق البث التلفزي ، الشيء شكل ( مشهدا جديدا في حياة الأمة ، إذ لأول مرة كان مشاهدوا التلفزة يعيشون وقائع مساءلة النواب أعضاء الحكومة )، فقد ( كنت دائما من موقع النضال الذي اخترت لنفسي أن أكون فيه ودافعت عن حكومة أنتمي إليها باقتناع كامل من موقع مسؤوليتي فيها .وكنت أرى أنها تتهم باطلا من طرف المعارضة فقط بغية تمرير ملتمس الرقابة ضدها وإسقاطها ) (28)

التشبث بالتجربة البرلمانية

تعرضت التجربة الديمقراطية الوليدة لعدة عوائق وصعوبات أدت إلى إجهاضها بحيث لم تستغرق سوى أقل من سنتين.إذ أن محاولة المعارضة توظيفها للضغط على المؤسسة الملكية واستخدامها كآلية سياسية لمواجهتها ، دفعت بالملك الحسن الثاني إلى محاولة إنهائها من خلال اللجوء إلى الفصل 35 من الدستور وإعلان حالة الاستثناء على غرار ما قام به الجنرال دوكول بفرنسا . في حين عارض الأستاذ هذا التوجه وحاول إقناع الملك باللجوء إلى آلية أخرى تحافظ على هذه التجربة الديمقراطية الوليدة .وبهذا الصدد صرح بما يلي : ” لم أكن مرتاحا لاتخاذ تدبير حالة الاستثناء رغم دستوريته ، إذ هو يعني عمليا أننا سندخل في عهد ديكتاتورية ، وسيجعل من النظام المغربي نظاما غير مفهوم وربما غير مقبول من لدن المجتمع الدولي ، خاصة والتجربة الدستورية ابتدأت متأخرة بعد مرور ست سنوات على إعلان استقلال المغرب ، وطال انتظاره لها.إني تربيت في مدرسة الديمقراطية والشورى والبرلمان عندما انتميت منذ صباي إلى الحركة القومية ، ثم إلى حزب الشورى والاستقلال .وكنت متحمسا للتجربة البرلمانية ، وأرى أن حوارها وجدلها وحتى صخبها وضوضاءها ومقاطعة النواب لبعض الجلسات كل ذلك من صميم عمل البرلمان .صحيح أن بعض جلسات البرلمان لم يحترم فيها بعض النواب وقار المجلس ، لكنها كانت التجربة التشريعية الأولى في عهد المغرب المستقل ، وكان لا بد أن يمارسها البعض بتصرفات مبالغ فيها أو غير مسؤولة …وقلت للملك الحسن الثاني لو أن جلالتكم تعودون فتفكرون أكثر ما فكرتم لتعدلوا من إعلان حالة الاستثناء وأشرت عليه بأنه يمكنكم أن تحلوا البرلمان إذا رأيتم أن تشكيلته الحالية لا تؤدي الغرض المطلوب منها ولكن لا تسيروا إلى إعلان حالة الاستثناء … إن الدستور يخول جلالتكم  حق حل مجلس النواب بسلطتكم التقديرية .أما حالة الاستثناء فقد أخضها الفصل الخامس والثلاثون لشروط يجب توفرها . ولذلك أنصح جلالتكم بالاقتصار على حل المجلس “(29) لكن اقتناع الملك بضرورة الإعلان عن حالة الاستثناء ، دفعه إلى الاستجابة لطلبه بكتابة الخطاب الملكي الذي أعلن من خلاله عن قرار الإعلان عن حالة الاستثناء بالمملكة والحيثيات السياسية التي وراء اتخاذه.وقد دفعه إيمانه بالتجربة البرلمانية  إلى الترشح بشكل مستقل بعدما قرر الملك إيقاف حالة الاستثناء وإدخال تغييرات على دستور 1962. فعلى الرغم من عدم مشاركة أحزاب المعارضة في الانتخابات لعدم رضاها على دستور 1970الذي اعتبرته تراجعا عن دستور 1962وأقل ديمقراطية منه . فقد خاض غمار الانتخابات التشريعية بدون انتماء حزبي (30) حيث فاز بإحدى الدوائر الانتخابية بالجديدة في غياب منافسين أقوياء بسبب مقاطعة أحزاب المعارضة لهذه الانتخابات ، لينتخب بالإجماع رئيسا لمجلس النواب .وبهذا الصدد صرح بما يلي : ” مارست مهمتي على رأس المجلس الذي نشأ في هذه الظروف الخاصة . وكنت مؤمنا بما أفعل رغم علمي أن التجربة كان ينقصها الكمال .ولكني  كنت سعيدا بخروج المغرب من حالة الاستثناء التي سبق أن ذكرت لك موقفي إزاءها . وقلت في نفسي إن التجربة الجديدة رغم نقصانها تشكل عودة إلى الحياة الديمقراطية ، وهذا مكسب مهم . وتعيد المغرب إلى وضع دستوري هو على كل حال أفضل من وضع حالة الاستثناء التي نصحت ألا يدخل المغرب فيها ” (31) . ولعل هذه الفكرة هي كان  يتقاسمها مع الزعيم محمد بلحسن الوزاني الذي  أشاد بدستور 1970 لأنه جاء بعد الفراغ السياسي الذي ساد البلاد إبان حالة الاستثناء والتي كان من بين تداعياتها السلبية محاولة انقلاب الصخيرات التي أصيب فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بجروح في ساقه .بينما  فقد محمد حسن الوزاني يده اليمنى   فتعلم الكتابة بيده اليسرى التي استعملها  في كتابة المذكرة التي قدمها إلى الملك الحسن الثاني يوم 15 يناير 1972، يلخص فيها حالة المغرب السياسية ووجهة نظره في الوضع العام، م مقدما ما رآه من حلول  مستعجلة.

