ننطلق من هذا السؤال لنتناول مدى وحدود تأثير سيد قطب في جماعات “السلفية الجهادية” الآن . إن النقاش الدائر اليوم حول مدى مسؤولية سيد قطب عن هذا” العنف الأسود” ـ الذي يغرق المنطقة العربية في ظلامه الدامس ـ ينبغي أن يأخذ مساحته الكافية، وان يأخذ حقه في البيان. .فعلى ما تعتمد “السلفية الجهادية” اليوم في بناء إديولوجيتها؟ هل تتسلح بأدبيات وإنتاجات التيار الجهادي السابق عليها؟ أم أنها شكلت “قطيعة” معها واعتمدت أعمالا جديدة لأعلام جديدة؟
إن من حق سيد قطب علينا أن نتعامل معه بقدر من “الموضوعية” حتى نضعه في مكانته، أو بالأحرى حتى لا نظلمه.
لقد كان سيد قطب أديبا وشاعرا ومفكرا ، وكان كذلك فقط، ولم يكن “رجل دين” بالمعنى الذي تحيل عليه الكلمة. وفي الفترة التي لعب فيها سيد قطب “الأدوار الكبيرة” من التنظير والتأطير للتيار الجهادي،
كان الذين يقودون العمل الإسلامي، بشكل عام، ويتزعمونه هم المثقفين، ولم يكن من بينهم “رجال الدين”، حتى قالوا أن كون قيادات الحركة الإسلامية من المثقفين تعبير عن “ضلال” التيار الحداثي العلماني، وتعبير أيضا عن “غثائية رجال الدين”.
وغني عن البيان القول أن جميع القيادات والمؤثرين لم يتخرجوا من الجامعات الدينية، ولم تكن تخصصاتهم دينية، وغني عن البيان أيضا، القول أن المتخرجين من الجامعات الدينية لم يكونوا معنيين بمشروع الحركة الاسلامية وقضاياها وتطلعاتها . وحين نتحدث عن سيد قطب كواحد من أهم اللاعبين المؤثرين في المجال باعتباره مثقفا ومفكرا ـ والمفكر غير العالم وغير رجل الدين ـ فإن كتاباته تصلح لفتح عيون الناس على الواقع، وتسلحيهم بالعدة النظرية للاحتجاج على الواقع، والواقع الساسي على الخصوص، والدعوة إلى التمرد عليه.
وكون سيد قطب ليس عالما مفيد في نقاشنا، حيث ظهر أن هذا المفكر على الرغم من أن أدبياته وكتبه اكتسحت العالم العربي والإسلامي، و حظيت باهتمام كبير من قبل الإسلاميين على امتداد الوطن العربي والإسلامي، و كان كتابه” معالم في الطريق” “مانيفيستو” الحركات الإسلامية ذات التوجه “الراديكالي” أو الجهادي، وكان واحدا من أهم الكتب التي تُعتمد في تأطير الأتباع والأفراد، إلا أن هذه الإنتاجات الفكرية ظلت دوما يُنصح بقراءتها في باب فقه الواقع و توسيع دائرة المدارك المتعلقة به، لا غير. ولا يتم الاعتماد عليها فيما يتعلق بالعلم الشرعي الذي يُرجع إليه في باب طلب الفتوى للتعامل مع الواقع وفق إملاءات الشرع وتوجيهاته .
نتأمل الكتابات التي شرعت في التأصيل للعمل “الجهادي” و نرى أنها تكاد تخلو من الإحالة إليه، ولا تذكره إلا نادرا، فهذا كتاب “الفريضة الغائبة” لمحمد عبد السلام فرج لا تكاد تظفر فيه ـ في الغالب ـ إلا بابن تيمية، و الذي لا يشير إليه سيد قطب في مجمل كتاباته، وعندما يحيل على سيد قطب، فإنه يفعل ذلك في موقف لا تُطلب فيه الفتوى، وإنما يستل من “ظلاله” جملتين تناسبان موضوعه في أخر كتابه. وهذا كتاب” الجامع في طلب العلم الشريف” لسيد إمام وهو كتاب كان مُعتبرا لدى الجماعات الجهادية، وكان مُعتمدا من قبل عناصرها، لا تكاد تقف فيه على إحالة إلى هذا المفكر إلا في معرض نقاش فكري وإديولوجي قريب من “فقه الواقع”. ولقد قال هذا صراحة في أثناء حديثه عن “الظلال” ـ تفسير سيد قطب للقرآن ـ حيث نبه إلى أن هذا الكتاب على ما فيه من الأخطاء في العقائد لا يؤخذ منه لا في الاعتقاد، ولا في الفقه والأحكام ، وهو ينصح بقراءته في باب فقه الواقع وتعرية الجاهلية حسب تعبيره.
ونفتح كتاب ” ملة إبراهيم” لأبي محمد المقدسي فنجده يعتمد بشكل شبه كلي على كتابات “ائمة الدعوة النجدية” ولا ينقل عن سيد قطب إلا في موضوع “المفاصلة” الذي يناسب موضوع كتابه: “الولاء والبراء”، وقد نقل عنه لأنه يخدم موضوعه، إذ يصيغه سيد بأسلوبه القريب من ريشة الفنان.
