دفاعا عن الجامعة المغربية
في سنة 2017 نشرت جريدة الغارديان تحقيقا حول التحرش الجنسي في الجامعات البريطانية، ووصفت الظاهرة بأنها وصلت لمرحلة “الوباء”، بالنظر للشكايات الكثيرة التي قدّمت من قبل الطلاب ضد أساتذة وموظفي الجامعات، وقد نشرت الجريدة مقالا قبل أيام يحذر من استمرار الظاهرة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وبحسب تقرير للرابطة الأمريكية للجامعيات سنة 2006، فقد أبلغ 62% من طالبات الجامعة، و61% من طلابها عن تعرضهم للتحرش الجنسي (وفق التعريف الأمريكي للتحرش)، وهو ما يؤكد مدى انتشار الظاهرة في دول تصنف جامعات كأفضل الجامعات الدولية.
لكن بالرغم من انتشار ظاهرة التحرش الجنسي بتلك الجامعات الغربية، إلا أن تلك الجامعات ما زالت تحظى بالقبول، بل ويتسابق الطلاب وعائلتهم من داخل تلك الدول وخارجها على إيجاد مقعد للدراسة داخلها، وما تزال تلك الجامعات تشكل مصدر قوة الولايات المتحدة وبريطانيا في ميدان البحث العلمي وتحقيق الريادة في مختلف المجالات العلمية. وبالرغم من الأرقام الكبيرة لظاهرة التحرش الجنسي، وهو أمر يعبر عن أزمة ضاربة في تلك المجتمعات (اعتداء جنسي كل 98 ثانية في أمريكا مثلا)، إلا أن المجتمعات هناك ما تزال تمنح الجامعة مكانة مرموقة جدا.
في المغرب وبعد ظهور حالات لقضايا متعلقة بالتحرش الجنسي والاستغلال الجنسي لطالبات تحول النقاش نحو نقاش هدام يشيطن الجامعة ويصورها وكأنها وكر للدعاة وماخور للفساد.
الغريب حقا هو هذا التهويل الإعلامي للملف والذي كان له وقع جد سلبي على نظرة فئات واسعة من المجتمع للجامعة المغربية، خصوصا مع دخول بعض الجمعيات على الملف وإدانتها للمتهمين قبل أن يقول القضاء كلمته. وحتى أبجديات القانون وحقوق الأفراد التي أقرها الدستور والقانون تتعرض للانتهاك، وعلى رأسها قرينة البراءة، كأحد الحقوق الأساسية التي أقرها الدستور (الفصل 23)، وأقرتها منظومة القانون الجنائي في المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية، وأقرتها مجموعة من اتفاقيات الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
لقد قامت الأجهزة الأمنية بدورها وحققت في الملف، وقامت النيابة العامة بدورها بتكييف الوقائع بين جنح وجنايات، والأمر معروض حاليا على قضاء الموضوع للفصل في الأمر، وهو المخول الوحيد في إدانة المتهمين أو تبرئتهم، ولا يحق لطرف آخر أن يحل محل القضاء في الفصل في الوقائع.
لسنا هنا لندافع عن أحد، بل إن ثبوت جرائم التحرش والاستغلال الجنسي يتطلب توقيع أقصى الجزاءات بحق المذنبين، لكننا هنا لندافع عن سمعة الجامعة المغربية التي تتعرض لحملة شيطنة غير مسبوقة، ودفاعا عن آلاف الأساتذة وملايين الطلبة الذين مروا من الجامعة وتخرجوا منها.
إنه دفاع عن آخر فضاء مفتوح أمام أبناء الشعب المغربي للتحصيل المعرفي والترقي الاجتماعي، دفاع عن فضاء خرّج مئات الآلاف من الأطر في مختلف الميادين منذ حصول المغرب على استقلاله.
إنه دفاع عن جامعات خرّجت مفكرين وأكاديميين كبار في مختلف المجالات، ويكفي الرجوع لمقابلة المفكر وائل حلاق في قناة الجزيرة لكي نستوعب ما قدمته الجامعة المغربية حين أشار لثلاثة مفكرين مغاربة (طه عبد الرحمان، والعروي، والجابري) من جملة عدد قليل من المفكرين الذين أشار إليهم في المقابلة.
إن شيطنة الجامعة هي تشويه لصورتها داخليا وخارجيا، ونزع المصداقية عن شواهدها، ومعاقبة ملايين الطلبة وآلاف الأساتذة بجريرة بعض الحالات المعزولة التي لم يقل القضاء كلمته بعد بخصوصها.
سيكون من السذاجة والوهم نفي وجود التحرش الجنسي في الجامعة، فهذه الأخيرة جزء من المجتمع، مثلها مثل بقية الفضاءات العمومية والخاصة، التي تحدث بها ظاهرة التحرش الجنسي كما تحدث في المجتمع، كما هو الحال بالنسبة للجامعات الغربية التي هي جزء من المجتمع هناك. وسيكون من السذاجة والوهم نفي وجود الفساد المالي والإداري في الجامعة، ونفي وجود أزمة بنيوية في الجامعة.
لكن معالجة تلك الاختلالات لا يجب أن يتم على حساب صورة الجامعة لدى المجتمع، وتصوير الأساتذة بمظهر المكبوتين جنسيا واللاهثين وراء الشهوات الجنسية، ووضعهم في حالة خوف وشبهة أمام المجتمع، لدرجة قد تدفع بعضهم لإخفاء حقيقة وظيفته، ودفعهم للقيام بوظيفة التدريس كآلات جامدة وقطع أي صلة مع الطلاب. وبالتالي تخويف جزء كبير من المجتمع من الجامعة وتخويف العائلات من دفع أبنائها لاستكمال مسارهم العلمي بالجامعة، والنتيجة تكون إما التوجه نحو المعاهد الخاصة أو التوقف عن التحصيل العلمي لكون الغالبية الساحقة من رواد الجامعة المغربية هم أبناء الطبقات المتوسطة والطبقات الفقيرة. فإصلاح أعطاب الجامعة لا ينبغي أن يتم عبر هدمها.
إن ملف التحرش والاستغلال الجنسي معروض على القضاء، وهو الذي سيفصل بالملف إما بتثبيت الاتهامات أو نفيها طبقا لما سيتوفر له من مستندات وأدلة، وهو ملف ينبغي أن يبقى في هذا الإطار. مع ضرورة التفكير في آليات تحد من أي إمكانية لوقوع التحرش أو الاستغلال الجنسي، وهذا لن يتم إلا في إطار معالجة الأزمة البنيوية للجامعة المغربية بتجاوز المقاربات التي أبانت عن فشلها.
*باحث في الدراسات السياسية والدولية
تعليقات الزوار ( 0 )