قلتها سابقا، ولا أشعر بالضجر من تأكيدها وتكرارها مرة أخرى: نحن في أمس الحاجة إلى ما أسميه بـ”الأمن الإعلامي” في عصر الانترنيت، لأن هذا العصر الذي نحياه يختلف بشكل مطلق عن العصر الذي تربينا عليه، فلقد تولى ذاك العصر إلى غير رجعة، وحلت محله ثورة خطيرة جدا لها إيديولوجية من أخطر الإيديولوجيات التي شهدها التاريخ البشري، كما يقول المفكر الفرنسي جاك أطالي، إيديولوجية شمولية كليانية توتاليتارية تتجاوز خطورتها السيادة الوطنية المتعارف عليها في دروس كليات القانون، وتتجاوز القوة الصلبة المتمثلة في الجيش والشرطة والمخابرات.
باختصار: إنها ثورة إيديولوجية تتجاوز الدولة الواقعية التي كتب حولها الفلاسفة والمؤرخون والمنظرون في السياسية، إننا إزاء ما يسمى بـ “الدولة الافتراضية” التي تقوم على ركيزتين اثتين متعارضتين: الحقيقة والكذب، وما بينهما تتم صناعة التمثلات عن الذات والمجتمع، أي صياغة اجتماع جديد يقوم على التفكيك وإعادة البناء، تفكيك هوية وبناء هوية أخرى، تفكيك هوية الانتماء إلى الدولة الحقيقية وبناء هوية أخرى عبر ما يسمى بـ “المواطنة الافتراضية” داخل “الدولة الافتراضية”.
وفي مقابل هذا التطور/ الثورة ما يزال بعض الإعلاميين والمثقفين المحترمين لم يسلموا بأن هناك تحولا خطيرا ينخر المجتمع عبر تفكيك عراه وتخريب الهوية الجامعة التي يتطلبها كيان الدولة الحقيقي.
في هذا السياق، وددت أن أحكي قصة وقعت في مدينة مغربية، وكان أبطالها وضحاياها، في نفس الآن، تلاميذ في سلك الثانوي، وفي ثانوية جد محترمة لا يدخلها سوى التلاميذ النجباء، القصة حكاها لي صديق/ أستاذ/ أب/ مدرس/ والد أحد أبطال القصة، كما يُعد أيضا أحد ضحاياها.
إحدى التلميذات فتحت هاتف زميلتها التلميذة، وجدت في الهاتف مجموعة من الصور الخاصة لزميلتها صاحبة الهاتف، أحد التلاميذ كان يجلس خلف زميلته التي كانت تتملى في فيديو خاص مخبأ في حويصلة الهاتف، التقط صورة بهاتفه دون علم زميلته التلميذة، وبعد أيام انتشرت صورة للفيديو بين تلاميذ القسم، طفق بعض التلاميذ يهددون زميلتهم صاحبة الفيديو بنشر صورة للفيديو (صورة فقط وليس الفيديو)، وهكذا تأثرت التلميذة صاحبة الفيديو وشكت لوالدتها ما وقع لها داخل القسم.
أب التلميذة، وهو أستاذ، لجأ إلى الشرطة ووضع شكاية بزملاء بنته التلميذة، تأخرت الشرطة بضعة أيام، وربما كانت تجمع المعلومات من داخل المؤسسة، فحسبت والدة التلميذة بأن الشرطة لم تتفاعل مع الشكاية، فما كان منها إلا التوجه إلى وكيل الملك مباشرة، وأخبرته بأن بنتها تهدد بالانتحار.
وهكذا تفاعل وكيل الملك على وجه السرعة وطلب من الشرطة القضائية أن تتحرك في أسرع وقت.