لقد كان سيد قطب حاضرا وماثلا لل”مناضلين” الإسلاميين، وهم يستدعونه متى احتاجوا إليه، غير أنهم يفعلون ذلك في مواطن الاحتجاج على الواقع، و توجيه النقد إليه، ولا يتجاوزون ذلك. وهذه هي المكانة التي ينبغي أن يوضع فيها الرجل، لقد كان وصف الواقع بأنه جاهلي، ونعت المجتمعات بكونها جاهلية، مما ترتب عنه ـ أي هذا الوصف ـ الذهاب إلى “تكفيرها” حتى وإن لم يصرح هو بذلك، بشكل واضح، و إنما ذهب إلى أنها تزعم أنها مسلمة وهي ليست كذلك، ودعا إلى إعادتها إلى الإسلام، وشرح كيف يكون الحكم بغير ما أنزل الله اغتصابا لحقه.
لقد عقل الشباب عنه ذلك واستوعبوه تماما، ولكنهم في حاجة إلى من يبين لهم الأحكام التي تترتب على هذا الوعي، وعلى هذا الموقف.
إن “فقه الواقع” وتعرية “الجاهلية” هما المسرح الذي يلعب فيه سيد قطب وفكره دور البطولة ، وتكون له فيه الكلمة الأولى ، وهما المسرح أيضا الذي ينتهي فيه دوره ويتوقف فكره. ليبدأ دور” رجال الدين” فسيد قطب ليس فقيها يُستدعى للفتوى، وليس “عالما” بمُكنته بيان الحكم الشرعي في مسألة من المسائل.
في مجال الفتوى وبيان الحكم الشرعي والتأصيل، لا مكان لسيد قطب ولا مجال لغيره من المفكرين والمثقفين. نفتح أي كتاب من الكتب التي تُعتبر عند جماعات “السلفية الجهادية” فنرى صاحبه قد أكثر فيه من النقل عن علماء الشريعة، المتقدمين منهم والمتأخرين، وأكثر من نقل الفتاوى الحنابلة، والفتاوى التي تتفق معها، والتي تعود إلى غيرهم من فقهاء المذاهب السنية المعتبرة الأخرى، وأكثر من النقل عن ائمة” الدعوة النجدية” التي بينت التوحيد و عرت الشرك و أوضحت معنى الطاغوت، كما يقولون، وجدير بالذكر هنا ان “الدعوة النجدية” ليست، في واقع أمرها، إلا إحياء لابن تيمية و وراثة “سره”.
إذا علمنا أن سيد قطب مفكر يعري الواقع، ويعري “جاهليته” ويعبر عن” ثورية الإسلام” و”انقلابيته” بأسلوبه البياني الساحر، وأنه يقف عند هذا الحد ولا يتعداه، وعلمنا أيضا أن الحركات “الجهادية” سلفية تعود في التأصيل لقضاياها إلى أقوال السلف و رواياتهم، وبالتالي، إلى الشيوخ الذين يمارسون” السلطة العلمية” و”المعرفية” باستدعائهم لتلك النصوص، لأنها ـ في الأصل ـ هي التي تمارس تلك “السلطة” وإنما يمارسها الشيوخ بالتبع، أي من ورائها ، وسيد قطب لم يكن منهم.
بقي أن نعرف أن الأعمال القاسية التي وقعتها تلك الجماعات “الجهادية” تستمد شرعيتها من فتاوى العلماء” والشيوخ ،وليس من المفكرين والمثقفين، وتجد سندها في النقولات المستخرجة من بطون تآليفهم . إن تحريق الأسرى وتقتيلهم لا يُؤصل له من إنتاجات سيد قطب، وإن بيع النساء وشراءهن ك”سنة” تم “إحياؤها” من قبل بعض “الجهاديين” عمل مرفوض في أدبيات سيد، وهو يقف ضده بحس المفكر.
بقي أن نشير هنا، إلى أن سيد قطب ما خلف أمرا أقوى من الموقف الذي خلده له التاريخ قبيل إعدامه، حيث طُلب منه أن يستعطف لينال العفو فأبى قائلا أن السبابة التي تتحرك بالشهادة لا يمكن أن تكتب طلبا كهذا الذي يطلب منه، أو كما قال.
وأحسب ان التأثير الذي مارسه و يمارسه على المنتسبين إلى التيارات الإسلامية، لا يجد تفسيره في قوة الأفكار التي طرحها، وعمق النظريات التي كتبها، بقدر ما يجده في التضحية التي قدمها من أجل معتقده. لقد كان يقول أن الأفكار تظل ميتة إلى أن يموت أصحابها في سبيلها ، فإن ماتوا فداءها انتقلت حياتهم إليها فعاشت بينهم، وذلك الذي كان: موته في سبيل أفكاره هو الذي جعلها تستعصي على الموت، و أبقاها حية بين الناس.
تعليقات الزوار ( 0 )