شارك المقال
  • تم النسخ

لمن تقرع الأجراس

كثير من الأجراس تقرع بشدة هذه الأيام، لكن يبدو أنه لا حياة لمن تنادي..

لنستحضر بداية أن “النظرة الاستباقية” هي أبرز أداة ضمنت “الاستقرار” في المغرب على مدى عقود، لأنها مكنت البلد -دائما- من تجاوز أخطر “المنعطفات” بأقل الخسائر الممكنة، لكن يبدو أن هذه الأداة تعطلت حاليا، وهناك عدة مؤشرات..

المؤشر الأول، يمكن استجلاؤه من الحرب الطاحنة الدائرة حاليا بين بعض “الإعلاميين” عبر مواقعهم الإخبارية أو قنواتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.

فأنا شخصيا أعجز في كثير من الأحيان، وأنا أتابع فصول هذا التطاحن، عن فهم الرسائل التي يريد البعض إيصالها ولمن.

وأظن أن كثيرين سجلوا هذه الملاحظة، لأنه يصعب على أي متابع فك شفرة الألغاز التي يتبادلها هؤلاء، والتي توحي بأنها موجهة إلى جهة ما، من طرف جهة ما، وأن “الإعلامي” أو “اليتوبرز” أو “صانع المحتوى” ليس سوى ساعي بريد أو “كاري حنكُه” كما يقول المغاربة.

بعيدا عن مساءلة هؤلاء، عن مبرر قبولهم بأداء هذه المهمة “القذرة” التي تدر عليهم الكثير حتما، الخطير هو حقيقة هوية هذه الجهات التي تأكل الثوم بأفواههم، حتى ليخيل للمتابع بأننا أمام حرب “مواقع” وأن المتصارعين بصدد تسييج حدود نفوذهم، ضمن ما يمكن أن نسميه مجازا “صراع مراكز القوة” التي تتمدد في فراغ يتسع يوما بعد يوم.

أما المؤشر الثاني، فيتمثل في المستوى الذي بلغه الفساد في هذه اللحظة الفارقة، وآخر مثال على ذلك إنفاق مدير وكالة بنكية بتطوان عشرة ملايير اختلسها، من أموال زبناء وكالته على موائد القمار في كازينوهات طنجة دون أن يكتشف أمره أحد، فأحرى أن تتم محاسبته.

إن هذا مجرد نموذج لـ”تسونامي” الفساد الذي أصبحنا نتابع أخباره وكأن الأمر يتعلق بدولة “فاشلة”.. كل شيء فيها قابل للنهب، في ظل تعطل آليات المراقبة والمحاسبة.. ولا أدل على ذلك من “قضية” مصطفى الباكوري، الذي سمع الجميع أنه منع من السفر قبل شهور، بسبب “شبهات فساد”، لكن لم يتم حتى الآن الكشف عن وضعه، هل هو مذنب أم بريء؟ وهل “ملفه” قيد التحقيق، أم أنها مجرد إشاعة تدخل في إطار صراعات “مراكز القوة”؟

وهذا طبعا دون التوقف عند ملف “إيسكوبار الصحراء”.. الذي يكفي وحده مؤشرا على أن الفساد بلغ معدلات قياسية غير مسبوقة..

المؤشر الثالث، تجسده بشكل واضح خرجات بعض “المسؤولين” الذين يوحون فعلا بأننا في لحظة فراغ، وأنه لم يعد هناك “ضابط إيقاع” يقود “الأوركسترا”، بل إن كل عازف يغني على ليلاه، حتى أصبحنا أمام ضجة صاخبة، لا تحترم اللحن الذي من المفترض عزفه.

أبرز مثال على ذلك، خرجات وزير العدل الذي يحدث ضجة في كل مرة يدلي فيها بـ”رأيه” حيث لا يستطيع أحد التمييز بين ما هو مقصود وبين ما هو “زلات لسان”، خاصة عندما يصل الأمر إلى اقتحام “المجال المحفوظ” الذي أخرج دائما، بعض “المسائل” من حلبة التداول “المفتوح”، لصلتها الوثيقة بـ”الاستقرار”.

أما المؤشر الرابع، فيمثل في الهجمة الشرسة على بعض “الثوابت”، والتي يكفي كمثال معبر عنها، “الكائنات الفضائية” التي تمول من المال العام وتخصص لها مساحة واسعة في قناة عمومية من أجل تكوين جيل “ضائع” فاقد لأية مرجعية، عبر تشجيع الفن “الزنقوي”، دون مراعاة خطورة هذا “النموذج” الذي أحيل كثير من “نجومه” مؤخرا على السجون بسبب التحريض على كثير من الجرائم..
إن المفروض في الإعلام العمومي، مواجهة زحف الرداءة لا تشجيعها، لكن كل شيء مقلوب في بلد الاستثناءات..