خاتمة

من خلال رصد للمسار الشخصي والسياسي لهاتين الشخصيتين ،  نخلص بأن كلا من الأستاذ عبد الهادي بوطالب والزعيم  محمد بلحسن الوزاني يشتركان في قواسم شخصية وسياسية مشتركة : فهما ينتميان إلى مدرسة سياسة تؤمن بالشورى والعمل الديمقراطي ، وتقوم  على ممارسة السياسة بنبل وتجرد يقوم على تقديم المصلحة العامة قبل المصلحة الشخصية وأن المنصب هو وسيلة لخدمة أهداف سياسية عليا و تقعيد لركائز ملكية دستورية تقوم على التعددية الحزبية ، والدفاع عن الوحدة الوطنية .. وقد لخص الإعلامي الصديق معنينو، العلاقة التي تجمع بين الرجلين بأن  بوطالب إذا “رجلاً وطنياً تحمل مسؤوليات مهمة في الدولة وكان رجل إعلام وتواصل ، و تشبع بأفكار “قدمية وثقافة راسخة مبنية على حرية الإنسان وبناء مغرب ملكي دستوري”، فقد كان  محمد بلحسن الوزاني مصدر هذا التأثر والمنبع الذي استقى منه الأفكار والمبادئ التي بنى عليها بوطالب مقاربته السياسية”وقد أجمل الأستاذ بوطالب مقولة “أن السياسي المحترف هو الذي يعيش للسياسة وليس ذلك الذي يعيش من السياسة” من خلال قوله ” إنني مارست الحكم وكنت قريبا منه طيلة عقود من الزمن ، لكن لم أمن الرجل الذي يفكر في أن يعمل كل شيء، ليبقى خالدا في الحكم ، بل أحيانا كنت أقوم بمبادرات كنت أعلم أنها قد تبعدني عن الحكم ، وكنت مع ذلك أقتحمها لأنها كانت تتوافق مع ما أفكر فيه وأومن به ….كنت أمارس الحكم كمناضل أو كهاو للرياضة وبإيمان بما أفعل وأذر …وقد قلت لجلالة الملك إنه سيان على ذلك أن أكون مستشارا أو أكون منعزلا في بيتي ، وكان هذا من جملة ما عتبه علي ، كنت أخلق نفسي حتى لا أصبح عبدا للحكم وأصاب فيه بما يصاب به المنبطحون عليه حين يفقدون السلطة فيعانون من فقدها كما لوتخطفتهم الموت ” (32) ورجل سياسة هذا تصوره هو الذي أدلى بشهادة في حق الزعيم محمد بلحسن الوزاني لإحدى الجرائد الوطنية: “وحيث طلبت مني أن أتحدث عن محمد بن الحسن الوزاني في عبارات مختصرة فدعني أقول صادقا وبعد معاشرتي عن قرب للرجل إنه كان عنوانا فريدا للاستقامة، والنزاهة، والزهد، والوطنية الصادقة، ورجل المبادئ التي لا يعرف فيها مهاودة ولا تفريطا. ولعله الوحيد من بين الزعماء الوطنيين المؤسسين الرواد للحركة الوطنية الذي لم يجن من الوطن نفعا ماديا ولم يستخلص عن كفاحه عوضا أو ثمنا”

