حطت السفينة الفضائية بباحث من الغابون في باحة جامع الفنا بمراكش، وهي منطقة أشهر من علم، وهناك أرشده بعض الطلبة لبنيقة الكاتب السلطاني المعروف باسم محمد بن إبراهيم السباعي، حيث كان معتكفا على استكمال نسخ الفصل الأخير من بُستانه المنقح. تجاذبا هناك أطراف الحديث ليخلصا بعد دردشة خفيفة إلى أن مُعظم النصوص في مفاخر الدولة الحسنية خلال تلك الفترة الزمنية كُتبت بإيعاز من السلطان نفسه بغرض تعزيز سلطته. وقد استغل الباحث الغابوني الفرصة ليسأله عن هؤلاء الذين يمكن نعتهم بـ “كتاب تحت الطلب”، فأجابه السباعي: “أنا أحدهم، فقد ألفت كتابي البستان استجابة لاقتراح من السلطان الحسن عن طريق رسالة بعثها إلي الوزير علي المسفوي شخصيا بتاريخ 9 جمادى الثانية 1306هـ، وحدد لي فيها حتى منهجية التأليف، فالهدف هو تمجيد سياسة السلطان ولو كانت خاطئة، من خلال التركيز على إنجازاته ومآثره، وغض الطرف عن زلاته وعثراته”. أوقفه الباحث الغابوني قائلا: “إن الأمر يُشبه ما عليه نخبتنا في القرن الواحد والعشرين، فكلهم على هذا النهج سائرون، وإن كانوا يدعون النضال ويتبجحون به، فهم في الخفاء خلاف العلن، غالبيتهم متعددو الأوجه”. استغرب الكاتب السباعي من لفظة النضال الواردة في حديثه، إذ لم يسبق له أن وقف عليها من قبل، ولهذا وجد نفسه مضطرا لاستفسار الباحث الغابوني بشأنها، فحار في تقريب مفهومها له، وقال للسباعي محاولا تبسيط العبارة له: “إن الأمر أشبه بما تعرضت له سي السباعي، فقد بلغنا من كتابكم البستان الجامع الذي حققه طالب -أرسل لنا نسخة منه مشكورا- أنكم سُجنتم لمعارضتكم سياسة بعض العمال والقياد. إن الأمر شبيه بموقفكم، فهذا يسمى عندنا نضال ومعارضة”. أبدى السباعي وكأنه فهم المقصود من الإشارة، فهو معروف بلبابته وحدة ذكائه، وأجاب عن سؤال سريع طرحه عليه الباحث الغابوني، فهذا الأخير طلب من السباعي أسماء كُتاب آخرين معاصرين له كتبوا يمدحون السلطان الحسن الأول، فأجاب السباعي: “إنهم كثر، وهم يكتبون لتلقي الإعانات والمناصب ويهدفون التقرب منه، منهم رفيقي على بن محمد السملالي الذي ألف ثلاث كتب في تاريخ الدولة الحسنية، فهو مستشار ومقرب من سلطان زماننا أكثر منا ولم يسجن مثلنا، وعلى منواله نسج أستاذي أحمد بن الحاج السلمي الذي صنف كتابين في مدح السلطان الحسن أشهرهما على الإطلاق الدر المنتخب، وصديقي عبد السلام العمراني اللجائي وضع أيضا كتابا سماه المفاخر العلية والدرر السنية، وكان له نفس هدفنا، لقد كنا جميعا كُتابا تحت الطلب للسلطان الحسن، عملنا ما بوسعنا لتمجيد فترة حكمه.
حاول الباحث الغابوني الحصول على معلومات إضافية من السباعي عن نخبة ذلك الزمان، فسأله عن دور الشعراء في فترته؟ وهل وضعوا القصائد لنفس الغايات؟ فأجاب السباعي بالقول: “نعم، نعم، فلم تخل مناسبة من المناسبات الدينية أو انتصار من انتصارات السلطان على القبائل من مدح وتمجيد، إذ كان الأدباء والشعراء وغيرهم يستغلون مناسبة عودة السلطان من حركاته لنظم القصائد في تهنئته، وقد كنا نحن الكتاب ننافسهم في ذلك، فنظمنا بدورنا القصائد تمدحه ونطريه بما يحب ويعشق، لأن تلك فرصتنا للتوصل بمكافآت مالية عينية أو نقدية نستر بها حالنا ونطعم بها أطفالنا، وأنت تعلم أن السلطان سبق وأن منحني دارا هبة منه، وأصدر بذلك أمره الشريف، بيد أن القائد امتنع عن تنفيذ الأمر وحاز الدار لنفسه يكتريها ويستفيد من دخلها، وهو ما أثار حنقي عليه، فهاجمته في كاغيد وصلته منه نسخة رديئة الخط، فسجنني ظلما، ولم اخرج إلا بشق الأنفس وبعد واسطات واستعطافات، وقد قيل لي بعد خروجي أنني لم أختر الطريق الأسلم، حيث كان علي منح القائد مبلغا من المال ( رشوة) ليمكنني من الدار المذكورة .”