أما المؤشر الخامس، فله ارتباط بجحافل الشباب التي تعيش على الهامش، ولا يبدو أنها تشغل ولو حيزا يسيرا في تفكير صناع القرار.

والعجيب أكثر أن الأرقام الصادمة التي كشف عنها تقرير أخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، لم تثر أي رد فعل غير التشكيك فيها والادعاء بأنها مبالغ فيها، رغم أن أي متابع منصف ليس في حاجة إلى تقارير مؤسسة دستورية للوقوف على حقائق الواقع.

الخطير في الأمر، هو الاستخفاف الذي يتعامل به صناع القرار، رغم تواتر مؤشرات الانفجار الاجتماعي، حيث ارتفاع معدلات البطالة، ولهيب الأسعار، وانهيار القدرة الشرائية، وفشل كثير من الأوراش ذات الصلة بالأمن الغذائي، وإفلاس آلاف المقاولات، واتساع الفروق المجالية والطبقية، وغياب أية بارقة تغيير في الأفق، فضلا عن انحدار الخطاب السياسي إلى لغة السماسرة والمضاربين..

أما المؤشر السادس، فيتمثل في انقطاع صناع القرار عن الواقع، ولا أحد يستطيع تفسير هذا الانقطاع، هل هو مجرد دليل إضافي على “موت السياسة” بعد زحف “التجار” على كل شيء، أم أنه مبني على “موت الشعب”، الذي أصبح يعيش في عوالم افتراضية أو موازية، وفقد القدرة على الرفض والاحتجاج.

تحت هذا المؤشر، يمكن أن نشير على سبيل المثال، إلى مفارقة استمرار معاناة ضحايا زلزال الحوز، بعد تبخر كل الوصلات الإشهارية التي سوقت لكثير من الأوهام، وفي نفس الوقت الإنفاق بسخاء كبير على بعض “الفعاليات” التي تنطبق عليها مقولة “العكر فوق الخنونة”.. وإلا فكيف يقبل “عقل الدولة” أن يعيش ضحايا الزلزال في العراء طيلة شهور، حتى دون التوقف عند حالات “الاتجار بالبشر” التي تفجرت مؤخرا، بينما تُنفَق الملايير على تزيين “الواجهة”؟ وأية دولة يمكن أن تجعل “الترفيه” أولوية تسبق حتى ضمان الحد الأدنى من شروط العيش الكريم لآلاف من المنكوبين.. علما أن المغرب لا يملك أموال السعودية؟
أما المؤشر السابع والأخير الذي أتوقف عنده، فيتعلق بـ”فعلة” وزيرة الطاقة..

بداية لا علاقة للحياة الشخصية بهذه الفضيحة، كما روج البعض، فنحن أمام “شخصية عامة” كل خطوة مسحوبة عليها، ثم إن الأمر يتعلق بفعل فاضح في مكان عام، ولنستحضر فقط الضجة التي افتعلها البعض عندما كشفت نائبة عدالية سابقة عن ساقيها في باريس، وخلعت غطاء رأسها “مؤقتا”، لماذا لم نسمع يومها عن “الحياة الخاصة”، والحال أننا اليوم أمام وزيرة على رأس مهامها، وتشوب “علاقتها” المفترضة مع “شريكها” رجل الأعمال الاسترالي شبهات كثيرة حول تضارب المصالح؟

ثم إنه لحد الآن، لم يصدر عن المعنية بالأمر، أي تكذيب أو توضيح، باستثناء ما نقل عنها من أنها م”ستهدفة” ربما في انتظار أن يخرج وزير العدل، زميلها في الحزب والحكومة، للحديث عن شرعية “العلاقات الرضائية” في باركينغ باريسي..
إن هذه المؤشرات، وهي مجرد غيض من فيض، تؤكد أن المغرب دخل -ربما- منعطفا غير مسبوق في تاريخه، حيث إننا أمام حالة من الفوضى غير الخلاقة، التي يصعب التكهن بما قد تقود أو تؤول إليه..

الغريب في الأمر أن “عقل الدولة” فقد قدرته على الاستباق والاستشراف، بل يبدو أن هناك “تطبيعا” مع بوادر “الانفجار الكبير” القادم لا محالة.

إن تصديق البعض بأن المغرب دخل فعلا نادي الأمم العظمى، وأنه أصبح منافسا لقوى دولية، هو دليل على السذاجة وربما “السفه”.

فالأمم العظمى لا تبنى على مواقع التواصل الاجتماعي، أو على يد الذباب الإلكتروني، بل لابد لها من رؤية واضحة، ومؤسسات فاعلة، وكل ذلك في إطار سيادة القانون، واحترام المواطن.. وهو ما يبدو غائبا لحد الساعة..

أخطر اللحظات في تاريخ الأمم والشعوب، هي تلك التي يعيش فيها صناع القرار في واقع افتراضي من صنع “المؤثرين” .. الذين أصبح لهم -كفئران مراكش ذات مجاعة- شأن كبير..

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي