قدم المغرب نموذجا مشرفا في تدبير أزمة كورونا، لاسيما فيما يتعلق بالمجهودات المبذولة والإجراءات الصحية المتخذة، والمتمثلة في اعتماد مقاربات متعددة، حسب سياقات ومراحل تدبير هذه الأزمة العالمية، حيث اتخذ المغرب في بدايتها المقاربة الوقائية (الحجر الصحي)، ثم تلتها المقاربة العلاجية (البروتوكول الدوائي) للتخفيف من آثار الفيروس على صحة المصابين، لتصل بلادنا إلى مقاربة التطعيم المتمثلة في توفير اللقاح الآمن والفعال لاكتساب المواطنين للمناعة الكافية والضرورية لمقاومة هذا الفيروس اللعين، فحسب منظمة الصحة العالمية فاللقاح هو مستحضر يعطى لحث المناعة ضد مرض معين عن طريق تحفيز إنتاج مضادات الأجسام.
إن تمكن بلادنا من بلوغ هذه المرحلة المهمة في تدبير أزمة من حجم جائحة، يعد بحق مفخرة نعتز بها، ومؤشر دال على اليقظة والحرص الدائبين لحسن التدبير وللنظرة الاستباقية في معالجة هذه الأزمة العالمية، وما أعقب ذلك من عقد المغرب لعدة اتفاقيات وشراكات لتوفير اللقاح، وما يتطلب ذلك من حنكة في الاختيار وتوفير للبنيات الضرورية للحفظ والتخزين. لنصل إلى مرحلة الشروع في إعطاء الضوء الأخضر من طرف السلطات لبداية حملة التطعيم والتلقيح.
إن عملية تطوير وإنتاج أي لقاح تعد عملية معقدة وطويلة، وتمتاز بتنوع طرق الإنتاج والتطوير، فطريقة استخراج الأحماض النووية لإنتاج اللقاح تعتبر من الطرق المعروفة والمتداولة، وإن كانت حديثة، فهي تعد طريقة واعدة للوقاية أو العلاج من مجموعة من الأمراض المعدية والسرطانية، حيث لجأت العديد من المختبرات العلمية الرائدة دوليا إلى اعتماد هذا النهج في السنوات الأخيرة، بعد التقدم الذي عرفه العالم في البحث العلمي والفهم الأفضل لكيفية عمل جهاز المناعة البشري.
تعتمد اللقاحات على الحمض النووي معتمدة على جزيئتي ADN ( الحمض النووي الريبوزي ناقص الأوكسجين) و ARN (الحمض النووي الريبوزي) والتي عند حقنها للفرد، تسمح بتركيب البروتين المناعي فيعطي استجابة مناعاتية. ويكمن الاختلاف بين لقاحي ADN و ARN في الحيز الخلوي وفي طريقة إنتاجهما إلى أن يصل إلى الجزيئات لتكون نشيطة، بحيث نجد أن لقاحات ADN تتكون من “بلاسميد” دائري مغلق، يحتوي على الجين المشفر الذي يعبر على بروتين مناعي وتتحكم في تعبيره بواسطة محفز قوي. وقد كان هذا النمط من اللقاحات موضوع عديد من الدراسات والأبحاث في مجلات مختلفة بهدف التوصل إلى لقاحات تقي وتحد من مجموعة من الأمراض المعدية.
بالنسبة للقاحات ARN فان عملية إنتاجه تتخذ خطوة إضافية مقارنة مع لقاح ADN، بحيث إن لقاح ARN تستخدم فيه مجموعة من الجزئيات الخاصة ويتم تطويره بطريقة مختلفة بالمقارنة مع لقاح .ADN ومع ذلك فإن تطوير هذا الجيل الجديد من اللقاحات (ADN، ARN) كان ولا يزال في مقدمة الأبحاث العلمية بحكم أن العالم يعرف ظهور فيروسات جديدة.
إن مناعة الجسم البشري -سواء كانت مناعة طبيعية أو مناعة مكتسبة عبر التطعيم- هي قدرة الجسم على الدفاع عن نفسه ضد المواد الغريبة باستجابة مناعته الذاتية، والفرق بين المناعتين كبير من الناحية العلمية، لكن يبقى الفرق المهم بينهما هو أن المناعة الطبيعية تؤدي في النهاية إلى ظهور المرض في غالبية الأحيان، أما المناعة المكتسبة فقد تحول دون ظهور المرض أو تخفف من تداعياته ومضاعفاته على الصحة، بالإضافة إلى أن المناعة المكتسبة -على عكس المناعة الطبيعية- تتميز بالذاكرة والخصوصية المناعاتية، وهي الآلية التي تستند إليها خاصية اشتغال التطعيم في الجسم البشري.
