في خضم ما يقع الآن من احتقان في صفوف الشغيلة التعليمية واحتجاجاتها التي تدفع في اتجاه شل السير العادي للموسم الدراسي الحالي كتعبير عن رفض النظام الأساسي الذي اعتبره أهم عنصر في القطاع (الأستاذ) نظام مآسٍ، وقياسا على ردود أفعال الطبقة السياسية التي تظهر في مجملها على أنها سلبية وشاردة، ارتأيت أن أقف قليلاً عند منطق الدولة بخصوص هذا الملف مع استحضار لغة المصلحة العامة التي يفترض أن تُمثل المرجعية الأولى للدولة ككيان معني بصيانة المجتمع، وهي محاولة للفهم لعلنا نحصل من خلالها على تفسير للموقف الذي تقفه الطبقة السياسية من هذا الموضوع حاليا.
اختصارًا للطريق، جوهر المشكل يقف عند مسألة استثمار الدولة في التعليم العمومي، أي ما تخصصه الدولة من نفقات ومقاعد مالية لصالح القطاع، أما باقي الاعتبارات فهي مجرد تفاصيل في هذا الصدد. بناءًا على ذلك، سنعمل على تحليل المسألة من منظور نفعي خالص لا تشوبه أية لغة رومانسية، كأنما نعمل على صياغة ورقة مشروع لفائدة رجل أعمال قصد الحصول على تمويل، أي أننا بصدد تسليط الضوء على نجاعة المشروع وحيز المُستثمر (المُمَوِّل) من الربح. الفرق هنا أننا بصدد الحديث عن مشروع مجتمعي يهم اُمَّة، بمقابل رجل أعمال مُمَول ذو شخصية معنوية يتمثل في مؤسسات الدولة.
– السؤال الرئيسي والمباشر الذي يمكن طرحه في هذا الصدد هو:لماذا يلزم على الدولة الاستثمار في التعليم العمومي؟
بحسب دراسة أنجزتها الدكتورة دانا ميترا من جامعة بنسلفانيا تحت عنوان “الفائدة المجتمعية والاقتصادية من التعليم العمومي” _ والتي سنعمل على تعميم معطياتها رغم تعلقها بالمجتمع الأمريكي بالنظر إلى دلالة أرقامها وإحصائيتها بالنسبة لجميع المجتمعات _ فإن أهم ما يجعل القطاع حري بالاستثمار هو ما يلي:
– المنقطعون عن الدراسة خلال مرحلة التعليم الثانوي أكثر عرضة بما يزيد عن الضِّعف للبطالة، وهم مرشحون بأكثر من ثلاث مرات للاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي الذي توفره الحكومات، والتي تكلفها ملايير الدولارات سنويا.
(مع استحضار أن 5 مليار و100 مليون دولار هي التكلفة السنوية لبرنامج الحماية الاجتماعية المزمع برمجتها في المغرب ابتداءا من سنة 2024).
– من أصل 18% من البالغين ضمن المجتمع الأمريكي، ما يزيد عن 40% من نزلاء السجون لم يكملوا دراستهم الثانوية، وهو رقم يمكن تعميمه أيضا بالقياس إلى أن قابلية ارتكاب الجريمة مرتبط بنقص الانضباط والسلوك Discipline الذي يُكتسب عن طريق التمدرس ضمن جميع المجتمعات. (أصل النظام المدرسي يعود إلى التربية العسكرية التي تستهدف جوانب الانضباط والتربية على المواطنة).مع الإشارة إلى أنه بحسب إحصائيات وزارات العدل والتعليم والمالية المغربية فإن معدل الكلفة اليومية للسجين 7 دولارات، بينما لا تتعدى الكلفة اليومية للتلميذ 1.8 دولار. وبمنطق ربط التمدرس بانخفاض معدل الجريمة وفق النسبة التقريبية المذكورة، فيمكن لزيادة الاستثمار في التمدرس بكلفة 26 مليون دولار سنويا أن تساهم في توفير حوالي 75 مليون دولار للخزينة العامة من خلال توفير نفقات السجون. أي بمنطق الربح والخسارة فإن الاستثمار في التعليم يزيد في الادخار والتوفير في ميزانية الدولة.
