نعود إلى طرح هذا السؤال والجزائر تحتفل بالربيع الأمازيغي – 20 إبريل/نيسان 1980- الذي عبّر عن نجاح هذه النخبة القبائلية في طرح المسألة الثقافية الأمازيغية بكل عمقها الشعبي، في زمن الغلق والحزب الواحد، خلال عقدين فقط بعد استقلال البلاد، طرح أخذ شكل حركة اجتماعية وسياسية شعبية، لم تعرفها الجزائر، ولا كل المنطقة المغاربية، في السابق، أخذت شكل إضراب عام مسّ كل منطقة القبائل، وجزءاً من المدن الكبرى كالعاصمة التي عرفت تاريخيا بعمقها السوسيولوجي الأمازيغي. إضراب عام انطلق مباشرة بعد منع محاضرة لمولود معمري كانت مبرمجة في جامعة تيزي وزو، حديثة النشأة، عن الشعر الأمازيغي، بكل الحمولة الرمزية التي يطرحها هذا المنع لمحاضرة شاعر وباحث في الأنثروبولوجيا، داخل الحرم الجامعي، عن الشعر الأمازيغي.
إضرابات تميزت بشمولية كبيرة، شارك فيها الطالب والفلاح والتاجر والعامل والبطال، المرأة والرجل، نجحت من خلاله هذه النخبة العصرية والشابة، التي تبنت المسألة الأمازيغية، في إعطائها بعدا شعبيا واضحا، اختلف عما عرفت به حتى الآن، مقارنة على الأقل بما حصل في عام 1949 عندما طرحت بعض عناصر النخبة قليلة العدد، من أبناء منطقة القبائل، قضية تحديد هوية الجزائر والجزائريين، في عز صعود الحركة الوطنية، اقترحت فيها الاعتراف بالعمق الأمازيغي، اعتمادا على ما كان يميز أبناء منطقة القبائل من حضور بين جزائري المهجر. فقد عرفت منطقة القبائل الفقيرة والمكتظة ديموغرافيا بهجرة بشرية مبكرة إلى فرنسا، والكثير من المدن الجزائرية جعلها لا تستفيد فقط في المجال الاقتصادي كمنطقة ريفية فقيرة، بل كذلك من التعليم والانفتاح على روح العصر، لنكون بذلك امام أولى المفارقات، نخبة من أصول ريفية فقيرة، بانفتاح فكري وسياسي كبير، واستفادة عالية من التعليم، مقارنة بأبناء مناطق الجزائر الأخرى، بمن فيهم أبناء المدن بحالتها الكولونيالية المعروفة في الجزائر. استفادة كان قد بدأها أبناء المنطقة، في وقت مبكر، من المدرسة الفرنسية، مباشرة بعد دخول الاستعمار الفرنسي للجزائر، داخل منطقتهم، التي ميزتها الإدارة الاستعمارية إيجابيا، عن بقية المناطق الجزائرية الأخرى لأسباب متعلقة باستراتيجية استعمارية، لم تدرك النجاح الذي بحثت عنه، كما كان الأمر مع محاولات التمسيح الفاشلة، وهي تستغل السنوات العجاف التي عاشتها المنطقة اقتصاديا، بما عرفته من مجاعة وأوبئة، استفادة أخرى من المدرسة والنجاح الاقتصادي لأبناء المنطقة كانت في المدن الكبرى والعاصمة تحديدا، التي عرفت هجرة كبيرة لأبنائها لقربها الجغرافي وعلاقاتها التقليدية مع المنطقة، تعويضا عن القرب السوسيولوجي الغائب في هذا الحالة الفقيرة.
