كانت الرحلة غير مثمرة لحزب العدالة والتنمية من الربيع إلى الخريف.. زرع ما زرع وحصد ما حصد، غير أن أهم حصاد حققه هو حصاد الغرور كما عنون الشيخ محمد الغزالي أحد أهم كتبه.
ثلاث مكونات للأزمة التي يعيشها التنظيم الإسلامي، شكلت لديه عقدة في مسار بناء القدرة على إنتاج الذات السياسية داخل الدولة والمجتمع المغربيين.
المكون الأول مرتبط بالولادة المأزومة، وبالقدرة على فهم سيرورة النشأة وتاريخ وجود الفكرة الإسلاموية في المجتمع العربي.
المكون الثاني يتعلق بأزمة الخطاب المفضي إلى الاعتراف من قبل جوهر السلطة، و إلى الاندماج في جسم الدولة، وفي حياة المؤسسات، وهو خطاب أزمة أصبح دائما مع أنه مفترض فيه مؤقتا، وهو ليس خطاب بناء سياسيات وقطاعات، بل خطاب مطلب الاعتراف والمشاركة.
هو خطاب ركز كثيرا على مخاطبة قطب السلطة صاحبة الولاية العامة على البلاد، خطاب تأرجح مابين المطالب بالدمقرطة والتخليق ومابين التبرير والشرعنة للدولة. غير أن خطاب الدمقرطة لم يكن كافيا لوحده أمام حجم الأزمة الاجتماعية والانتظارات الجماعية الشعبية في العيش الكريم وفي ايجاد مخارج حياتية مستعجلة وضرورية. فالمواطن المغبون مستعد للتنازل عن عدد من المطالب الحقوقية السياسية والديمقراطية من أجل حل مشاكله الآنية، وبذلك أخفق البيجيدي في ايجاد هذا التوفيق بين رغباته في البقاء في السلطة ومابين مطالب الشارع.
المكون الثالث والأخير يتمحور حول قدرة التنظيم نفسيا وفكريا على فهم عناصر السياق المغربي الحالي كنسق اجتماعي وعلى فهم محاور اشتغال عقل الدولة، وتطور ذهنية المجتمع وبنياته المختلفة.
وبذلك قدم الحزب العدالة نفسه كفاعل سياسي جديد لكن بمرجعية قديمة تاريخية. وقد ظهر ذلك من خلال مسار نشأة متدرج وتطور متأقلم.
المكون الأول لأزمة حزب العدالة والتنمية: ولادة مأزومة وعدم قدرة على فهم مآل النشأة وفكرة الوجود
سأحاول بإيجاز، وفي عناوين مركزة، تلخيص مسار حزب العدالة والتنمية والعناصر التي شكلت شخصيته المعنوية والاجتماعية، التي اشتغل من خلالها في الفضاء العام وفي صناعة قدرات العمل السياسي والمؤسساتي. وسأحاول معالجة الموضوع من زوايا عدة لكن بإيجاز، نظرا لكون فكرة المقال تحتاج إلى دراسة علمية موضوعية متعددة المناهج والمراجع، والمرتكزات العلمية النظرية المفسرة لعدد من الوقائع والأفكار.
بداية، شكل المتغير الديني الإسلامي أحد أهم روافد البنية النخبوية والتواصلية الخطابية. وهناك فرضية اشتغال الحزب بهذا المتغير تارة كقناعة فكرية راسخة لدى الجيل المؤسس، وتارة كأداة للتوظيف السياسوي أمام الجمهور والخصوم.
خلاصات مسيرة النشأة
وبالعودة إلى سياق النشأة و الإعتراف القانوني به كفاعل في الحياة الاجتماعية والسياسة فإنه يمكن إجمالا رصد ثلاث محطات مفصلية في تشكله عبر الزمن وهي:
أولا: تهييئه داخليا وخارجيا للإنتقال من الفكر الدعوي إلى الفعل السياسي.
ثانيا: فرضت الضرورة انتقاله من العمل السري إلى العمل الشرعي القانوني.
ثالثا: الإنتقال من ممارسة الفقه الوعظي في المساجد والاماكن المغلقة لفائدة المستقطبين إلى الفقه الحركي الإجتماعي لفائدة الجماعة المتدينة ولفائدة الجمهور.
هذا الوضع فرض على التنظيم التفكير في تطوير البنية الحزبية قصد التعامل مع إشكالية الإندماج السياسي المؤرقة لنخب التأسيس. هذه النخب ارتفعت أمامها ثلاث تحديات وإشكالات نوجزها فيما يلي:
أولا- إشكالية تدبير العبور من تنظيم الجماعة الدعوية إلى تنظيم الحزب وهل ينبغي تقديم ضمانات شخصية أم مؤسساتية لفائدة الدولة؟
ثانيا- إشكالية التوفيق بين مفهوم الأمة الإسلامية، أحد أهم العناصر المشكلة لشخصية الحركي الإسلامي، وبين مفهوم الدولة القطرية الترابية؛
ثالثا- إشكالية الإندماج في النظام السياسي والتعرف على طقوسه وأعرافه ورموزه ولغته، وتحدي المشاركة السياسية وتدبير العلاقة مع باقي الفاعلين؛
رابعا وأخيرا، تفكيك إشكالية الإنتقال من الضعف السياسي البنيوي بفعل غياب الممارسة والانتقال إلى ممارسة لغة السلطة السياسية مما اقصى في أخر المطاف إلى اختيار احتراف خطاب المظلومية والمعارضة على خطاب البناء والسياسات العمومية.
