بلغت الأزمة الأوكرانية ذروتها بعد المؤتمر الصحفي لمستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان الجمعة الفائتة، تحدث فيه عن غزو روسي لأوكرانيا يسبق اختتام فعاليات الدورة الأولمبية الشتوية في الصين.
وتزامنت تصريحات سوليفان مع لقاءات واتصالات شملت رؤساء الأركان في الجيشين الأمريكي والروسي، و وزراء الدفاع في كل من بريطانيا وأمريكا وروسيا خلال أقل من 48 ساعة.
فقاعة الأزمة الأوكرانية تضخمت بشكل غير مسبوق خلال ساعات، مهددة بامتداد أثرها للمنطقة العربية وغرب آسيا ووسطها، فهل ستبقى أزمة أوروبية بدون تداعيات دولية وإقليمية، أم أنها ستجد طريقها الى المنطقة العربية؟.
غرب آسيا ووسطها
الإجابة على هذا السؤال جاءت بسرعة، فتركيا ترى في الصراع والحرب في أوكرانيا تهديدًا مباشرًا لأمن البحر الأسود والبسفور، بل ولإمدادات الغاز الروسي نفسها عبر أنبوب غاز “ترك ستريم”؛ فأنقرة تربطها تفاهمات واتفاقات سياسية وأمنية بروسيا في سوريا، فضلا عن النشاط الاقتصادي الذي يتراوح بين 20 و25 مليار دولار سنويا، أغلبها واردات تركية من روسيا، يتربع الغاز الروسي على قمتها.
لذلك، تسعى تركيا بقوة إلى نزع فتيل الأزمة عبر الوساطات والمبادرات، في محاولة جادة لتحويل التحدي إلى فرصة سياسية وجيوسياسية، تعزز من مكانتها في حلف “الناتو” وفي الاتحاد الأوراسي الروسي، الذي يمتد إلى وسط آسيا والجمهوريات المستقلة.
في المقابل، فإن طهران ترى في الأزمة فرصة يمكن استثمارها لتحقيق بعض المكاسب في مفاوضات فيينا النووية وفي أسواق النفط والغاز أيضا؛ والأهم من ذلك أنها تبعد شبح الحرب والمواجهة، في ظل الانشغال الغربي والأمريكي، والقلق من مستنقعات جديدة على شاكلة افغانستان والعراق في الخليج والعراق وسوريا واليمن.
المنطقة العربية
لن يقتصر تأثير الأزمة على تركيا وإيران، إذ ستترك آثارًا مهمة على الأزمة السورية والساحة العراقية واليمنية والفلسطينية والليبة والسودانية، فالمنطقة العربية فضلا عن كونها تزخر بالإمكانات والموارد، فإنها تضج بالأزمات، إذًا هي منطقة ملتهبة وشديدة الحساسية للأزمات الدولية، ولحالة الاستقطاب المتوقعة نتيجة تصاعد التوتر بين روسيا والصين من جهة، وأمريكا ودول الناتو من جهة أخرى.
الأزمة السورية
الأزمة الأوكرانية كان لها آثارًا مهمة على الأزمة السورية من لحظتها الأولى، فمنذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في مارس 2014، نشأ رابط خفي بين الأزمتين، أوحى بإمكانية الوصول إلى تسوية عبر تنازلات متبادلة بين روسيا وأمريكا في الملفين الاوكراني والسوري، الأمر الذي لم يتحقق على أرض الواقع، رغم التدخل الروسي المباشر في سوريا في شتنبر 2015.
ورغم محدودية الأثر للأزمة الأوكرانية على المنطقة العربية، إلا أن التدخل الروسي في سوريا، وفر لموسكو منصة مكنتها من الإشراف على أبرز أزمات المنطقة في العراق ولبنان وفلسطين المحتلة والخليج، وضعتها في تماس مباشر مع واشنطن وحلفائها في المنطقة وخصوصا “إسرائيل”.
الاحتلال الإسرائيلي
حساسية المنطقة لتداعيات الاشتباك الروسي الأمريكي في أوكرانيا تبدو عالية، فـ”إسرائيل” تُعتبر الطرف الأكثر تأثرا بهذا التحول والمنعطف، فالصدام المسلح والغزو العسكري لأوكرانيا سيتبعه عقوبات أوروبية وأمريكية على روسيا، معقدا بذلك ملف العلاقات الروسية الإسرائيلية، في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين المحتلة.
