سبق لي أن نشرت على صفحات هذا الموقع مقالا عن علي ابن أبي طالب وتسامحه مع معارضيه ومخالفيه في الرأي والفكر. الامام علي من المؤمنين الأوائل في صدر الإسلام الذين فهموا جوهر الآيات التي تتحدث عن القضايا الكبرى للدين، مثل حرية الانسان في الاعتقاد، حرية الفكر، التسامح الديني، حرية المرأة، مفهوم الجهاد وعلاقته بالدعوة… وقضايا أخرى تهم مصير الانسان ووجوده في هذه الحياة.
من بين هذه الأيات التي تعالج هذه القضايا الكبرى آية:”لا إكراه في الدين” (س. البقرة) التي تعتبر بحق ضمانا وميثاقا اجتماعيا لحرية العقيدة وحرية الرأي والفكر. لكن هذا المبدأ لا يأتى ثماره في المجتمع إن لم نعمل على نشر ثقافة التسامح الديني وحرية الكلمة عبر مراكز ومنابر إعلامية ليعلم ويعي المسلم أن حرية التعبير وحرية الرأي.. والرأي الآخر ركيزة من الركائز الأساسية والعظيمة لدين الاسلام.
جاء الاسلام لصيانة كرامة الانسان وحمايته من الذين يمارسون عليه القهر والاكراه في الاعتقاد “وقاتلوهم حتى لا تكون قتنة” (س. البقرة). أي أن الاسلام يوفرالحماية للمخالفين في الرأي والعقيدة كي يقولوا ما يشاءون ويعبروا عما يشاءون بكل حرية ودون قيد ولا شرط، حتى ولو كان معارضا للاسلام والرسول محمد (ص).
هذا المفهوم الذي جاء به الاسلام أحدث انقلابا في تصور الفكر الانساني. لم يفهمه للأسف إلا فئة قليلة من المسلمين. وحتى الاتجاهات الاسلامية لم تستوعبه وتبشربه وتتخذه كدستور في تعاملها مع المخالفين في الرأي والفكر.
إني أرى هذه النقطة، على غاية الأهمية والخطورة، يجب على المشتغلين بالدعوة عامة ومؤسسات الجالية في الغرب خاصة أن ينتبهوا إليها ويعملوا جهدهم على خلق نقاش وحوار حولها بكل إصرار وعزيمة، ودون كلل أو ملل.
إن الله أقام هذا الكون على الاختلاف والتعددية، وهو قانون لا تبديل ولا تحويل له. وكذلك النفس البشرية لا تشذ عن هذا القانون الإلهي في اختلاف الأفكار والآراء. كيف يعقل أن يجرم الآخر أو يقتل بدعوى أنه مرتد أو كافر، كما نقرأ في بعض المؤلفات الاسلامية المعاصرة أن المرتد يجب قتله وتصفيته، مع أن الباطل يحق له أن يعيش بجانب الحق بنص آيات القرآن. هي جدلية بين الحق والباطل ستبقى تلاحق هذا الانسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ينتابني حزن عندما أذهب إلى المسجد وأسمع كلاما لا علاقة له بواقع الجالية في المجتمعات الغربية. حديث خطب الأئمة بلا طائل، كلام معاد ومكرر، لا فائدة من ورائه لإصلاح شأن الجالية الغارقة في النزاعات وتفاهات الأمور. مثل هذه الخطب لا تخلق لدى الشباب مناعة تقيه من الأفكار المنحرفة والإديولوجيات العنيفة.
فالقضية خطيرة، تهدد وجودنا وكياننا في المجتمعات الأوروبية التي نعيش بين أظهرها. وخطورة هذه القضية تكمن في أنها تعمل عملها في الخفاء وعلى غفلة منا، نتيجة التحولات في نفسية الانسان الغربي، لأن العامل النفسي يسبق العامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ويتحكم فيه. وإذا حصل هذا التحول واختارت الشعوب الغربية الأحزاب اليمينية المتطرفة، فساعتها ستدفع أجيالنا القادمة ثمنا غاليا. وهذا الكلام أقوله ليس من باب الاستهلاك الاعلامي، وإنما أشعر بأن الخطر يهددنا ونحن غارقين في النوم، نتصارع كالثيران حول الزعامات ومن يتولى قيادة المساجد والمؤسسات، بل وصل بنا الحد إلى التطاول على انتهاك حرمة المساجد وقدسيتها باستعمال العنف فيها. وهذا التصرف من أشد الافساد في الأرض، عطل مؤسسة المسجد من أن تؤدي وظيفتها الاجتماعية! ! !
لقد حان الوقت ليدرك شيوخ وزعماء الدعوة الاسلامية عامة والقائمين على مؤسسات مساجد الجالية وأئمتها أن الاسلام لا خوف عليه. وإذا كان الاسلام سوف يختفي بمجرد السماح للأفكار الأخرى بالتعبير، فلن يجدي دفاعنا الهزيل عنه. ثم إن هؤلاء الزعماء والشيوخ لم يستوعبوا حقا دروس التاريخ، من أن الاسلام ساد وانتشر بدون دوله السياسية، بينما الشيوعية انهارت وأزيلت من الوجود رغم ما كانت تملك من أسلحة وترسانة نووية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية.