الارتباط بأنساق فكرية وتنظيمية أجنبية
في نفس المكون الأول لأزمة تنظيم العدالة والتنمية، أزمة الولادة والنشأة، ولتلخيص رؤية الحزب لذاته، فإن العنوان الأبرز لذلك هو أنه ظل منذ النشأة تصورا تنظيميا بهوية ملتبسة، متسترة على مراجعها الحقيقية في الاشتغال السياسي وعلى أهدافها الطويلة الأمد.
غير أن الباحث المتمحص لحقيقة الفكرة المرجعية للتنظيم، ولتكوين نخبه وقياداته، سيقف عند فرضية وجود ارتباط الحزب والجماعة المسندة له بأنساق حركية إسلامية أجنبية أي خارجية عن المغرب.
وعن هذه الأنساق الأجنبية يمكن اختصارها في العناصر الثلاث:
أولا– الارتباط الوجودي والأخلاقي والتشبهي تنظيميا بفكرة جماعة الإخوان المسلمين؛
ثانيا– الارتباط الفكري بمرجعيات الحركات السلفية؛
ثالثاـ وأخيرا الارتباط الفقهي الشرعي بالفقه الوهابي وليس بالفقه المالكي المغربي ولذلك مؤشرات عديدة سواء من خلال التكوين العلمي لنخبه، أو من خلال قواميس لغتهم أو من خلال طريقة تدينهم وممارسة الشعائر التعبدية والفتاوى.
التمايز العسير عن جماعة التوحيد والاصلاح
نظرية العبور من العمل الجماعي الإسلامي إلى فضاء الإعتراف القانوني للاشتغال في الحقل السياسي والمؤسساتي الرسمي، عقد عملية الولادة السياسية وخلق متاعب من أجل التمايز العسير عن حركة الإصلاح و التوحيد، الذي نفترض أن التنظيم هو ذراعها الدعوي السياسي وليس العكس، أي ليست هي ذراعا دعويا للحزب.
وقد ظهرت هذا العسر في التمايز ومحاولة رسم الحدود بينهما من خلال نقاط التشابك التالية:
أولا– الدور المحوري للجماعة في التنخيب السياسي لتهيئ وإسناد النخبة السياسية للحزب؛
ثانيا – من خلال المراقبة المعنوية والأخلاقية للجماعة على الحزب والذي فقدته الجماعة تدريجيا مما سبب بداية نفور سياسي وخروج عن قواعد اتفاق أولي، الإسناد السياسي للجماعة رهين بتمثل قيم المرجعية الإسلامية؛
ثالثا وأخيرا، من خلال التأطير النظري و الجماهيري الذي تمارسه الجماعة اختصاصا أصليا وتفويضا من الحزب لفائدة مختلف بنياته.
تدبير تصور تدبير الدولة للدين ومدى العدالة والتنمية لخطوط التماس
تتميز نظرة الدولة والمخزن للتدين بكونها ليست وليدة تيارات إسلامية حديثة، بل هي نتاج طويل الأمد لصراعات تاريخية لتملك الدولة للمشروعية الدينية، تتميز بجنوح نحو الاعتدال الفقهي نفور نحو التسييس الديني، من خلال دور العلماء في تثبيت دين الدولة ودولة الدين، وفي إدماج جزء من إرث الاستعمار الفرنسي في ما أسسه الجنرال ليوطي، الذي أقصى إلى علمنة اللغة وهيمنة على الوقف والحد من استقلالية العلماء.
للدولة المغربية وللمخزن أسبقية واضحة تاريخيا واجتماعيا في المجال المقدس ودسترته وجعله سندا قانونيا لمشروعية تدخل الدولة في ضبط المجال الديني.
إلى جانب ذلك ومع حجم التحديات الفكرية والكونية المرتبطة بالمجال الديني، خصوصا مع ظواهر التطرف والغلو، فإن الدولة سعت للتأقلم والملاءمة والإحتواء الإستباقي لكل العناصر المحتملة أن تزعج الاستقرار المذهبي الديني. بذلك دبرت الدولة الدين بجعله قطاعا مؤسساتيا إداريا تسلسليا. فلم تعد الفتوى تصدر بشكل آني ومنفرد، وإنما اصبحت خاضعة لسلم إداري ورقابة تسلسلية تراعي المصالح والمخاطر، كل ذلك توج بخلق خطوات في اتجاه دولة تحتوي الجميع، دولة المواطن والمؤمن والإنسان، وهي في نظري افترض أنها كانت أحد أهم خيارات “العهد الجديد”. فمفهوم الدولة المدنية المتدينة في مواجهة العلمانية بمفهومها الحداثي الغربي، حاضر في الأذهان وفي السلوك بدون إقرار رسمي، مع غياب لمفهوم الشريعة الإسلامية في علاقتها بالقانون وغياب قاموس الحلال والحرام في الشأن العام.
ولعل أزمة التوفيق بين قواعد حداثية وقواعد دينية، تبرز أيضا في محاولة إدراج مفهوم قواعد المجال العام من حرية ومساواة الجميع أمام القانون ضمن المجال الخاص للفرد، وظهر ذلك في موضوع الأسرة كمجال خاص يشتغل بقواعد مختلفة ومحاولة إسقاط قواعد المجال العام عليها مثل المساواة في الإرث وحرية المرأة في وضعيتها الشخصية وغيرها، وهي مواضيع ذات بعد عقدي وفلسفي لم تحسم بعد.