حين انتهى السباعي من إجاباته، توجه للباحث الغابوني متسائلا عن أصله، فقد بدا له في هيئة غريبة، فلباسه مُختلف تماما، ولحيته اجتثت من جذورها، إذ تبدو محلوقة بشكل كامل، وهو أمر استغرب له مؤرخنا السباعي، الذي لاحظ أيضا حمل الباحث لحقيبة جلدية ذات مفتاح نحاسي صغير في يده اليسرى، وآلة عجيبة في يده اليمنى، أخبره أنها “هاتف للتواصل المباشر بين الناس رغم بعد المسافات”. لم يفهم ولم يستوعب أي شيء من هذه الآلات المستحدثة، لكن السباعي سأل الباحث عن سبب زيارته لمراكش الحمراء وسر طلب لقائه بعجالة، فرد عليه بالقول: “لقد أردت أن أنقل لك خبرا من مستقبلنا، فنحن نعيش في سنة 2024، ولدينا الكثير من الكُتَّاب من أمثال كُتَّابِكُمْ، هدفهم أيضا الحصول على المال ونيل الشهرة بالزبونية والمحسوبية، فمنهم من كان يساريا وغير جلده”، هنا استوقفه السباعي قائلا: “ماذا تقصد بيساري؟ هل يعني أنه من أصحاب اليسار: أي الأغنياء الميسورين كما عندنا الآن في القرن التاسع عشر”. أجابه الباحث الغابوني: “لا، لا، سيدي، اليساريون عندنا عكسكم تمام، فهم فقراء(مزلوطين) تبنوا أفكار كارل ماركس، ثم بعد سنوات من النضال أصبحوا بدورهم أغنياء لاندماجهم في قواعد اللعبة”، رد السباعي: “من كارل ماركس هذا؟ هل هو كاتب لسلطان عصركم حفيد سلطاننا نصره الله، وهل هو وزير أم قائد عندكم”، أجابه الباحث بروية: “لا، إنه صاحب أفكار انتقدت الرأسمالية ومحتكري الأموال، والكثير من الأحزاب، وحتى الانتهازية منها، تحمل أفكاره وتدعي الدفاع عنها في بلدنا وفي بلدكم”، استغرب السباعي من كثرة العبارات التي وردت في حديث وإجابات هذا الباحث المثير للريبة، واستفسره عن معنى الحزب فأجابه: “الحزب عندنا أشبه ما يكون بالزوايا التي عندكم اليوم، حيث الشيخ ومريدوه، فالحزب أيضا يتكون من رئيس وأتباع ينافحون عن مصالحهم الذاتية لكن بدون تسابيح بل عبر وسائل أخرى دعائية، ويستعملون مختلف الطرق لنيل أغراضهم خصوصا في موسم الانتخابات، لكن ليس هذا ما أريد تبليغه لك، فهدفي أن تدون في بستانكم واقعة حصلت في دولتكم التي هي المغرب لكن في سنة 2022، أي بعد قرنين من الآن، وستثير بدون شك استغراب كل من سيقرأها من طلبة زمانكم”، قال له السباعي: “مرحبا، إن كان الأمر يتعلق بالأحداث، ستكون إذن كرامة أنفرد بذكرها وأفتخر بها وسط أقراني وزملائي ومن يتنافسون معي، وقد يمنحني السلطان عن هذا الخبر الحصري مكافأة كبيرة”، فأجابه الطالب: “نعم ستكون كذلك، فاكتب عندك إذن: أنه حين يَنْقُرُ الفرد على شبكة الأنترنيت عندنا في 2020 بحثا عن إشارات بخصوص إصدار جديد عن سلطانكم هذا، الذي هو الحسن الأول وقضايا السيادة المغربية على الأقاليم الصحراوية الشرقية والجنوبية، يصطدم بكثرة الإطرائيات له، وصورة جميلة تزين غلافه، حيث تبدو في وسطه صورة متخيلة لسلطانكم المبجل”. هنا لم يصبر السباعي ولم يتمالك أعصابه، فصاح بغضب: “أنت تصيبني بالجنون، فما معنى شبكة الأنترنيت؟”