هوامش

 1-  محمد حسن الوزاني – في الدستور والبرلمان  – دراسات وتأملات ج 3 –  م س-  ص 20

2-   ن م

3-   محمد حسن الوزاني – حرب القلم، ج2. م س –  ص 134

  “*اعتبار سياسي، إذ أن الحزب الوحيد يعتبر “مضادا للحرية بصفتها حقا وملا لكل إنسان ومواطن، وأنه أساس تقوم عليه الدكتاتورية لفرض السيطرة والعبودية، وأنه بسبب هذا وذلك عدو لدود للأمة والملكية في كل عصر ومصر”(2).

          *  *اعتبار قانوني يتجسد في أن “قانون الجمعيات الصادر في سنة 1958 قد أباح تأسيس الأحزاب، وكان في الاعتراف قانونيا بهذا الحق لجميع المواطنين قطع السبيل على نظام الحزب الوحيد” كما أن إعلان العهد الملكي للأمة، ثم إصدار القوانين الأساسية للحريات العامة أمكن للأحزاب الموجودة أن تتأسس قانونيا “. ثم “جاء الدستور أخيرا فحرم صراحة- دستوريا- قيام نظام الحزب الوحيد في المغرب

   *اعتبار ديني يقوم على “أن الاختلاف في الرأي ظاهرة بل ضرورة اجتماعية- لأنها فطرة الله فطر الخلق عليها- أفليس من أكمل واجبات القيادة في الأمة أن تبني سياستها على الاستفادة من الآراء، والتوفيق بين الاتجاهات الصالحة خصوصا إذا كانت الدولة لا تملك مذهبا خاصا أي إيديولوجية معينة تفرضها بالكره والضغطط، القوة على الأمة مباشرة أو عن طريق الحزب الوحيد”

               محمد حسن الوزاني – حرب القلم، ج2. –  صف 132-135 و ص 87

4   -محمد حسن الوزاني – ن م  –  ص 86

  5- ن م –  ص 83

6-  ن م – حرب القلم، ص 92- 93

7- محمد حسن الوزاني “إنما حياة كل أمة الدستور” حرب القلم ج 3 –  مؤسسة محمد حسن الوزاني-  ص 67-

8- محمد حسن الوزاني – نظام الدولة المغربية في عهد استقلالها – حرب القلم ج 3 –  مؤسسة محمد حسن الوزاني-  ص 175

9- ن م – ص 179

10- محمد حسن الوزاني – الدستور والقضاء – حرب القلم ج 2 –  مؤسسة محمد حسن الوزاني-  ص 164