نحن إذن أمام نخبة ريفية فقيرة، عرفت استفادة مبكرة من كل نوع، عن طريق التعليم والتجارة والعمل الصناعي والإداري لاحقا، حوّل أبناء المنطقة إلى رافد مهم واساسي في تكوين نخبة الجزائر الحديثة، عبرت عن نفسها بداية من الحركة الوطنية التي تميزت بمشاركة نوعية، وكمية لأبناء الجهة داخلها، الشيء نفسه الذي استمر مع حرب التحرير، بما ميزها من حضور لأبناء المنطقة داخل كل أصناف النخب، سواء تعلق الأمر بالنخبة العسكرية منها، أو السياسية والفكرية والفنية، وهي تنتج عقيد جيش التحرير والمناضل السياسي والشاعر والفنان، كما برز مع أسماء فنية مشهورة، من أبناء المنطقة كالمغني إيدير الذي تحول إلى أيقونة فنية أمازيغية، لكل الشمال الافريقي. حضور لأبناء المنطقة عبّر عن نفسه من خلال هذه النخب المتنوعة بكل أطيافها، لم يجلب لها الإعجاب فقط والمنافسة، بل جلب معه كذلك الريبة والشك من هيمنة يراها البعض، في كل مكان، في الإدارة والثكنة والجامعة والإعلام، لأبناء هذه «الأقلية المتنمرة» التي استفادت أكثر من حجمها على حساب نخب وجهات أخرى، حاولت قوى سياسية منافسة تضخيم وجودها ومنحها نوايا سيئة، أقلها أنها جهوية لا تخدم إلا مصالح «دشرتها» إذا لم تُتهم مباشرة بالعمل على تقسيم البلد والتحول إلى «حزب فرنسا» عند البعض، هي التي قادت جزء مهم من حرب التحرير والدفاع عن استقلال البلد الذي دفعت ثمنا غاليا له.
إنتاج نخبوي كبير ومتنوع لهذه المنطقة الجغرافية من الجزائر، جعلها تنجح في الدفاع عن المطلب الأمازيغي بشكل لافت، ليس على الساحة الجزائرية فقط، بل مغاربيا كذلك، تحولت إلى قاطرة له، حتى وهي تُنتقد بسبب خياراتها العلمانية والفكرية الأخرى، كتلك المتعلقة بكتابة اللغة الأمازيغية بالحرف اللاتيني الذي لم يجد القبول من كل النخب المغاربية الأخرى، التي لم تعرف المسار التاريخي والفكري نفسه، داخل حالة أمازيغية متنوعة، ليس بين حالة وطنية وأخرى، بل داخل كل حالة وطنية، ما يفترض القبول بتعدد الحلول والسيناريوهات، على المستويين المتوسط والطويل، وليس القصير فقط الذي تراهن عليه النخبة القبائلية وهي تشعر بالهيمنة، داخل الحالة الجزائرية والمغاربية، بفعل تأثير قوة نخبتها،
حالة أمازيغية وطنية ارتكزت على مستويات اندماج عالية، ميزت أبناء منطقة القبائل، مثل غيرهم من أبناء المناطق الأمازيغية الأخرى داخل النسيج الاجتماعي الوطني، تجعلهم بعيدين عن شعور «الأقلية» والطرح العرقي الذي نجده حاضرا لدى أبناء بعض المناطق المتميزة ثقافيا ولغويا في المنطقة العربية، التي يمكن أن يقدم لها النموذج الأمازيغي حلا إيجابيا لتنوعها وتعددها، لم تنجح دائما في تسييره للزيادة في اللحمة الوطنية والخروج بأقل التكاليف من مرحلة الاضطراب المستعصية التي تعيشها، والتي يمكن أن تؤدي إلى تفكيك كياناتها الوطنية ودولها،
حالة امازيغية جزائرية، تقول الكثير من المؤشرات أنها في الطريق الصحيح لبناء أمة، يغلب عليها التجانس ليس اعتمادا على حضور دور النخب فقط، بل كنسيج مجتمعي، اعتمادا على ما خفي واستغل من أسفل، من أواصر مجتمعية، بحمولتها العاطفية والإنسانية، مثل الزواج والعائلة وكل شروط بناء الأمة الاخرى، كما حصل في التجارب الدولية الناجحة، إنه مشروع يمكن أن يدعمه البناء المغاربي، بعد الوطني، إذا عرف كيف يعود أبناء المنطقة من الأجيال الجديدة إلى هذا المشروع الذي أهملته النخب الرسمية بعد الاستقلال.
تعليقات الزوار ( 0 )