، أجابه الباحث الغابوني: سأعود الى زمني بعد ساعة في مركبة اخترعت بناء على نظرية النسبية لعالم يدعى عندنا اينشتاين من بلاد البروس، وليس لي الوقت لأشرح ما لا يمكن لعقلكم أن يستوعبه (…) أسرع رجاء بالكتابة فليس لدي متسع من الوقت”، فأطرق السباعي وكله آذان صاغية لحديث الغابوني الذي استطرد يستكمل حكايته، بالقول: “في شبكة الأنترنيت عندنا تجد غلافا مصحوبا بتعليق موجز يجعلك تعتقد أنك أمام مبادرة بحثية جادة، ومقاربة معرفية جديدة، ودراسة توثيقية رصينة معززة بالدعامات والمستندات عن سلطانكم، وهو حكم انطباعي لا يلبث أن يتهاوى بشكل كامل بمجرد العودة لمطالعة الكتاب المذكور، ذي المنحى الأكاديمي كما يُفترض فيه، ففي الصفحة 12 من الكتاب المذكور يُحيل صاحبه على الاستقصا للناصري، ولعلك تعرفه، فهو من أقرانك الآن ومن الكتاب الذين يشتغلون بميناء شهير على الواجهة الأطلسية، بيد أنه فاقكم جميعا بتأليفه الشامل للدول التي تعاقبت على حكم المغرب، فمنهجه اختلف عن منهجكم نسبيا، فهو أكثر تنظيما، ولمساته أقرب للمناهج الجديدة، كما يحيل صاحب الكتاب المذكور أيضا على تاريخ داود المسمى بتاريخ تطوان، وهو من أشهر مؤرخي المغرب في عهد الحماية عندنا، لكنه، أي صاحب الكتاب عن سلطانكم لم يذكر الصفحات التي نقل عنها، وهذه تسمى عندنا سرقات وانتحالات وسطو غير مسلح، وهو من المؤرخين الفرنجة، لكنه أيضا لم يشر للصفحة التي نسخ منها العبارات، ونفس الأمر يتكرر تباعا في صفحات(15، 16، 17، 18، 20، 26، 27)، ونفس الأمر في صفحات أخرى، فهذه أمثلة لا غير، حيث القاعدة عنده أنه لا يشير إلى الصفحات التي أخذ منها مثلكم تماما، ولا يذكر دور النشر التي لم تظهر بعد عندكم، وهنا أؤاخذكم على موقفكم السلبي من المطبعة، فقد ألفتم سي السباعي مخطوطا في تسفيه المطبعة وتحريمها، وهذا مما يؤاخذكم عليه مؤرخو القرن العشرين والواحد والعشرين، ويضعكم ضمن النخب التي عارضت ادخال الجديد للمغرب، ويحملونكم بذلك جزءا من المسؤولية عن فشل الإصلاحات، كما لا يشير المؤلف المذكور إلى الطبعة المعتمدة أي للنسخة التي اعتمدها، إلا نادرا، وهكذا دواليك في غالبية الهوامش، هذا دون الحاجة للتذكير بالطريقة السيئة التي يتعامل بها مع الإحالات عموما، لدرجة أن المبتدئين من الطلبة في الجامعة عندنا لا يرتكبون هذه الأخطاء ولا يقعون فيما يقع فيه هذا الذي يسمى دكتورا كلقب عالم عندكم، ومهنته أستاذ التعليم الجامعي وهي مرتبة مثل مراتب العلماء الأربعة عندكم، لكن ليس له من هذا الاسم إلا حرفه، ففاقد الشيء لا يعطيه”.
قال له الكاتب والمؤرخ السباعي: “وما العيب فيما يفعله، فكلنا ندندن على منواله في زماننا هذا، ننقل من ابن خلدون ومن دوحة الناشر ومن نشر المثاني ومن كتب أبي القاسم الزياني ومن اليفراني، ولا نشير الا نادرا لمن أخذنا منهم، ومع ذلك يكافئنا السلطان بقدر نقولنا وكثرتها، فكلما أكثر أحدنا في النقل وأطنب إلا وحاز الاستحسان والرضا ونال الجزاء والثواب الأعظم، وعليه فالأستاذ الذي حدثتنا عنه لعله من المتبحرين عندكم ومن المشهورين بين أقرانه بسبب كثرة انتحالاته”.