ويجب أن ننبه في هذا السياق الذي تعرضنا فيها لحرية الاعتقاد والرأي إلى أننا نقيم بين أظهر الأوروبيين الذين عانوا في القرون الماضية الويلات والمتابعة تحت ظل محاكم التفتيش الرهيبة، كما حدث للمفكر الايطالي (جيوردانو برونو) الذي اعتقلته محكمة التفتيش بالبندقية عام 1592م بسبب آرائه وأفكاره، ثم تم إحراقه حيا عام 1600م لا لشيء إلا أنه خالف الكنيسة في تأويل بعض النصوص الدينية. فلا يمكن للهولندي والأوروبي عامة أن يسمح لهؤلاء الشباب العنفيين أن يعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء.
وفي هذا السياق أيضا، نشير إلى فكرة رائعة من التاريخ الاسلامي، وهي الصدام الذي حدث بين الامام علي وطائفة الخوارج. فعلي (كرم الله وجهه) لم يرفع السلاح بوجههم، أو قاتلهم بمجرد أن اختلفوا معه في الرأي وتأويل النصوص. كلا، لم يفعل، ولم يلجأ إلى قتالهم بالسيف، ذلك أن الامام علي قد فهم روح الآيات التي تتحدث عن الاختلاف في الرأي والاعتقاد. كان يرى أن الاختلاف رحمة وسنة للتدافع الاجتماعي، بحيث تخلق أفكارا جديدة حية، فينمو المجتمع ويتطور.
إن الامام علي فهم مذهب ابن آدم الأول حينما قتله أخوه بسبب الخلاف في الرأي:”واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال لأقتلنك، قال إنما يتقبل الله من المتقين” (س. المائدة)، فكان أسلوبه في التعامل مع مخالفيه في الرأي، الجدال بالتي هي أحسن والموعظة الحسنة، ولم يلجأ يوما إلى متابعتهم وقتالهم.
الخوارج كانت لهم كل الحرية ليقولوا ما يشاءون ويؤولوا النصوص كيفما يشاءون، والامام علي لم يمسهم بسوء وهو خليفة الرعية، إلا حين تجاوزوا حرية الكلمة إلى فرض الكلمة بقوة السلاح.
الامام علي خالفه الخوارج، ثم كفروه، فلم يلجأ إلى السلاح !!! وعندما تجاوزوا الحدود واستباحوا دم الرعية التي تخالفهم الرأي، جاهدهم وقاتلهم… إنهم مثيري الفتنة في الدولة “الفتنة أشد من القتل”.
ولنتأمل نقطة أخرى التي لا تقل فائدة وأهمية عن النقاط السالفة الذكر، وهي أن الامام علي، رغم كل معاناته مع الخوارج، بما فيه تآمرهم على قتله، لم يعتبرهم كفارا، بل قال: من الكفر فروا، ولم يعتبرهم منافقين، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، وأولئك يذكرون الله كثيرا، وهناك أحاديث كثيرة تذكر كثرة عبادتهم وزهدهم، إنهم طلاب حق أخطؤوا الطريق في الوصول إليه، أو كما قال الامام علي فيهم: ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه.
من هذا الحدث التاريخي نفهم أيضا أن الامام علي كان يرى أن الجهاد لا علاقة له بالصراع الفكري والعقائدي. فالجهاد وظيفته رفع الظلم على الناس ليقولوا ما يريدون ويكتبوا ما يشاءون، بكلمة أخرى: حماية حرية الرأي والفكر وإقامة العدل في المجتمع الذي قامت به السموات والأرض. الجهاد تحتكره الدولة ولا يحق للأفراد والجماعات ممارسته، تفاديا للفتنة كما حدث للخوارج مع الامام علي.
كتب المفكر خالص جلبي في كتابه (سيكولوجية العنف واستراتيجية الحل السلمي)”
“لقد انتبه ابن تيمية قديما إلى هذه النقطة، أي أن الجهاد هو ليس لنشر الاسلام، بل لدفع الظلم، إلا أنه انتبه إلى نصف الحقيقة، حينما فاتته حرية الفكر والدفاع عنه، وبمبدأ الجهاد نفسه، لذا: فإن ابن تيمية دفع حياته ثمنا لفتواه التي أفتى بها، فها هو قد ألقي به في السجن حين اختلفت الآراء، ليموت شريدا حزينا في سجن القلعة بسبب آرائه. ولو أفتى باحترام وحماية الرأي الآخر، مهما كان، لنعم بحريته في أيامه الأخيرة، ولله في خلقه شؤون”.
لقد حاولت في هذ المقال قدر جهدي توضيح هذه القضايا الكبرى التي يقوم عليه دين الاسلام ويرتكز عليها في الدعوة وتعامله مع الآخر. فعلى المشتغلين في مؤسسات ومراكزالدعوة أن ينتبهوا إليها ويتخذونها أسلوبا للدعوة.
الفهم يسبق العمل يا ساداتنا المشتغلين في حقل الدعوة! الحماس والاخلاص لفكرة ما، لا يعني صحتها البتة. فالخوارج الذين اندفعوا بكل حماس لتأييد أفكارهم والموت في سبيلها، لم يعتبره جمهور الفقهاء جهادا في سبيل الله، بل وصفوه بالخروج عن الحاكم. وهذا الجانب التربوي – النفسي في غاية الأهمية، انتبه إليه المفكر الاجتماعي الايراني (علي شريعتي) من أن التدين يجب أن يرافقه وعي، وإلا أصبح هوسا وتعصبا مرعبا.
تعليقات الزوار ( 0 )