لا أحد ينكر أن معظم سكان الأرض يفضلون العيش بالدول المتقدمة ذات الأنظمة العَلمانية، التي يتمتع مواطنيها بحقوق متساوية في شتى المناحي، وكذلك الأمر بالنسبة للواجبات. وهي بذلك لا تنحز لفئة على حساب فئات أخرى، سواء أكانت دينية أم أيديولوجية أم عرقية (مع وجود بعض الاستثناءات)، لكن أهم ما يُميزها هو استبعادها للدين في تسيير الشؤون العامة، باعتبار المشروع النهضوي للدول الغربية انبنى على هذه الركيزة في القرون السابقة؛ وحدث ذلك حينما تم تجاوز الكنيسة في أداء هذه المهمة، بعدما انكشف أمرها أنها كانت السبب الرئيس لكبح التقدم.
ولَما تحقق النجاح بفضل ذلك، أصبحت هذه الدول قدوة لأمم أخرى أو الأحرى لدول أخرى؛ بمعنى أصبحت هناك قاعدة لا تقبل التأويل ولا الاجتهاد مفادها: “لا نهضة بدون إقصاء الدين”، وصار على هذا النهج مجموعة من الدول العربية ودول شمال إفريقيا ذات الأغلبية المسلمة، مما سيجعل الإسلام هو المتهم الرئيس؛ وعليه يجب تجاوزه. ولذلك، نجد هذه الدول لما يُقارب قرن من الزمن وهي متخبطة ساعية إلى تحقيق طموحها، ولكن هل تحققت أيّ إنجازات يمكن الافتخار بها كما شأن أمم/دول القدوة ؟؟؟
أكيد لا، وهذا اعتراف ليس صادر فقط عن غير المقتنعين بالنموذج العَلماني، وإنما كذلك إقرار من زعماء هذا النموذج أنفسهم بل هم الأكثر اشتكاءً من غيرهم. وهنا يُطرح السؤال: في ما يتجلى الخلل؟ فحسب تقديري المتواضع الإخفاق يكمن في عقيلة من يتبنى تطبيق هذا النموذج بهاته الدول، ولا يستدعي المقام هنا لنناقش مسألة فصل الدين عن الحكم، لأن الأمر قد حُسم من قبل، بحيث معظم الدول المعنية لا تعتمد في تدبيرها للشأن العام على الشريعة الإسلامية كي يكون هناك ادعاء بهذا الخصوص، في ما عدا بعض الأمور الطفيفة، كما هو الشأن للإرث وتقييد بعض الحريات الفردية عندنا بالمغرب التي قد نقول عنها أنها أمور تخضع للهوية الإسلامية. زد على ذلك، أن معظم حكام هذه الدول هم عَلمانيون بما فيهم رجالات الدولة العميقة، وحتى إن قال قائل، أن هناك صعود للإسلاميين ببعض هاته الدول، فلا يمكن لأي عاقل إلا أن يرُدّ بأن هؤلاء بعد وصولهم للحكم قد تفوقوا على من سبقهم في ترجمة العَلمانية على أرض الواقع، أو بتعبير آخر كانوا هم الأكثر إجراءً لها بدل كثرة الحديث عنها (نموذج الحزب الإسلامي العدالة والتنمية بالمغرب).
أهمّ ما يجعل زعماء العَلمانية بالدول التي نتحدث عنها، متقهقرون ومتخبطون بأماكنهم، هو عقدة الدين والمتدينين، التي أنستهم خارطة الوصول إلى تحقيق هدفهم، والذي يفهمه العامة هو خلق الرخاء الاقتصادي وتقوية سيادة الدولة والرقي بوزنها العالمي ثم التمتع بالحريات الفردية أسوةً بما يرونه بالدول المتقدمة العَلمانية، وليس تعكيس ترتيب هذه الأولويات. إذ على أساس ذلك قد ينجحوا في استيراد محاسن هذه العَلمانية، بدل السبق إلى جلب مساوئها التي تشكل إكراهات حتى للدول التي تعتمد العَلمانية؛ إلا أنه بحكم منطق الحرية -الذي هو جوهرها- يحرمها من محاربتها، لذلك نجد هذه الدول تتصدى لها -مساوئ العَلمانية- بالتوعية غير المباشرة، لأنه كلما كثر الانحلال الأخلاقي في مجتمع ما إلا ودنت مردوديته فينعكس ذلك سلبا على تقدم الدولة.