أخبره الغابوني أن عصره المستقبلي مختلف تماما، فهناك قواعد أكاديمية يجب التقيد بها واحترامها، ثم أمره بالاستمرار في تدوين ما سيقوله له بالنظر لأهميته، فاستكمل الباحث الغابوني حديثه:” أما المسألة الثانية الخطيرة، وهي أن مؤلف هذا الكتاب المذكور لا يحيل إلى أي مرجع أو مصدر في غالب الأحيان لا في المتن ولا في الهامش، وكأنه يكتب استنادا إلى وحي يتلقاه من السماء بينما الوحي توقف منذ خمسة عشر قرنا، فقد تمر بك أربع صفحات أو أكثر مليئة بالأحداث والوقائع التاريخية دون أن تجد ولو إحالة واحدة!، وهذا انتحال وسطو على معلومات أوردها غيره، بل إنك تجد أحيانا عشر صفحات لا يُحيل فيها إلا بشكل متباعد لمصدر واحد يكرره!، وهذا يعني أن السَّرقة العلمية ثابتة عليه في هذا الكتاب الصغير الحجم العديم الفائدة.
على سبيل المثال انتحل هذا الأخير من كتابات الأستاذ خالد بن الصغير مرار وتكرارا دون أن يُحيل عليه بشكل مستمر . كما انتحل فقرات طويلة من كتاب طوماس غارسيا فيغيراس، وهو اسباني، دون إحالة، وانتحل من كتابات ووثائق وكوازيط عديدة تصدر ببلدكم، يُحيل عليها مرة واحدة، ثم يتسقط عليها بعد ذلك ويسلخها سلخا ويجلدها جلدا، دون أن يُشير لصاحبها بالاسم، ولا يدقق في أحكامه وخلاصاته المتهافتة، وللتغطية على هذه السرقات يعمل أحيانا على الإحالة إلى هذه المراجع والمصادر بشكل مُتباعد، وهذه خاصية ميَّزت هذا الكتاب “الكارثي” في منهجه وطريقة عمله، فمن المستغرب أن يوجد منشور بكل هذه العيوب بشبكة الأنترنيت وبمندوبية المقاومة الغابونية التي استوردته من المغرب الشقيق، حيث وقفت عليه في خزانتها، وهو ما يطرح أسئلة بشأن المعايير والإجراءات الرقابية التي يمكن اعتمادها للتصدي مستقبلا لفوضى النشر دون مراجعة ولا قراءة، وفي غياب لجان التحكيم داخل المؤسسات التي تتكفل بنشر مثل هذا البؤس وهذه الرداءة”. عقب عليه السباعي: “لا يهم هذه شكليات في نظري، ولعلك متحامل على الرجل لا غير، فربما له كتاب وأنت لا مؤلفات لك، فتغير منه وتحسده بسبب ذلك، دع الشكليات جانبا، وحدثنا بشأن الأفكار التي كتبها عن سلطاننا الحسن الأول فإنني أحب أن أسمع ما ذكره، وهل استدل بي أو أشار إلى اسمي في كتابه هذا، أخبرني عن بعض أفكاره ومضامينه؟”.
أجابه الباحث الغابوني: إنه لم يشر لك ولم ينقل عليك، وغالب الظن أنه لم يسمع عن كتابك ولم يطلع عليه، فأمثال هؤلاد لا يطالعون إلا الكوازيط التي تتداول مجانا في المقاهي عندنا، فهم كسالى لدرجة الخمول، أما فيما يخص الأفكار التي جاء بها الكتاب، فهي تعبر على المستوى الهزيل لصاحبنا الذي قدَّم لنا سلطانكم باعتباره مثقف موسوعي حظي بإعجاب ممثلي الدول الأوروبية المعتمدين بطنجة، وأنه قاد البلاد في معركة تحديثية شاملة جعلت المغرب يُساير الركب الحضاري الأوروبي (هكذا)،!، بينما أرى أنكم لا تزالون بدون طرق ولا سكك ولا قطارات، بل لا زلتم تركبون الدواب، ومن الغرائب أنه ضمن كتابه فكرة عجيبة، إذ اعتبر سلطانكم صاحب مشروع وَرِثه عن أبيه وورَّثه لولده السلطان عبد العزيز!، حتى يُخيل إليك أن مُؤلِّفَ هذا الكتاب يخط بقلمه تملقا لسلطان لا يزال على قيد الحياة!، فهو عنده أي سلطان وقتكم هذا صاحب دراية ومعرفة بما كان يدور من تفاصيل في الدول الأوربية (هكذا)، هذا الكتاب الذي طبعته المندوبية السامية للمقاومة في غانا يُعبر عن البؤس الحقيقي للاستوغرافيا المحلية، فهو لم يقدم أي جديد يُذكر، ولم يعتمد على المراجع والدراسات الأكاديمية التي سبقته للموضوع، ولا داعي للدخول في التفاصيل، لأنها تحتاج لمقال آخر مفصل لا يستحقه الكتاب موضوع هذه الملاحظات العابرة، فهذه فقط إشارات وإضاءات أردت من خلالها التعبير عن مدى بؤس البحث التاريخي في بلادكم بعد أزيد من قرنين من زمانكم”.
