في استراتيجية بدأت أولى عملياتها سنة 2016، وهو تاريخ الإعلان الفعلي للإنشاء خط أنبوب الغاز العبر-القاري ما بين دولة نيجيريا و المغرب، مرورا بدول افريقية، تقوم الجزائر بتنفيذ جزء من خطة ذات أبعاد استراتيجية شملت مجموعة من التدابير الأحادية الجانب تجلت بدايتها في قطع العلاقات الدبلوماسية مع الرباط .بعد ذلك، جاءت الخطوة الثانية والتي جسدها قطع للأنبوب الغاز الذي يمر من المغرب في اتجاه اسبانيا و البرتغال ( ما بين 8 و 10 ملايير متر مكعب سنويا من الغاز). هذا القرار في طياته ، يظهر أن الجزائر تحاول إضعاف محددات تزايد القوة الاستراتيجية الثابتة و المتغيرة للمملكة المغربية، و تفضل الهروب الى الأمام في ضرب صارخ لطموحات الشعوب المغاربية التي تحلم بالتكامل الاقتصادي و التضامن الاجتماعي. في دراسة الخطوة الجزائرية، يتبين أن التأثير الاستراتيجي للقرار على الأمن الطاقي للضباط يبقى جد محدود، على اعتبار ان المنظومة الطاقية المغربية لن تتأثر بكذا قرار نظرا أن الغاز لا يشكل الا نسبة 5% في إنتاج الطاقة الكهربائية من مجموع المصادر الأخرى.
ومن ثمة، فالجزائر تثبت، عبر هذا السلوك اللامسؤول، انها ليست شريكا موثوقا به ليس فقط على المستوى المغاربي و لكن على المستوى الدولي و ذلك راجع للعدة اسباب.
في قراءة للأبعاد الخطوة الجزائرية و خلفياتها ، يتبين أن السياسة الخارجية للقصر المرادية أصبحت عامل عدم استقرار في المنطقة المغاربية و المحيط الإقليمي برمته. على المستوى الاوروبي، سيكون هذا القرار بداية للتغلغل الروسي على المستوى الطاقي في دول أوروبا و التي تبلغ وارداتها من الغاز الروسي حوالي 43% من كمية الغاز المستهلك ، دون نسيان تأثير دلك على تغيير في موازين القوى للدول أوروبا الوسطى. من بين النتائج و الاولى، سيتقوى موقف المانيا في توجهاتها الداعمة للتوسيع و إقامة خط الانبوب الغاز North Stream 2 الذي يعبر دول البالتيكBaltic .
في نفس السياق، يعتبر هذا القرار الجزائري ذا حمولة جيواستراتيجية للعدة اعتبارات. فالولايات المتحدة الأمريكية و في علاقاتها مع برلين لا ترى بعين الرضى التقارب الروسي الألماني و تٌبقي موقفا معارضا للأنبوب الروسي الذي تعتبره واشنطن عاملا قد يقوض الاستقلالية السياسية للدول أوروبا ؛ و من تم ، يمكن فهم محددات الاختلاف في بعض السياسات بين أوروبا و السياسة العبر اطلسية للواشنطن.
في هذا الصدد، هذا القرار الجزائري له تبعيات أخرى ظاهرة و مبطنة و تدخل محدداته في لعبة كبيرة ذات أبعاد دولية، ربما تتجاوز الفهم الاستراتيجي الضيق للقصر المرادية، تكلفت الجزائر بتنفيذ جزء من المؤامرة.
التقرير الالماني الشهير، و الذي لم تتسرب منه إلا بعض الخطوط العريضة لخطة ما تسميه برلين “صياغة توازن جديد في شمال افريقيا” ، و للإشارة دعا الدول الاوروبية الى “معالجة ” ما تسميه الدوائر الرسمية الالمانية “الاختلال” في التطور البيني للدول المنطقة خاصة بين المغرب و الجزائر، قد يكون في مراحله الاولى في التنزيل. و بالتالي، فإنه من غير المستبعد أن تواجه الرباط حملات و مناورات جديدة في الأيام المقبلة تستهدف امنها و استقرارها و امنها القومي.