فتدبير المجال المقدس في المغرب، ورغم جهود الدولة في الإحاطة بالرغبات العقائدية والإفتائية للشعب خصوصا أمام الانفتاح المهول تجاه تيارات دينية مشرقية بسبب التكنولوجيا والانفتاح الإعلامي الذي لعب دورا كبيرا في الظهور المتجدد للسلفيات الكامنة في التنظيمات الإسلامية، ورغبة في إغلاق أي منافسة محتملة مع التيارات الإسلامية الأخرى، تبنت مقاربة صارمة توفق إلى حد ما ما بين التبني المذهبي المالكي المعتدل، ومابين الرفض المطلق لإنشاء دولة دينية منغلقة، نظرا لثقل الماضي والتاريخ والتنوع الديني والعرقي.
ورغم كل المحاولات من أجل نزع الطابع الإسلامي عن مؤسسة إمارة المؤمنين، وجعلها مؤسسة تشمل جميع الديانات السماوية، فإن هذه المحاولات باءت بالفشل في إقرار حرية المعتقد. هذه الحرية قد تتحول إلى جنوح توظيفي سياسوي لرفض بعض طقوس رمزية تؤسس لمشروعية دينية لإمارة المؤمنين، كعقد البيعة مثلا، وبالتالي سنصبح في حال إقرار هذه الحرية أمام حالات تمرد مؤسسة على القاعدة القانونية وأمام إشكالية عدم الانصياع وبالتالي خرق قواعد الإجماع، مما يجعل هذا التوفيق المبتغى عقدة متجددة ودائمة لم يتم حسمها بعد.
المكون الثاني للأزمة: أزمة صناعة خطاب بناء ونزعة الهيمنة في الفعل التواصلي
في الشق المتعلق بأزمة الخطاب، فقد ظل حزب العدالة والتنمية على غرار باقي تتنظيمات الحركة الإسلامية في المنطقة العربية تحديدا، يمارس خطاب أزمة مرتبط بإيجاد قنوات عبور نحو اندماج حقيقي واعتراف تام داخل النظام السياسي، بدل صناعة خطاب بناء.
وهذه العقدة قد تشمل جميع التنظميات الإسلامية منذ سقوط الخلافة الإسلامية، ظلت تمارس خطاب أزمة للعودة إلى الأصل الديني ومن هنا دخلت في صراعات مع السلطة والمجتمع أنشأت لها أزمات جديدة ومتنوعة. وباستثناء الفترة الأولى ببناء تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، حيث طغت فيها النزعة الصوفية والتربوية، فإن المكون السلفي الكامن داخلها ظل يظهر من حين لآخر حسب الحاجة وحسب تكوين قادة المرحلة الذين تكون معظمهم في مدارس سلفية خارجية كالسعودية مثلا.
أساسيات مبدئية للفعل الخطابي للتنظيم الحركي الإسلامي
عند الملاحظة وبفعل تكوين معظم أتباع التنظميات الإسلامية، نرى أن خطاب المواجهة والاشتباك والنقد والرفض هو السائد على خطاب بناء افكار اقتصادية أو اجتماعية عملية بمرجعية إسلامية خالصة. ولعل هذا الأمر هو نتاج طريقة التكوين في الجماعات الإسلامية التي تركز معظمها على تلقين طريقة الإفتاء والاستاذية نحو أخطاء المجتمع بدل تكوين قادة قادرين على التدبير العمومي.
ولمحاولة فهم العقل التواصلي للحزب موضوع هذا المقال أي العدالة والتنمية، فإن الخلاصة المركزية التي نستنتجها في البحث في الموضوع، أن تواصل التنظيم كان تواصلا سياسيا بنفس ولغة دينية إسلامية.
فالفعل التواصلي السياسي الجماهيري للحزب شكل وسيلة أساسية للتعبير عن الهوية، وكانت هناك تقاطعات واضحة بين الثقافي الديني بالخطابي السياسي.
وتميز هذا التواصل السياسي بكونه ظل مشخصنا، احتفاليا فرجويا يدور حول شخص الزعيم وليس حول أفكار وأولويات الفئات الاجتماعية، تميز بالخلط مابين لغة الوعظ الديني التقليدي ومابين دخول غمار التواصل التكنولوجي الحديث، الذي يمكن أن نسميه تواصل الربيع “العربي”.
وكانت من بين أهم أهداف هذا التواصل أن يخلق الدهشة وبالتالي خلق التتبع. كان تواصلا سياسيا يهدف إلى خلق تمايز عن بقية الخصوم، باستعمال الرمزية الدينية الإسلامية، في محاولة للنبش في التمثلات الذهنية للجماهير حول اللغة الدينية الشعبية بغية خلق أثر خطابي سياسي مؤيد.
وقد ساهم في تفوق هذا الفعل التواصلي المحدود الفعل زمنيا، ضعف تواصل باقي الفاعلين السياسيين الذي تغيب عنهم الجرعة الإسلامية، وتضعف لديهم اللغة الدينية بسبب الضعف في التكوين التقليدي.
كما تميز التواصل السياسي لزعماء العدالة والتنمية وعلى رأسهم عبد الإله بنكيران، بكونه كان تواصلا شعبيا جماهيريا متحررا من الضوابط النخبوية أو الطبقية، وبكونه تواصلا مبنيا على المصطلح والرمزية الإسلامية، من خلال اختيارات لفظية هادفة.