فـ”إسرائيل” التي تمكنت من صياغة معادلة دقيقة مع القوات الروسية تسمح لها بشن غارات على المصالح الإيرانية في سوريا والحدود العراقية، ستواجهه صعوبات جمه في حال لحقت بالركب الأمريكي الأوروبي في أوكرانيا .
“إسرائيل” ستعاني من حرج شديد، يفرض عليها اللحاق بركب المعسكر الغربي، ويعقد محاولتها للحصول على استثناءات، فالولايات المتحدة خاضت معركة شاقة مع ألمانيا وفرنسا، لإقناعها بقبول قائمة العقوبات المعدة على موسكو في حال غزوها أوكرانيا، فهل يعقل أن تستثنى “إسرائيل” من هذه العقوبات، أو أن تنجو بنفسها بعيدا، بما يتيح لها متابعة التنسيق مع القوات الروسية في سوريا، في ظل جهود فاشلة بذلتها برلين وباريس والاتحاد الأوروبي للحصول على استثناءات من العقوبات الأمريكية، من ضمنها وقف إمدادات الغاز القادمة من روسيا عبر أنبوب غاز (نورد استريم)؛ المار عبر بحر البلطيق نحو ألمانيا، حاملا معه 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنويا.
هل ستنجح “إسرائيل” في مراوغة روسيا التي وجهت عبر خارجيتها مؤخرا دعوة مباشرة لجيش الاحتلال لوقف هجماتها الجوية على سوريا؛ بل وعمدت موسكو إلى تشغيل رادرات متطورة مرتبطة بمنظومة “إس 400” عطلت من خلالها أجهزة الملاحة في مطار اللد “بن غوريون”، وامتد أثرها اليوم الأحد (13 شباط/فبراير) نحو مطار الملكة علياء في عمّان.
حالة الاستقطاب ستضع “إسرائيل” في مأزق كبير؛ كما ستضع شركاء واشنطن العرب في ذات المأزق؛ إذ ستضيق المواجهة في أوكرانيا من هامش المناورة الإسرائيلية في سوريا ولبنان.
الأزمة الأوكرانية ستضاعف الصعوبات المتعلقة باحتواء إيران، سواء بالوسائل الدبلوماسية أو الاقتصادية أو العسكرية، فأمريكا والقوى الغربية لن تكون معنية بتفجير صراع مع طهران يستنزف قواها ويفتح الباب لموسكو وبكين للعب دور مهم وفاعل في الصراع مع إيران، ليتوسع ويشمل الخليج العربي وشمال المحيط الهندي، انتهاء بشرق المتوسط.
“إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية
القيود التي ستفرضها الأزمة الأوكرانية على “إسرائيل” لن تقتصر على فاعلية السياسة الإسرائيلية في التعامل مع إيران ومنطقة الخليج وسوريا، حيث تتواجد القوات الروسية، إذ من الممكن أن تمتد إلى الساحة الداخلية الفلسطينية، التي ستتوافر لقواه الحية ولمقاومته القدرة على المناورة، وممارسة المزيد من الضغط على “إسرائيل” ومشاغلتها عسكريا وسياسيا.
تصعيد من الممكن أن يدفع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين إلى الضغط على “إسرائيل” للتهدئة وخفض التصعيد، عبر التراجع عن إجراءاتها القمعية في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، فالمواجهة توفر فرصا كبيرة للمقاومة الفلسطينية، للمناورة وتحقيق إنجازات يصعب تحقيقها في الظروف الطبيعية للصراع.
ختاما
“إسرائيل” الطرف الأكثر حرجا في المنطقة من التصعيد العسكري بين روسيا وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، حرج سيدفع “إسرائيل” للمناورة سياسيا وأمنيا، بحثا عن استثناءات أمريكية للتعامل مع روسيا؛ مناورات من الممكن أن تخلق مفارقات أمنية خطرة، كالتصعيد في الأراضي الفلسطينية، أو تسريع التقارب مع أنقرة لتحقيق الغاية ذاتها، الممثلة بالحصول على الاستثناءات من العقوبات على روسيا.
*باحث ومحلل سياسي
تعليقات الزوار ( 0 )