من الواضح جدا أن التقارب الألماني- الجزائري الاخير له أسباب و دوافع مازالت ملامحها قيد التشكل. لكن يبقى من بين أولويات الجزائر هو ترتيب استراتيجية توثر جديدة سيكون الهدف منها خلق مقاربات سياسية مغايرة تحد من تطور سياسات التحالفات الدولية مع الرباط ، خاصة بعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية بثقلها الى المنطقة من خلال حسم اختياراتها الاستراتيجية باعترافها بمغربية الصحراء و خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى جانب إفتتاح قنصليات عامة للدول عديدة في الأقاليم الجنوبية المغربية.
الطاقة هي عصب هندسة المحاور الاستراتيجية، و أهمية الأمن الطاقي و ما له من تأثير على الأمن السياسي و سيادة القرارات الوطنية ليس سرا على أحد.و من تم، فإن الخطوة الجزائرية ليست الا بداية مناورة ستضرب سيادة القرار الاوروبي و مواقفه في عدة ملفات عابرة للقارات. في الجانب الآخر، قطع الإمدادات الأوروبية من الغاز التي تمر عبر المغرب سيقوي أسهم الشركات الروسية – التركية و التي ستعرف خطوطها الطاقية، خصوصا Trans-Anatolian Gas Pipline TANAP ، انتعاشا جديدا سيقوي من محددات القوة التفاوضية لروسيا و تركيا اما دول الاتحاد الأوروبي وحتى الولايات المتحدة الأمريكية.
في تقييم للتكلفة الطاقية الاوروبية و ما يوازيها من ارتفاع أسهم الطاقة، فان القرار سيكون له تبعيات على السوق الطاقية الأوروبية . في هذا الصدد، امام الاحتياجات الطاقية الأوروبية المتزايدة، فإن آثار القرار الجزائري تبقى غير محايدة. فاذا ما استحضرنا استراتيجية السياسة الطاقية الاوروبية و التي اعتبرت ممر الغاز الجنوبي (Southern Gas Corridor) والذي يبقى مبادرة من المفوضية الأوروبية لطريق إمداد الغاز الطبيعي من بحر قزوين ومناطق الشرق الأوسط إلى أوروبا فإن من المحتمل جدا أن نستشف بعض السيناريوهات المحتملة و التي قد تخلخل خطة البرلمان الاوروبي الذي يريد توازن بين حاجيات دوله الطاقية و إقامة علاقات توافقية لا تمس مصالحهم السيادية. ربط الماضي بالحاضر مهم في استشراف بعض المحطات المستقبلية في الصراع الدولي حول الطاقة. فالممر الغازي الجنوبي يشمل الطريق من أذربيجان إلى أوروبا عبر خط أنابيب جنوب القوقاز و TANAP وخط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي .TAP
هذا الجزء الاخير من الممر يبقى مركزيا للممر الغاز الجنوبي ، الذي يربط حقل غاز شاه دنيز العملاق في أذربيجان بأوروبا عبر خط أنابيب جنوب القوقاز و TAP. للإشارة فإن هذا الخط يعتبر ذا أهمية استراتيجية لأنه يتيح تصدير الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا و بالتالي يؤمن حاجيات مهمة من الاستهلاك الاوروبي للطاقة. و بالتالي، يمكن الرجوع إلى الوراء و فهم الصراع الاستراتيجي الأذربيجاني -الارميني و طبيعة التحالفات و الدعم العسكري الذي حسم المواجهة العسكرية.