في المقابل وإن كان الفعل التواصلي السياسي للحزب مؤثر جماهيريا لكسب مشروعية شعبية، غير أن عمقه كان ذو نزعة إقصائية مضمرة. يظهر هذا العمق في اختيارات خطباء الحزب، من لغة دينية تمارس نوعا من السلطوية الدينية على المتلقي لإخماد النقد تجاههم أو المجادلة بعد الاستدلال الديني الذي يفرضونه على الجمهور الشعبي.
الخلاصة أنه تواصل يريد أن يظهر بمظهر المتملك للحقيقة، تواصل حاد ورافض لعدد من الحقائق بدون مبررات موضوعية.
هؤلاء الخطباء المتملكون لتكوين ديني تقليدي متميز، عزز قدراتهم التواصلية على بناء خطب تحمل كثافة رسائل مضمرة من خلال الاستعارات و الإستدلالات اللغوية الدينية، ومن خلال بناء شعارات ذات حمولة دينية.
حلقات تواصل خطباء العدالة والتنمية
يتميز هذا التواصل وهذا الخطاب السياسي الشعبي العاطفي بلغة بسيطة، استعان بحلقات متراصة ذات أهداف، وتأثير وهي في نظري خمس حلقات مهمة:
1- الحلقة الأولى هي الفرجة الخطابية الجماهيرية المباشرة من خلال بنكيران؛
2- الحلقة الثانية وهي بناء خشبات مسرحية مشوقة، تخلق الحاجة لتلقي رسائل الخطاب؛
3- الحلقة الثالثة هي استعمال تقنيات تكنولوجية مواكبة في شبكات التواصل الاجتماعي للتأثير على الجماهير وعلى النخبة المثقفة وعلى الطبقة المتوسطة؛
4- الحلقة الرابعة وهي صناعة خطاب داخل المؤسسات الرسمية، البرلمان ومجالس الحكومة أساسا، بشكل منتظم ومحدد الأهداف التأثير على الخارج وتعبئة صفوف الحزب؛
5- الحلقة الخامسة والأخيرة في سلسلة صناعة الرسالة لدى الحزب، وهي محاولة التسيد السياسي من خلال المواجهة بواسطة أطروحة التحكم والدولة العميقة وغيرها.
هذا التواصل الهجين والملتبس لدى حزب العدالة والتنمية، وهذا الخليط في صناعة محتوى خطابي سياسي، تأرجح في نوازل اجتماعية عديدة بين التكامل والتنافر والتنافس أحيانا أو التطفل على الإفتاء مع تصور الدولة للدين وللتدين في المغرب.
استعمال اللغة الدينية بين الدولة والبيجيدي: تشابه شكلي واختلاف وظيفي
رغم أن زعماء العدالة والتنمية حاولوا ظاهريا استعمال نفس اللغة الدينية للمؤسسات الدينية للدولة المغربية، غير أن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد تشابه شكلي مع اختلاف وظيفي غائي جوهري. خطاب الدولة الديني يروم بالأساس تلبية الحاجات العقدية للمؤمن والمتدين وتحصينه من اللجوء إلى مذاهب أجنبية غير منسجمة مع أسس المذهب المالكي ومع المكون الصوفي فيه، في حين أن استراتيجية خطباء العدالة والتنمية هي محاولة استعمال هذه القناة من أجل توظيف توسعي لاستمالة الجماهير.
ويمكن التمييز بين استهلاك الخطاب الديني بين الدولة ومؤسسة المجالس العلمية والعلماء المالكيين وبين استعمالات حزب العدالة والتنمية في نقط الاختلاف الآتية في محورين أساسيين:
المحور الأول: مؤسسات الدولة والاستعمال الشرعي للخطاب الديني من زوايا النظر الآتية:
1- من وجهة نظر قانونية: استعمال مؤطر ومنظم من قبل الدولة؛
2- من وجهة نظر فقهية: تطابق خطاب الدولة مع المذهب المالكي؛
3- من وجهة براغماتية: تثبيت إمارة المؤمنين ومذهب الدولة الديني في المجتمع؛
4- من وجهة نظر إستراتيجية: نزع الشرعية عن مخالفي توجهات أمير المؤمنين.
المحور الثاني: حزب العدالة والتنمية والتوظيف السياسوي للتواصل الديني من زوايا النظر الآتية:
1- من وجهة نظر قانونية: استهلاك مفرط وخروج عن روح النصوص القانونية وإخلال بقواعد التنافس؛
2- من وجهة نظر فقهية: امتثال متذبب لقيادة الحزب للمذهب المالكي وممارسة تفقه ديني مشرقي سلفي وعدم وضع مسافة مع خط التسلف الكامن داخل التنظيم السياسي، في الوقت الذي أصبحت فيه الجماعة الإسلامية المساندة له أكثر مالكية وأكثر مشاركة في الخط الديني لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية؛
3- من وجهة نظر براغماتية: مقاومة المختلف عن الحزب سياسيا واستمالة الجماهير؛
4- من وجهة نظر استراتيجية: التقرب إلى أمير المؤمنين ومحاولة إضعاف الخصوم دعاة الحداثة.
