منذ أن طرح السؤال الشهير لماذا تقدم الغرب وتأخر الشرق، والأمة العربية الإسلامية بكل مذاهبها التقليدية والتقدمية في سجال وخصام عنوانه الأبرز أن الأمة ليست بخير لأن هناك ما يمنعها من ذلك.
هذا الصراع الذي فرضه التغيير الحاصل في أوروبا، والذي كان سببه ذلك الانعتاق من وصاية رجل الدين المنتصر لإرادة السماء والمتحالف مع صاحب الرأسمال؛ انعتاق قام أساسا على العقل والعلم ومركزية الإنسان.
وليس هدفي في هذا المقال المختصر أن أسترجع ما هو واقع منذ ذلك الحين ولما يقرب من قرن ونصف القرن من الزمن؛ ولكني أقول ما بدأت به هو أن الصراع له جذور قديمة أججه الواقع في أوروبا؛ والذي أصبح يفرض ما يفرضه في عالم أصبح صغيرا عنوانه الهيمنة.
سأكون مخطئا إن أنا ادعيت أن الصراع كان ثنائيا فقط في كل مراحل الصراع إلى اليوم؛ بين المنتصرين للتقليد وبين المنتصرين للتجديد؛ بين من يرون في السلفية الخلاص؛ وبين من يرون في عزل الدين انعتاقا من التخلف. ولكن الحقيق أن التيارين الراديكاليين وجدا أنفسهما – خاصة في السنوات الأخيرة – في مواجهة تيار ثالث يؤمن أن الأمة ليست بخير؛ ليس بسبب الدين في ذاته وإنما في سوء فهمه من طرف رجل الدين التقليدي؛ وأن الدين الصحيح لم ولن يكون خصيما للعلم والعقل والمبادئ التي أسس لها عصر الأنوار… وهكذا بدأ التنوير الإسلامي الرحلة من أجل حل وسط يعيد للعقل والعلم مكانتهما دون إخلال بالمبادئ القلبية والأخلاقية.
ومن هذا المنطلق يظهر معنى التنوير الإسلامي، أي ذلك الاتجاه الذي يرى أن المشكل ليس في الدين في ذاته وإنما في سوء فهمه في الفترة التي هُمش فيها رجل العلم والعقل استجابة لأهواء رجل السياسة؛ حتى وصلنا إلى هذا الزمن الذي عجز فيه شكل الدين عن مواكبة ما هو واقع في الغرب. وعليه كان واجبا البحث عن الخلل من أجل العودة بالدين إلى طبيعته في جلب المصالح ودرء المفاسد ومزاحمة النموذج في الغرب المهيمن.
لقد انبرى لهذه المهمة في كل المراحل التي أحس فيها المسلمون بالفرق رجال ونساء ينتمون إلى مؤسسات دينية عريقة؛ مثل الأزهر، والزيتونة، والقرويين، أو إلى تيارات حركية مثل جماعة الإخوان، والصحوات الشيعية والسلفية، أو في شكل مبادرات فردية موجهة وغير موجهة مستفيدة من الزخم الذي حققته العولمة في شقها التكنولوجي الإعلامي والتواصلي. فأصبحنا بذلك نتحدث باستمرار عن تيار جديد لا يمكن إغفاله يخرج في مرة وحين بآراء مبعوثة أو أصيلة تفرض على رجل الدين التقليدي الخروج من أجل الدفع والتبرير فيما كان ينظر إليه مسلّمات لا تقبل النقاش والتشكيك.
ومع ما عرفته وسائل الاتصال من انتشار كبير بين العامة والخاصة، أصبح كل شيء مكشوفا يخرج باستمرار من وصاية وتوجيه رجل الدين التقليدي الذي اعتاد لهجة التحذير من الكتب والأشخاص حتى نهاية القرن العشرين. هذا الوضع هو الذي جعل رجل الدين التقليدي ينظر إلى فعل التنوير كلا واحدا لا يفرق بين المتنور الحقيقي والمزور المرتزق المدفوع…فساءت العلاقة كما ساءت من قبل بالتقدميين الذين سماهم رجل الدين جملة بالعلمانيين دون تفريق.
إن دافعي إلى كتابة هذا المقال أصبح الآن واضحا؛ وهو أني أحاول أن أبين أن رجل الدين التقليدي الذي اعتاد التعميم فعل الشيء نفسه مع فعل التنوير، وهذا مخالف للصواب؛ ذلك أن التنويريين وإن كانوا يتفقون في الحرب على رجل الدين التقليدي السلفي الذي يرى الخلاص في ما انتهى إليه الأولون، فإنهم ليسوا كلا واحدا، وأن هذا التعميم أساء إلى فعل التنوير الذي أصبح يخدم التزويريين.
إنني أتفهم جيدا ما يحسه أهل الدين من الخوف والتوجس من فعل التنوير القائم على التشكيك أساسا، والهدم وإعادة البناء؛ ولما قد يؤديه ذلك من الحرب على ثوابت الأمة وتماسكها. وهذا واقع في كثير من الذين يختبئون في جبة المتنور ظاهرا والمزور باطنا. لكن التنوير يبقى واقعا يفرض نفسه على الأمة مجتمعا وسياسة؛ حتى ليجد رجل الدين نفسه مرغما على ذلك.