بصفة عامة تبقى الآثار الجانبية للقاحات طفيفة ويسيرة للغاية، والأكثر شيوعا هي الإصابة بحمى خفيفة مع تهيج وألم خفيف واحمرار في منطقة الحقن، عادة ما تختفي هذه الأعراض الجانبية في غضون يوم أو يومين، أما بالنسبة للأعراض الأشد فهي قليلة إلى نادرة الحدوث، بنسبة شخص من بين مليون شخص، كما أن هذه الأعراض يمكن علاجها والسيطرة عليها.
إن المقاربة المعتمدة على التطعيم من أجل الحد من مجموعة من الأمراض والأوبئة تعد مقاربة معتمدة وفعالة وآمنة، وهذا راجع إلى أن الأبحاث في مجال اللقاحات بدأت منذ زمان طويل، حيث إن العالم يعرف 28 لقاحا مطورا أثبتت نجاعتها وصلاحيتها فيما طورت وأنتجت من أجله. ومع تمكن مجموعة من المختبرات العالمية-والتي تعاقد المغرب مع بعضها – من تطوير لقاح لكوفيد19، سيصل العالم إلى عدد 29 لقاحا مطورا.
وقد يتساءل البعض عن سر هذه السرعة والتفوق في تطوير وإيجاد لقاح فعال لجائحة كورونا التي سببها فيروس كوفيد 19، ولماذا يعجز العلم لحد الآن عن توفير لقاح مماثل لأمراض وفيروسات معدية تؤرق البشرية كداء السيدا مثلا، فالجواب بسيط للغاية، فمن الناحية العلمية هناك فرق وتمايز كبيرين بين الفيروسات، فمثلا من ناحية التركيبة الجينية، نجد اختلافا ظاهرا بين الفيروسات في طبيعة الشفرة الجينية، وتباينا بينهما في شكل غلاف البروتين الذي يغلف الجينوم. أما من ناحية طريقة العدوى، ففي حالة فيروس كوفيد19 الذي صنف كجائحة عالمية فقد اتسم بسرعته الكبيرة والمهولة في الانتشار في سائر أرجاء المعمورة، وكذا صعوبة التقيد بالإجراءات الوقائية لتفادي الإصابة به، إضافة إلى تأثيراته الاقتصادية والاجتماعية المباشرة والملموسة، وهذا ما جعل منظمة الصحة العالمية تصنفه في مستوى الجائحة، وتسارع الخطى للترخيص لأي لقاح مطور أثبت انضباطه للمساطر المعتمدة في هذا المجال مع اعتماد المرونة في الوقت المخصص لهذه العملية، تقليصا وربحا للوقت ولكن بشروط صارمة وقاسية أحيانا، حتى يصل العالم إلى تطعيم أكبر عدد من السكان ضد هذا الفيروس اللعين.
مزايا التطعيم كثيرة و متعددة، تتمحور في توفير الحماية الفردية للفئات الأقل مناعة ضد الأمراض وذلك لمنع مضاعفاتها الخطيرة التي قد تؤدي إلى أمراض أشد فتكا بصحة الإنسان، وكذا تقليل معدل المرضية والوفيات، فحسب منظمة الصحة العالمية فالتلقيح يحمي بصفة عامة ما بين 2 إلى 3 ملايين حالة وفاة محتملة، ويؤدي إلى القضاء على بعض أنواع الأمراض والعدوى ( الشلل عند الأطفال مثلا) وكذا تخفيض تكاليف العلاجات الصحية وتقليل المقاومة للمضادات الحيوية.
وتبقى استجابة الجسم البشري للقاح رهينة بمجموعة من العوامل التي تتعلق أولا بالشخص، والمتمثلة في السن وقوة المناعة والعوامل الوراثية وغيرها، أو المتعلقة باللقاح والمتمثلة في نوعيته (حي، موهن) وجرعة التطعيم، وطريقة الحقن والظروف المصاحبة لذلك وكذا احتوائه على مواد مساعدة وغيرها من العوامل، وكلها قد تؤثر في إبطاء أو تسريع عملية استجابة الجسم للقاح.
إن السرعة التي تم بها تطوير لقاح كوفيد 19 في المختبرات العلمية التي توصلت إلى إنتاجه، يعد إنجازا ونجاحا كبيرا، يوازيه نجاح المغرب في عقد الشراكات والمساهمة في التجارب السريرية التي أعقبت تطويره، من أجل ضمان التوفر على هذا اللقاح الذي سيمكن المغرب من التصدي لهذه الجائحة والحد من استفحال انتشارها. وحتى الوصول إلى علاج آمن وفعال، سنستمر بتخيل صورة وردية للعالم ونجعلها في النهاية واقعا، ونحلم بغد أفضل وبمستقبل مشرق، فكل من يستطيع الحلم يمكن أن يحققه بإرادة وتفاؤل. وحتى نصل إلى كل هذا وذاك، يجب أن نعترف أن النجاح في تجاوز أزمة هذه الجائحة لا يصنعه شخص واحد أو جهة واحدة، ولكن يصنع بالإرادة الجماعية والمشاركة الفاعلة والايجابية.
*باحثة جامعية في البيوتكنولوجيا الطبية
تعليقات الزوار ( 0 )