الخطاب الديني لحزب العدالة والتنمية ودوره في تجديد مشروعية النظام السياسي
مع ذلك كله فإن الدور الذي لعبه الخطاب الديني لحزب العدالة والتنمية وجماعة التوحيد والإصلاح، كان مهما في تجديد مشروعية النظام السياسي ككل، وفي إسناد المؤسسات الرسمية المعنية دبير المجال الديني وملء الفراغ الإعلامي. ويتجلى هذا الدور في العناصر التالية:
1- في رفض بعض السلوكات المخالفة للمرجعية الإسلامية من خلال الدفاع الظاهري عن مفهوم الإعتدال والوسطية والمساهمة في التصدي للتطرف و للإستقطاب الجهادي العنيف وفي تأطير الفئات الإجتماعية غير المنصاعة للمؤسسات الدينية الرسمية وللدولة؛
2- في رفض الاشتباك مع العلماء الرسميين، الدفاع عن إمارة تنفيذية للمؤمنين مقابل دعاة الملكية البرلمانية؛
3- في التوافق على التنخيب الديني من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، لنخب الجماعة في الإرشاد الديني والمجالس العلمية والقنوات الاعلاميية الدينية، الشيء الذي خلق شبه شراكة بين الجماعة والدولة على حساب تطعيم الحزب بنخب خطابية تجدد دماءه اختارت الدولة بدل الحزب، الشيء الذي قد يفسر جمود نخب الحزب في نخب التأسيس وضعف المشاركة السياسية لفائدته.
ويمكن القول في هذا الصدد أن الدولة مارست استقطابا مضادا لنخب الجماعة في تدبير الشأن الديني المحلي والوطني، مما ساهم في قطع الطريق على الحزب لإعادة تجديد نخبه، أو في محاولة تنخيب خطباء سياسة جدد من خزان الجماعة لتجديد سابقة التأسيس.
4- تثبيت الدور الديني المحافظ للنظام الملكي و دعمه أمام دعاوى الحداثة والدفاع عن القيم الليبرالية المحافظة.
المكون الثالث للأزمة: غياب القدرة على فهم وتفهم عناصر السياق السياسي المغربي الحالي
قراءة متأنية لنتائج انتخابات 8 شتنبر 2021، والتي أعطت تصدرا لحزب التجمع الوطني للأحرار اتفقنا معه أو اختلفنا فنحن أمام واقع ينبغي فهمه والتعاطي معه، في تقديري هي انتخابات غير مسبوقة في تاريخ المغرب منذ الاستقلال، وتحتاج إلى أكثر من منهج علمي لتحليلها، بالنظر إلى كونها خلقت مواجهة بين ما يمكن أن أسميه البورجوازية الاجتماعية الناشئة في المغرب، التي جسدها عزيز أخنوش وبين السياسة في بعدها الأيدلوجي والمرجعي النظري.
السياق السياسي لما قبل انتخابات شتنبر
منذ انتخابات 2016 تغيرت مجموعة من العناصر المتحكمة في السلوك الانتخابي، وتفككت كثير من الجبهات التي كانت تعطي أفضلية لحزب العدالة والتنمية. وربما هذا التحلل والتغير بعثر عددا من أوراقه الخطابية وأضعف مستوى فعله التواصلي المؤثر سابقا في توجيه الجماهير إلى خلاصات معينة.
ثم إن السلوك الانتخابي في المغرب منذ دستور 2011، على ما يبدو طغت عليه بشكل أكبر من السابق النزعة الانتقامية، فأصبح سلوكا يمكن وصفه بأنه سلوك غير عقلاني إلى حد ما، هو سلوك ربما يتعاطى مع سؤال “ضد من نصوت” وليس مع سؤال “لصالح من نصوت”، ليفرز قرارا تصويتيا قد يكون أحيانا متناقضا مع قناعات المصوت الشخصية.
وبالنظر أيضا إلى وجود عناصر توتر معادية للتوجهات الإسلامية في البيئة الدولية والإقليمية، أصبحت أكثر ضغطا على المغرب، فإن احتمال تراجع حزب العدالة والتنمية إلى مرتبة أدنى أصبح أمرا واردا. كما أن قيادته للحكومة لعشر سنوات متتالية وظهور مخاطر جديدة ضاغطة على الدولة المغربية اقتصاديا واجتماعيا بسبب أزمة فيروس كورونا، كلها عناصر أقنعت الداخل المغربي والبيئة الدولية بضرورة خلق تناوب سياسي من نوع جديد، يقوده حزب آخر تقتضيه المرحلة وتقتضيه الدولة لإعادة تأسيس بناء جديد للمستقبل.
تحول الخصوم وتغير مفهوم الخصومة السياسية
هناك مسألة تغير الخصوم أو تغير تكتيكاتهم واستراتيجياتهم في الفعل السياسي والتواصلي، مما قد يفضي إلى تغير السلوك السياسي لبنيات الحزب سواء على المستوى المحلي أو النيابي او التنظيمي الداخلي، وإلى إعادة إنتاج مستويات جديدة من الخطاب واللغة السياسية وبالتالي إلى حركة تفاعلية جديدة الشيء الذي قد ينتج عنه ارتباكات أحيانا وإلى جمود أحيانا أخرى، لاسيما إذا كان ذلك الفعل السياسي تأسس سابقا على قواعد إدارة المواجهات السياسية بناء على وصف محدد للخصومة وللخصوم.