فلو أننا نظرنا إلى الإسلام في أصله لألفينا أنه كان تنويرا، فهو ليس دينا جديدا، وإنما هو إصلاح وتمام وكمال لأمر كان، ولهذا سمى الله أمر الإسلام نورا، والادعاء بأن الخلاص فيما كان عليه الناس مخالف لمقصد الدين نفسه، فالإسلام لم يأت ليعود بالناس إلى ما كان عليه السابقون الأولون في حياتهم الاجتماعية، وإنما جاء ليعيد الاعتبار للثابت من الدين من أمر التوحيد، والأخلاق، وليضع عن الناس إصرهم والأغلال التي فرضتها الأعراف والأهواء الفردية والجماعية، وهذا هو الذي سماه الله نورا. فالتنويري الحقيق يروم جعل الإسلام مستجيبا للقواعد العامة في جلب المصالح ودفع المفاسد بما يستقرئه وبما يستنبطه من الطرق المنقولة والمعقولة، بينما يرى رجل الدين السلفي أن الناس يجب أن يمتثلوا ما يراه دون النظر في مصالحهم، وهنا يظهر الفرق بين التيارات الثلاث حيث يقف المتنور وسطا بينهم. فالتقدمي يرى مركزية الإنسان دون النظر في أمر الله؛ بينما يرى رجل الدين مركزية الله دون الاهتمام الشديد بأمر الإنسان، في حين يعيد التنويري الاعتبار للإنسان باعتباره مركزا دون جعله مناقضة لإرادة الله.
لقد اختلط الحابل بالنابل كما يقال، وأصبح فعل التنوير في شق منه خاضعا لنزوات الأفراد والجهات، والبحث عن الشهرة والتوجيه؛ عبر الخضوع للمانحين من الهيئات السياسية والمالية الفاسدة التي تدفع في اتجاه إنسان على المقاس خاضع للهيمنة الامبريالية في شقها السياسي والاستهلاكي.
ولمّا كان الأمر كذلك بهذا التداخل، ولمّا كان التنوير حاجة يفرضها الدين قبل الواقع، وأن التقوقع والتعويل على مخاطبة الجماهير بخطاب لا يصنع إلا مسلما متناقضا مريضا، كان ولا بد من الدفع بالميز بين التنويري والتزويري، بين التنويري الذي يخدم الأمة، وبين التزويري المدفوع الذي لا تهمه إلا مصالحه المادية والمانحين.
إن التنويري الحقيقي يفهم أن الإسلام ليس هو الحداثة، أي ليس نسخة منها، وليس مفروضا على الإسلام أن يكيف نفسه بالكلية ليصير نسخة مشوهة منها، وليس مطلوبا منه أن يساير تقلباتها، وجنونها، وأسقامها، فهو يعي أن الحداثة مُدخلات من العقل، والعلم، والأهواء، وأن الإسلام قادر على التكيف والمساهمة في هذا الركب الحضاري في خدمة الإنسان والقيم الإنسانية المشتركة دون إفراط ولا تفريط.
أما التنويري المزور والمدفوع من أهوائه والمناحين فلا يرى في الإسلام أية فضيلة، وغايته من الأصل الهدم لا بالبناء، والتشتيت لا الجمع، فهو يختبئ في جبة المتنور الحريص، تراه يقول إن القرآن هو الأصل والحكم، وغايته من ذلك ضرب الأخذ بالخبر المنقول، فهو لا يؤمن بالقرآن ولكنه يريد التدرج في الهدم وفك العرى. وقد عرفت كثيرا من هؤلاء وسمعت ممن كان يجلس إليهم أنهم لا يصومون ولا يصلون، ولا يبادرون، ويقضون أوقاتهم في نواديهم يحتسون الخمر، ويشربون الدخان وقد ينتهي الحال ببعضهم إلى استعمال الحبوب المهلوسة؛ حتى إذا قاموا إلى الناس خاطبوهم مخاطبة الحريص على أمر القرآن. هذا وإن كنت لا أعمم هذا على كل قرآني صاحب منهج محاجج فاضل يهمه أمر المسلمين.
إن التنويري المزور المدفوع من علاماته أنه أول ما يفعله حين ينتهي به المطاف إلى أن يصبح عبدا مملوكا هو أن يعلن أمام الناس أنه ليس عربيا بناء على ما قام به من اختبار الفحص الجيني ، وغايته في ذلك القرب من إخوانه الممنوحين من المنضوين تحت شعارات الإثنيات والعرقيات التي تدفع إلى تشتيت المجتمع؛ بضرب تلاحمه وتحويله إلى إثنيات متناحرة؛ ولهذا فالتنويري المزور يشكك في الأصيل القريب من تاريخ المسلمين وأمرهم، لكنه لا ينطق ببنت شفة في ما يدعيه أصحاب الإثنيات من تاريخ لا أصل له أو يقوم على أصل ضعيف.
وخلاصة القول؛ فإن التنوير يبقى ضرورة تفرض نفسها على الجميع من منطلق الدين نفسه ومن حاجة المسلمين لذلك، وبما يفرضه الواقع وتحولاته المخيفة، والواجب على أهل الدين أن يدفعوا إلى الميز بين التنويري الحقيقي من المزور؛ فمادام الدين له أصوله القوية التي قام عليها بما تجعله قادرا على النقض والنقد والمواجهة؛ فإن أهل الدين يجب أن يدفعوا ما يمكن دفعه ويعززوا ما يمكن تعزيزه. فأنا آمنت ومازلت أومن أن رجل الدين الفقيه هو الأهل للتنوير الحق إذا ما امتلك الجرأة والشجاعة التي تجدها عند كثيرين رغم جهلهم وعيـّهم .
تعليقات الزوار ( 0 )