11- محمد حسن الوزاني – في الدستور والبرلمان  – دراسات وتأملات ج 3 –  مؤسسة محمد حسن الوزاني-  ص 7

12- محمد حسن الوزاني “إنما حياة كل أمة الدستور” حرب القلم ج 3 –  مؤسسة محمد حسن الوزاني-  ص 612

13- محمد حسن الوزاني – في الدستور والبرلمان  – دراسات وتأملات ج 3 –  م س-  ص 19

14- ن م – ص 19-20

15-         ن م  –  ص 158-159

16- ن م – ص 159-160

17- قبل أن ينفصل عنه للانضمام إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية برفقة بن سودة الذي كان عضوا بنفس الحزب. ليبتعد بعد ذلك عن كل انتماء حزبي ليندرج ضمن دواليب السلطة

18-  كتب الوزاني بهذا الشأن ما يلي “ترمي القومية العربية المتحررة إلى تحرير جميع بلاد العروبة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ودوليا، فكذلك ترمي إلى توحيد الأمة العربية، فهي لا تعترف بالتجزئة، والانفصال، والانعزال”. كما أن مفهوم القومية العربية المتحررة لا يعني انغلاق الأمة العربية على نفسها؛ بل يعني انفتاحها على مجموع دول العالم، في علاقة تقوم على الصداقة والتعاون، وعدم الانحياز لصالح كتلة ضد كتلة منافسة في زمن التكتلات والحرب الباردة والصراع بين دول المعسكر الغربي ودول المعسكر الشرقي. وبالتالي، فقد شكلت هذه القومية في نظر الوزاني بوصلة سياسية للتعامل الخارجي والسياسة الخارجية، سواء في الانضمام إلى حلف بغداد؛ “فباسم هذه القومية العربية المتحررة، يقول الوزاني- حارب حزبنا حلف بغداد الذي مزق وحدة العرب، وعرقل سير الجامعة العربية وأوجد الخلاف والتطاحن بين الدول العربية، وربط بعضها بركاب الاستعمار والحرب، وقد حاربنا ذلك الحلف المشؤوم مع العرب ولصالح العرب، كما حاربناه وقتما كان المغرب وشيك الانضمام إليه”، أو في تبني سياسة عدم الانحياز “باسم القومية العربية عارضنا سياسة التبعية والانحياز إلى الكتلة الغربية الاستعمارية، وباسم القومية العربية أيضا ناضلنا في سبيل انضمام المغرب إلى جامعة الدول العربية غير عابئين بالتعلات والاعذار الرسمية الواهية”، أو مساندة حركات التحرر العربي المطالبة بالاستقلال واستكمال السيادة ” وأخيرا باسم القومية العربية طالبنا الحكومة المغربية بالتعجيل بالاعتراف بالجمهورية العربية المتحدة، وبحكومة الجزائر المجاهدة”.

19- محسن ندوي  عبد الهادي بوطالب والعمل الديبلوماسي مجلة شؤون استراتيجية  عدد 16 فبراير 2021.

20- عبد الهادي بوطالب – نصف قرن من السياسة – منشورات الزمن -2001- ص 219

21- ن م – ص 332

22-ن م 142

23- ن م ص 143-144

24-ن م –ص 259-260

25- عبد الهادي بوطالب وقضية الصحراء المغربية بيان اليوم 8 نوفمبر 2020.

26-نصف قرن من السياسة – م س – ص 151-152

27- ن م ص 156-157

28- ن م –ص 157

29- ن م ص 170-171

30-بهذا الصدد صرح الأستاذ عبد الهادي بما يلي : ” دعاني ، أي الملك الحسن الثاني ليقول لي أرجوك أن تخوض الانتخابات ، وإني أتلمس فيك إن شاء الله إذا نجحت أن تكون رئيس مجلس النواب المقبل “

   ن م –ص 221

31- ن م

Share
  • Link copied
المقال التالي