تلك المرحلة التي كان الخصم وتلك الجبهة مجسدة مثلا في إلياس العماري وحزب الأصالة والمعاصرة باعتباره سلوكا سياسيا بجهات داخل الدولة خلال الانتخابات السابقة منذ 2011، والتي شكلت عامل تفوق خطابي لحزب العدالة والتنمية بقيادة بنكيران، تغيرت واختفى الخصم اللذوذ، وبالتالي لن أجازف إذا قلت أنه أصبح من الصعب قيادة حملة انتخابية على حزب تعود على إيجاد خصم أو “عدو” سياسي مرئي وملموس، لأنه يشكل بالنسبة إليه عنصرا مستفزا لقدرات أعضائه التواصلية المهيأة بفعل التكوين للمواجهة، و مؤطرا لحلقات التواصل السياسي للحزب وعاملا للوحدة الداخلية و مكونا من خطاب الأزمة السياسية في إطار ردود فعل وليس في مستوى إنشاء فعل سياسي مستقل. غياب أو تغييب هذا الخصم هو جزء من استراتيجية محتملة لإضعاف القدرة الإقناعية للحزب وإضعاف عملية التصويت لفائدته. يزيد من حدة هذا الضعف لدى هذا التنظيم، عدم وجود خطاب مبدع واضح لبناء الدولة ولتدبير آثار الأزمات الكبرى.
تغير قواعد الاشتباك وتبديل المشتبكين
المتغيرات الأخرى التي برزت على المشهد لها من الأهمية بمكان في فهم نتائج انتخابات 2021، منها غياب عناصر توتر سياسية كانت تقوي جبهة العدالة والتنمية، وظهرت أخرى لا تدفع إلى ممارسة نفس الحدة و لا تشجع على نفس القدرة على الاشتباك اللغوي التواصلي السابق.
إبعاد عنصر التوتر ومحرك المواجهة إلياس العماري وظهور عبد اللطيف وهبي والنجاح في احتواء الصراع..
تنحي الياس العماري صاحب نظرية محاربة ومحاصرة توجهات “تنظيم الإخوان” ذات المنشأ المشرقي العربي غير المنسجمة مع وضع المغرب، وظهور عبد اللطيف وهبي على رأس حزب الأصالة والمعاصرة المعروف بصداقاته وعلاقاته المهادنة مع قيادات حزب العدالة والتنمية، أيضا هذا يشكل عامل تهدئة مهم. فعبد اللطيف وهبي يسير منذ قيادته للأصالة والمعاصرة في اتجاه تكتيكي معاكس لسلفه المستقيل، ويبدو أنه سعى لإعطاء مشروعية جديدة لحزبه، وأنه قام بعملية تطهير لكل الذين جاءت بهم المصالح الصغيرة وذلك واضح بالسماح لعدد من النواب بالمغادرة نحو أحزاب أخرى والاحتفاظ بمن يمكن معهم وبهم إعادة بناء فكرة ولادة الحزب الأولى من جديد.
محددات المشروعية الجديدة أبرزها تكمن في التظاهر بخلق مسافة وعدم إظهار أي روابط مع الدولة أو مع مؤسسي نظرية الأصالة والمعاصرة، ثم جنوحه نحو ممارسة فعل خطابي معارض منتقد و رافض بل وطاعن في كثير من مخرجات المؤسسات الرسمية، بل إنه أحيانا سعى للتطابق مع لغة معارضة العدالة والتنمية وتشارك نفس مساحة النقد والخطابة الإستهلاكية التنفيسية الجماهيرية، لامتصاص الغضب العمومي بدون مواجهات عميقة.
الأمين العام الجديد لحزب البام تمكن من القطع مع نهج المواجهة المباشرة مع الاسلاميين، نظريا وميدانيا، معتبرا أن الاشتباك هو ليس بسبب المرجعيات وإنما بسبب تدبير المشترك العام بين المغاربة من خلال معارضة السياسات العمومية. و يبدو أنه نجح في احتواء الأزمة مع البيجيدي وخلق جسورا جديدة، تهدف إلى المحاصرة المؤسساتية، وإلى قطع الطريق أمامهم لاستعمال خطاب التحكم السابق وتمنعهم من استعمال خطاب الخصم المدعم من قبل “المخزن” كحجة للترافع بها أمام الجماهير، وذلك بدل المحاصرة السياسية والإدارية الميدانية التي لم تعط نتائج قوية معهم بل متنت مشروعية خطابهم وتواجدهم الانتخابي.
ظهور عزيز أخنوش و فشل زرع الرغبة الداخلية في المواجهة لدى البيجيدي
ظهور عزيز أخنوش على رأس حزب التجمع الوطنى للأحرار لايعطي أوراقا سياسية كثيرة للبيجيدي كما كان الشأن مع إلياس العماري. الظهور المفاجئ لأخنوش “ولد الناس” و “رجل المعقول” حسب شهادات بنكيران نفسه، قطع الطريق أمام البيجيدي لبناء خطاب سياسي عدائي تخويفي منه. ظهوره الحزبي كرجل أعمال يساهم في قدرات البلاد في فترات الأزمات الكبرى، قلص قدرات المناورة والهجوم السياسي عند البيجيدي وجعلهم يكتفون بانتقادات اقتصادية في مواجهته. غير أن هذه الحجة الاقتصادية لن تكون بنفس قوة خطاب بنكيران عن التحكم ضد العماري، باعتبار أن حزب الاسلاميين في الحكومة ساهم هو أيضا في خلق متاعب اقتصادية واجتماعية للمغاربة جراء قرارات مالية واقتصادية عديدة، وعبر عن ارتباك تدبيري ونقص الإبداع في السياسات العمومية.