– تنخفض معدلات الوفيات لكل سنة إضافية في التمدرس بنسبة 7.2% للرجال و6% للنساء في المجتمع الأمريكي؛ وتصبح فرص التمتع بالصحة المثلى أعلى بما يصل إلى 8 مرات بالنسبة للمواطنين الذين حصلوا على ثمانية عشر عامًا من التعليم مقابل من تحصلوا فقط على سبع سنوات من الدراسة. لا بد من التذكير هنا بأن هذه المعطيات تخص المجتمع الأمريكي بخاصة، لكن يمكن تفعيل نهج التعميم من خلال استنباط معامل التناسب، فالمتمدرس يكون أكثر وعيا بأساسيات السلوكات الصحية ويكون نشاطه في إجماله أقل تعرضا للمخاطر الصحية من نظيره غير المتمدرس، الأمر الذي يساهم في تخفيض حاجته للتطبيب وكذا يقلص من حاجته للاستفادة من برامج الصحة العمومية المدعمة من ميزانية الدولة بمعدل 60%، الأمر الذي يساهم طبعا في توفير هذه النفقات في ميزانية الدولة.
– بحسب نفس الدراسة، سنة واحدة من التعليم المتوسط تؤدي إلى زيادة بحوالي 13% من إمكانية المشاركة السياسية لدى المواطنين. فمعلوم أن التسلق في سلم التمدرس يزيد من إمكانية انخراط الفرد في العمل السياسي وتدبير الشأن العام على المستويات المحلية والوطنية بما يوفره من تكوين أساسي. وهو أمر يفتل في حبل السلم الاجتماعي وتوفير نفقات الأمن القومي.
في النهاية، المعطيات التي سبق الإشارة إليها هي مجرد ومضات وإشارات مختزلة من الكثير من الفوائد الاقتصادية للاستثمار في قطاع التعليم من منظور اقتصادي، والتي تهم جانب التوفير في ميزانية الدولة بما يعود على النفع العام، وإلا فالهدف الأساسي من التعليم هو تمرير حُزمة من المهارات والمعارف الأساسية إلى كل طفل وجيل ناشئ بما يؤهله للانخراط في المجتمع بشكل فعال ومُنتح خلال باقي مساره في الحياة. والمدرسة هي المجال الوحيد لإكساب هذه المهارات المدعومة بالاحتياجات العملية Practical needs التي تؤسس للحياة الاقتصادية، والحس المشترك السليم Common Sens الذي يؤسس للحياة الاجتماعية. وقد أجمعت جل نتائج الأبحاث والدراسات في مجال التربية على أن تعميم التعليم يؤهل المجتمعات للحصول على معدلات ذكاء أعلى وعلى يد عاملة مؤهلة أوفر، مما يزيد من قابلية الاستثمار الداخلي واستقطاب الاستثمار الخارجي. لتنضاف بذلك إلى إمكانية التوفير والاقتصاد الموضحة أعلاه زيادة معدل الاستثمار وتحقيق نمو أعلى في الناتج المحلي الخام.
هي أمور واضحة كانت تستلزم فقط شيئا من الإشارة والتذكير … ليظل السؤال قائمًا حول منظور الطبقة السياسية الحاكمة بالمغرب في التعاطي مع هذا الورش، والتي تُجانب حتمًا اعتبار المصلحة العامة ومنطق المنفعة الاقتصادية في ظل ما يجري الآن ضمن الساحة التعليمية من تهميش لأطرها واستضعاف لجودتها.
المراجع:
Pennsylvania’s Best Investment: The Social and Economic Benefits of Public Education. David Baker, Ph.D. Professor of Education Pennsylvania State University Baruch Kintisch. J.D. Staff Attorney Education Law Center.
https: //www.elc-pa.org/wp-content/uploads/2011/06/BestInvestment_Full_Report_6.27.11.pdf
https: //web.facebook.com/maghrebvoices/posts/2226902614223496/?_rdc=1&_rdr
تعليقات الزوار ( 0 )