ولماذا القول إن مشكلتهم تتلخص في عقدة الدين؟ لكونهم حينما يسعون إلى تطبيق النموذج العَلماني يختصرونه في ضرورة فصل الدين عن السلطة، ناسين أو متناسين بأن هذا الفصل يشمل فقط جانب توظيف الدين في السلطة ولا يعني فصل الدين عن الأشخاص، بمعنى النظام العَلماني لا يمنع أن يكون للمجتمع عقائد دينية، كما لا يمنع أن يكون المسؤول الحكومي متدين لنفسه دون ترجمة ذلك في قرارته السياسية.
وفي هذا الصدد، يمكن أن نضرب مثالين، أحدهما للدولة التركية العَلمانية الصرفة التي حققت نجاحا باهرا على المستوى الاقتصادي والتموقع الجيو-سياسي العالميين، لكن تبدو في نظر الكثيرين -ليس فقط للعَلمانيين بل كذلك لأفراد آخرين- أنها دولة إسلامية أو كما يحلو تسميتها من قِبل البعض “دولة خوانجية”، وليس لها هذا النعت سوى أن الحزب الذي يتزعم حكومتها له مرجعية إسلامية على الرغم من أن أثر التدين لا يظهر على جهاز الدولة كما سبق ذكر ذلك. فإن كانت تركيا دولة تنتهك بعض الحقوق كما غيرها من العديد من الدول، فينبغي محاسبتها من جوانب أخرى وليس بإقحام الدين في ذلك. لأنه بسلخهم للنموذج العَلماني التركي فهو سلخ لفكر العَلمانية من حيث لا يشعرون، وبالتالي يُظهرون بأن الأولويات التي يطمحون إلى تحقيقها بدولهم لا تعدو أن تكون سوى بسيطة (حريات فردية) والتي لا يمكن أن تتحقق أبدا ما دام ليس هناك نهضة اقتصادية.
أما المثال الثاني فيمكن أن نسوقه عن التوأمين الخليجيين المثيران للجدل، محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، الحاكمان الفعليان لدولتي السعودية والإمارات وإن كانوا مجرد أولياء للعهد. فالاثنان يحملان مشروع الحداثة لبلديهما أي تبني النموذج العَلماني، لكن المساكين فشلوا في التخطيط لذلك بطرق ناجعة من أجل تمعقل بلوغ مرمى هدفهم إن كان هو فعلا هدف صحيح. فقد انشغلوا بمحاربة الإسلاميين أينما كانوا (بالخليج العربي وبشمال إفريقيا وبدول جنوب الصحراء وبأوربا الخ)، سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة، واعتبروا ذلك الخطوة الأولى لبلورة مشروعهم العَلماني، متناسين في ذلك أن هذا المشروع يستلزم حفظ حقوق هؤلاء وغيرهم؛ وعليه سيكونون قد وأدوا هذا المشروع في مهده؛ وما الحال الذي وصلوه اليوم إلا برهان بقرب تخريب بلديهما بأيديهما، خاصة بعدما أصبحا ملاذا للابتزاز المالي من طرف القوى العظمى، علاوة على مشكل تسويق النفط الذي يشكل عصب اقتصاد دولهما.
وتنضاف ضالة أخرى للزعماء العلمانيين -الحاكمين وغيرهم-، هي التمجيد لبعض الانقلابات العسكرية على الشرعية؛ ولم يكن ليصدر منهم ذلك الفعل سوى لأن صناديق الاقتراع أفرزت حاكما له أيديولوجية إسلامية؛ فعجزوا أن يحترموا الديمقراطية التي هي إحدى مرتكزات العَلمانية. هذا وقد سارعوا قبل ذلك إلى إطلاق الأحكام المطلقة بينما أخفقوا عن تعبئة الشارع لخوض ثورة مضادة نقية التي كان بإمكانها أن تولِد من يستحق الحكم مهما كانت أيديولوجياته.
ما أود أن أختم به، هو القول بأن الدين، لقد أُبعِد من ساحة تدبير الشأن العام بهذه الدول، منذ مدة، ومن ثمّ لم يعد ليكون ذريعة لتعليق الفشل عليه. ولكن ما أراه، سيظل علمانيو هاته الدول على حالهم ولن يعترفوا يوما ما بأنهم هم الفاشلون؛ ربما لأنهم لم يُحسِنوا استيراد النموذج العَلماني من الخارج، أو لأنهم سقطوا في النقل بدل الاجتهاد لأن الخصوصيات قد تكون مختلفة، أو لأنهم مجرد مصلحيين لا يهمهم سوى الرقي بأوضاعهم الخاصة كما يشهد على ذلك مسار محاولة تطبيق هذا النموذج دائما بهاته الدول.
تعليقات الزوار ( 0 )