نهاية شباط ومعه سلة ردود الفعل الشعبوية لزمن بنكيران وظهور نزار بركة بخطاب عقلاني معتدل
من جانب آخر تنحي حميد شباط عن قيادة حزب الاستقلال و صعود نزار بركة أحد أحفاد العائلات المحافظة غير المعادية للفكر الاسلامي والعقدي، ينضاف إلى سلسلة الأوراق المتساقطة التي تفقد العدالة والتنمية حجج الخطاب التبريري الهجومي التظلمي، و تنقص من حدة نار المواجهة الجماهيرية الشعبية. هذا إلى جانب أن نزار بركة أظهر أداء متميزا في إعادة الروح إلى هياكل التنظيم وبنياته الموازية وإلى خلاياه المنتشرة، وابتعد عن لغة المواجهة الشعبوية متجها الى خطاب عمومي تدبيري عقلاني، ولعل نتائج الانتخابات المهنية الأخيرة التي أعطت نقابة الاستقلال صدارة مؤشر قوي على خروج الحزب من دوامة الشتات التنظيمي.
ومع أزمة وباء كورونا أبانت قيادة الاستقلال عن مقترحات حلول ذات قيمة مضافة، وعن حكامة حزبية وجاهزية وتأهب لقواعد ولمختلف بنيات التنظيم. أصبحنا نستشعر لدى الاستقلال عودة إلى خطاب محافظ اجتماعي للقرب مؤسس على قناعات الراحل علال الفاسي وعلى بعض أفكاره الاجتماعية والدينية المقاصدية في المشهد العام، وهو الأمر الذي يتميز به حزب الاستقلال عن باقي الأحزاب السياسية ويتقاطع فيه مع حزب العدالة والتنمية.
ومن خلال تحليل قدرة الأحزاب السياسية خلال فترة الجائحة، أثار الانتباه تماسك أفكار وتنظيم حزب الاستقلال وقوة مقترحاته العملية بعيدا عن لغة الشعارات. كما أن الحزب يعيد تملك كل العناصر التنظيمية والفكرية والخطابية التواصلية، التي تتقاطع في بعض أصولها مع حزب العدالة والتنمية خصوصا على مستوى اللغة التقليدية المحافظة ذات العمق الأخلاقي الديني، وتتقاطع أيضا مع البنية التقليدية للنظام السياسي ككل.
وسعى خلال فترة الطوارئ الصحية إلى إبراز قدرته في صناعة أفكار ومقترحات التدبير العمومي، وفي توضيح رؤيته في إدارة الدولة في البعد الاقتصادي والمالي والاجتماعي، مما منحه تفوقا داخل تنافس طبيعي لمشاريع الأفكار بدون تدخل للدولة في سياق الأزمة الحالية، تفوقا لمقترحاته على تصور الحكومة نفسها.
ولم يعبر حزب الاستقلال خلال هذه الفترة على انغلاق سياسي، بل أبان عن مرونة وانفتاح هادئ بدون عصبية سياسية، أمام إمكانية التعاون والتنسيق مع العدالة والتنمية من خلال التواصل مع رئاسة الحكومة ومع كوادر العدالة والتنمية، بالرغم من وجوده في المعارضة.
السياق الداخلي لحزب العدالة والتنمية
عشر سنوات من الوجود في الحكومة خلقت نوعا من الصراعات الداخلية للحزب، بين تيار استفاد من المشاركة وقد نقول أنه “أنضجه” العمل داخل الدولة والمؤسسات وأخرجه من دائرة الحماس العاطفي لمواجهة تدبير الدولة إلى دائرة العقلانية والتفهم والتفاوض، وبين فئات تحسب نفسها أقصيت من المشاركة في الفعل، وأن دورها أصبح محصورا في الفرجة وفي الاستجابة لاستدعاءات التجييش المتكررة و المؤقتة الظرفية للدفاع عن المشاركة وعن وزراء الحزب كلما كانت هناك هجمات خارجية، مما يفتت نسبيا وتدريجيا الولاء، ويدخل الريبة على القناعات في الاستمرار في نفس النهج الصدامي مع الجبهات الأخرى.
قيادة البيجيدي ومشاركته في حكومتين متتاليتين، في نظري أفرزت “طبقة” أو فئة استهوتها ثقافة البورجوازية داخل الحزب، فظهر ما يمكن وصفه ببورجوازية اسلامية متوسطة، لها طموح مادي اقتصادي وحريصة على الفعل الاجتماعي والسياسي والاعلامي، تميل إلى التوافق مع مراكز القرار السياسي والاقتصادي والإداري للدولة، وصنعت لنفسها مصالح متوسطة تجارية ومهنية ومعيشية، وأيضا صنعت محيطا داعما خاصا بها، وتنتهج بعض أساليب الوساطة “الزبونية”.
أصبحت تملك هذه الفئة الجديدة قوة القرار الحزبي بسبب روابط المصالح المادية، في مواجهة الفئات الاجتماعية المتوسطة و البسيطة “المغبونة” داخل التنظيم. هذه الفئة الجديدة تعي أنه من الضروري أن تدافع عن نفسها وعن بقائها داخل فعل شبكة القرار من خلال المشاركة الرسمية، كأي فئة اجتماعية جديدة، بنهج طريق الهدنة والتوافق والتخلي عن سلوك المواجهة المفتوحة المباشرة مع الدولة إلى جانب المساهمة في إعادة ضبط ايقاع التدافع داخل التنظيم.