و من تم، فإن الرسالة الجزائرية عبر قطع انبوب الغاز، هي موجهة اولا صوب أوروبا و التي أصبحت تجمعها بالرباط مصالح مشتركة و تطابق للاستراتيجيات فيما يخص مجموعة من الملفات في غرب و جنوب المتوسط و داخل القارة الأفريقية .من جانب اخر، و على ضوء شبكة تقاطع المصالح الاستراتيجية الدولية، فالموقف الجزائري يخدم أجندة روسيا و تركيا، على اعتبار أن منظومة الخطوط الطاقية لأنقرا تعرف استثمارات روسية ضخمة ، كما أن موسكو اعتادت على تقييد إمدادات الغاز لممارسة ضغوط سياسية على المستوردين و هو ما كان جليا في ملف جزيرة القرم، سوريا، و بريطانيا.
في الاخير، سينقلب السحر على الساحر و ستخسر الجزائر الكثير من العائدات المالية و التأثير الاستراتيجي في المنطقة. هناك احتمالات كبيرة بأن اسبانيا و البرتغال في طريقهما للبحث عن بدائل مستقبلية مستدامة على المدى المتوسط و البعيد. هناك يقين تام داخل الدوائر الاوروبية أن حالة اللايقين التي تسود في الجزائر و التي تترجمها قرارات انفعالية قد تضع هذه الدول الاوروبية، ذات يوم، أمام موقف صعب قد تكون له تكلفة سياسية و أمنية كبيرة. هذا المعطى، اصبح حاضرا في سيناريوهات واضعي استراتيجيات هذه الدول الذين أصبحوا يسابقون الزمن حتى لا يكونوا يوما ما رهينة أمام نظام جزائري قد يهدد الأمن الطاقي، و من تم الأمن السياسي لهذه البلدان.
في هذا السياق، استراتيجية الجزائر المكشوفة تبقى حساباتها مرتبة على المدى القريب و يبقى الهدف الأخير ضمان استمرارية نظام سياسي-عسكري يعيش مراحلا صعبة، فيما يبقى تشكيل نظام دولي و اقليمي جديد احد دوافع بعض الدول التي تناور من داخل غرف مغلقة.
في الاخير، الخطوة الجزائرية تروم ، من بين أهدافها، إلى التأثير بشكل كبير على دول عديدة من أجل تغيير موازين القوى إلى جانب معادلات استراتيجية مهمة أصبحت تضع المغرب كدولة محورية في الهندسة العامة الإقليمية. و بالتالي، فإن كل هذه المناورات الجزائرية هي ذات أبعاد تصبو التأثير على جيوسياسية المملكة المغربية و محددات قوتها الخارجية و قد لا نتفاجأ بقرارات أخرى اكثر عدائية تمس الأمن القومي الوطني . لكن، وان لن يتضرر المغرب من هذه الخطوة، فإن من الواضح أن جيوسياسية الطاقة في منطقة غرب المتوسط و شمال افريقيا ستعرف تغييرات مهمة. من بين محددات هذا التغيير يمكن توقع دخول أطراف أخرى كانت تتصيد هذه الفرصة للانقضاض على سوق مهمة و واعدة.
على المستوى الوطني، رب ضارة نافعة، و البحث عن استراتيجيات طاقية شاملة و مستدامة هو السبيل الوحيد للتحقيق الاكتفاء الذاتي و تنويع الإنتاج الطاقي عبر استثمارات جديدة و توريد عبر سلاسل طاقية موثوقة من أجل رفع تحدي التنمية الشاملة. أمام التحولات الهيكلية التي تعرفها المنطقة و ما يوازيه من عالم جديد يتشكل بعد جائحة كورونا ، فإن الشعوب المغاربية تحتاج إلى التضامن و التعاون من أجل رفع التحديات المشتركة والانخراط في سياسات تخدم المصير المشترك. أمام الوضع في الساحل الافريقي و جنوب الصحراء و حالة الترقب التي تعيشها ليبيا فمن المهم قراءة التاريخ الذي يعلمنا بأن الحروب تبدأ عندما تعتقد الحكومات أن ثمن العداء رخيص. ربما هو الأمر في البداية و لكن في الاخير، كما يقول شكسبير، كل من يجري وراء طموحه الجارف فهو يجري وراء اندثاره.
*أستاذ جامعي مختص في الجيبولتيك
تعليقات الزوار ( 0 )