اتصل ضابط الشرطة القضائية بجاره الأستاذ وأخبره بالنازلة، ضابط الشرطة هذا وهو شاب مثقف جديد العهد بالمدينة لا يعرف من الأساتذة سوى جاره فقط، وبما أن ابنة جاره التلميذة من أبطال القصة، طلب الأستاذ من بنته ألا تكذب على الأمن وأن تحكي القصة كاملة دون رتوش، وهذا ما وقع فعلا مع وضع الهاتف رهن مفوضية الشرطة.
ولم يكتف صديقي الأستاذ بذلك بل اتصل بآباء وأولياء التلاميذ وطلب منهم أن يتعاونوا مع الشرطة القضائية من أجل تطويق المشكل، والأستاذ هنا يتحدث من منطلق تربوي صرف.
وكيل الملك ونائبه يضغطان على الشرطة القضائية من أجل تتمة التحقيق في أسرع وقت ممكن.
اجتمع آباء وأولياء التلاميذ وحكى أبناءهم ما وقع بكل صدق وسلموا هواتفهم إلى رجال الأمن، هواتف جميعها من فصيلة “أيفون”، كان الجميع يتعاون لأجل تطويق المشكل، ولا سيما أن أغلب التلاميذ يشتغل آباءهم وأمهاتهم في قطاع التربية والتكوين!
اكتمل التحقيق، وهكذا بقي للسيد وكيل الملك أن يوجه الاتهام، وهو اتهام خطير جدا، بمعنى أن الأبناء التلاميذ إلى حدود اللحظة هم مشاريع سجناء !!
تدخل أستاذ آخر، أستاذ اللغة الفرنسية، وهو صديق وزميل سابق في الكلية ومركز تكوين الأساتذة، واجتمع الآباء، وهنا يكمن ما سميته في العنوان “الأمن التربوي” .. !!
واعتبر الجميع أن التلميذة هي بنتهم، وما حدث لها حدث لهم أيضا، (وهنا لا داعي للحديث عن قصة مؤثرة جدا).
وقع الصلح والتسامح وتم تجسيد القيم التربوية على واقع الحياة من خلال نازلة خطيرة جدا.
ويضيف صديقي كلاما مهما، وهو أن وكيل الملك ونائبه وأب التلميذة وباقي الآباء كانوا كلهم يشعرون كونهم آباء غيورين على أبنائهم، على صورة المجتمع، الجميع كان يحاول تطويق المشكل وتقديم حل تربوي، الجميع بما فيهم وكيل الملك ونائبه والأساتذة الآخرين..!!
ويسجل صديقي أن وكيل الملك ونائبه والشرطة القضائية قاموا بدورهم الوظيفي المنوط بهم، لكنهم في نهاية المطاف، وبمعية رجال التعليم، كلهم تآمروا من أجل تحقيق ما أسميه “الأمن التربوي المطلوب”.
هي قصة تحتاج إلى تنزيلها في فلم تربوي اجتماعي مجتمعي للتحسيس بالمخاطر التي تجتاح الوطن اليوم، والعالم بشكل عام.
إنها إيديولوجيا الثورة المعلوماتية التي تتغيا تفتيت الاجتماع في علاقته بكيان الدولة وصناعة اجتماع آخر عبر عملية التفكيك والتركيب، تفكيك الهوية السردية الجامعة، بتعبير بول ريكور، لتركيب هوية أخرى تتطلبها “الدولة الافتراضية”!!
لكن، نحن في أمس الحاجة أيضا إلى “الأمن الإعلامي” الذي يمنح للمواطن بشكل عام، والتلميذ على وجه الخصوص “الكفاية” المعرفية والقانونية من أجل “إنجاز” ينفع الجماعة والمجتمع والدولة.
ملحوظة هامة:
فعل تآمر يفيد المشاركة، وهو من فعل أمر، وعندما يشارك الجميع في أمر فإنهم يتآمرون، ومنه الأمر بالمعروف فإنهم يتآمرون على المعروف والخيرات. ودعك من كلمة “مؤامرة” السائرة على الألسنة وهي خاطئة لغويا على أية حال.
تعليقات الزوار ( 0 )