ثم إن تنحية بنكيران عن رئاسة الحكومة وعن قيادة الحزب، وظهور سعد الدين العثماني يوحي بالعودة إلى منطق بدايات الحزب في نسخته الأولى وإلى الفترة المباشرة ما بعد سنة 2003 بعد العمليات الإرهابية بالدار البيضاء، والدخول في مرحلة التوافق مع إرادة الدولة، حول توزيع الخريطة السياسية والانتخابية. وبمعاينة تدبير حكومته في فترة حالة الطوارئ الصحية تبين أن الرجل ليست لديه أي مشاكل في تبني تصورات “المخزن” في التدبير، بل أكثر من ذلك يمكنه التخلي والتنازل عن اختصاصات رئاسية حكومية منحها له دستور 2011، بدون أي اعتراض أو احتجاج لفائدة وزراء آخرين.
هل نحن أمام بورجوازية اجتماعية ناشئة تعبر عن نفسها سياسيا بواسطة عزيز أخنوش؟
قراءة في الخطاب المضمر الذي رافق حضور عزيز أخنوش في الانتخابات وفي فترة كورونا وكيغية تدبير آثارها الاقتصادية والاجتماعية، بل ومنذ وصوله إلى رئاسة حزب التجمع، قد تضعنا أمام فرضية وجود محاولة سياسية جادة لطرح سياسي جديد لتشجيع “البورجوازية المغربية”، التي بدأت تتأسس وتظهر بوادر نشأتها مع دخولها إلى الممارسة المتنوعة داخل الفضاء العام للدولة والمجتمع، بحيث أن لها مصالح مرتبطة بالإغتناء لكن في نفس الوقت مستعدة للتفاهم على توزيع حصص من الثروة على فئات اجتماعية من خلال ممارسة السلطة، لتحقيق انصاف اجتماعي.
ولعل السياق السياسي والاقتصادي المأزوم شجع ارتفاع موجة هذا الخطاب السياسي الصادر عن طبقة غنية اصبحت تعي دورها الاجتماعي والسياسي والاعلامي، سياق ساهم في السماح لهذه البورجوازية الناشئة سياسيا على الكشف عن نفسها بشكل واضح، والسعي إلى التوافق معها على بناء المغرب وعلى بناء مساحات مصالح واضحة بين المجتمع والدولة والبورجوازية.
الاستفادة من قراءات التاريخ في هذا الباب مهمة جدا. البورجوازية الاجتماعية المشاركة في دعم المواطنة تظهر غالبا في فترات الازمات بشكل قوي. هذا التفكير البورجوازي هو من ساهم في بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو من ساعد المجتمع الغربي على بناء نفسه من جديد في كل المجالات، في العمران، الصناعة، الشغل وضماناته الاجتماعية، في الفنون والإعلام والثقافة وحقوق الإنسان، في العلوم والتعليم والصحة وغيرها.
الرهان الحقيقي حاليا هو مدى قدرة هذه البورجوازية على بناء مواقفها تجاه الدولة والمجتمع وتجاه الثقافة والسياسة. لأنه في آخر المطاف، محاربة هذه الفئة واقصاؤها سيضعنا في مواجهة تطرف بعضنا البعض، سيجعل المجتمع والدولة ساحة لمواجهات عقيمة، ويضعنا تحت إشراف هواة سياسة واقتصاد وإدارة، بدون امتلاك أي تصورات وتجارب عملية لبناء مجتمع المعرفة والإنتاج.
وفي المحصلة يبدو أن خطاب أخنوش اقنع الطبقة المتوسطة بالمساهمة في التغيير السياسي، خصوصا أمام حزب قاد الحكومة لفترة طويلة ولم يفلح في الفهم الحقيقي لاحتياجات المغرب واهتم اكثر بإدماج أطره ونفسه داخل الدولة والمجتمع وداخل شبكة مصالح جديدة.
الخلاصات العامة
الخلاصات الكبرى لنتائج هذه الانتخابات هي أن لغة ومحددات الخطاب الانتخابي؛ عناصر البيئة الداخلية اقتصاديا واجتماعيا؛ عناصر البيئة الدولية والإقليمية؛ ارتفاع حدة الصراعات الداخلية خصوصا في حزب العدالة والتنمية؛ ارتفاع حجم الأخطاء التواصلية والتدبيرية والمحاكمات الأخلاقية والسياسية لبعض قياداته بشكل غير مسبوق، وظهور فئات نفعية داخله، كلها عوامل كانت وراء التراجع المهول للتنظيم الإسلامي انتخابيا.
هذه الانتخابات يمكن اعتبارها تجربة مغربية فريدة من نوعها، خلقت نموذجا إقليميا فريدا في التعامل مع التنظيمات السياسية الإسلاموية، بحيث فهمها فهما جديدا يمكن أن يفرز فهما لمحدودية قدراتها التأطيرية والتواصلية، وبالتالي فإن تنحيها عن المشهد السياسي يمكن أن يكون طبيعا بدون اشتباكات عنيفة وبدون انقلابات على الدستور بل كانت هو ممكن ضمن سيرورة طبيعية للصراع السياسي والاجتماعي.
* باحث في العلوم السياسية
تعليقات الزوار ( 0 )