استغل السباعي الفرصة وخاطب الباحث قائلا: “هل فِعْلا قال كاتبكم كل هذه التراهات عن سلطان زماننا، بكونه ذا رؤية تحديثية، وله ثقافة موسوعة تلم بما يدور في بلاد النصارى وأننا لحقنا بالركب الحضاري لأوروبا، عجبا، نحن لم نتجرأ في كتاباتنا لنقول هذا في حقه مع أننا معاصرون له، ولا نستسيغ بتاتا أن نقول في حقه هذا الإفك والبهتان، ثم ما معنى المشروع التحديثي والحداثة؟ فما سمعنا قبلا بهذه البدعة، وإنما ما سمعناه أن من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد، كما أننا نعرف فقط الحدث الأصغر، وهو خروج الريح، وكذا الحدث الأكبر وهو الجنابة، وكلاهما من نواقض الوضوء، وقد فصل في هذه النواقض جمع من فقهاء عصرنا اتفقوا في أمور الحدث الأكبر واختلفوا اختلافا كبيرا في أمور الحدث الأصغر، حيث قسموه لنوعين ضراط وفساء. أما معلوماتنا عن أوروبا فضئيلة جدا، فقلما يبعث سلطاننا لأوروبا السفارات، أما التجار فلا يذهبون بتاتا إلا التجار من طائفة اليهود، لأن المسلمين يعتبرون الإقامة في دار الكفر حرام، فمن أين تتأتى لنا معرفة بلاد النصارى وكيف لسلطاننا أن يعرف حيثيات وخبايا ما يجري عندهم من تحولات اقتصادية وسياسة واجتماعية،” أجاب الباحث الغابوني قائلا: “هل المسلمون يعتبرون في زمانكم هذا بلاد النصارى بلاد كفر، العكس تماما في زماننا، فالبقاء في بلدان جنوب بحر الزقاق هو الذي يدفع المرء للكفر والحمق والجنون، فهي بلاد التخلف والنهب، وكل واحد يجري خلف مصالحه الذاتية، فالفقراء يزدادون فقرا والأغنياء يزدادون غنى، ولذلك يسعى الجميع بجهد للذهاب لبلاد النصارى التي غدت بلاد الإيمان وبلاد الإنسانية، حيث الحقوق وتكافؤ الفرص والتغطية الصحية وحرية التعبير”.
لم يستمع السباعي لجوابه الأخير، فقد كان ساهيا، ولم يفهم جملة مما قيل، وحاول أن يعود بالباحث ليستكمل الحديث في الموضوع الرئيسي الذي كانا يتجاذبان الحديث بشأنه في البداية، فقد اعتبر ما قيل قبل قليل مجرد استطراد ليس إلا، فبادر بسؤاله مجددا عن الأستاذ مؤلف الكتاب: “هل هو مشهور ومتبحر وعلامة يخوض في المشاركات وكل العلوم؟”، أجابه الباحث الغابوني: “كلا كلا، إن مستواه هزيل جدا، ولا يشارك بتاتا في لجان المناقشات، ولا يشرف عن بحوث الدكتوراه، ولم يسمع له صيت غير صيت كتابه الهزيل هذا الذي حدثتك عن تفاصيل ما جاء فيه، لكنه يتهافت للمشاركة في لجان تختار أساتذة للتدريس في الجامعة بجنبه، ولعله يتلقى مقابل ذلك تعويضا ماديا عن التنقل والأكل، وهدف غالبية من يرافقه في هذه اللجان الحصول على نقاط لإدراجها في ملفاتهم العلمية ليترقوا بها وينالوا دريهمات إضافية، لأن النشر الذي يترقى به زملائهم ممن يغيبون عن هذه اللجان منعدم عندهم، فقد أصابهم العقم المزمن مقابل الإسهال في التواجد باللجان، وهو ما يطرح سؤالا بشأن الطريقة التي وصلوا بها للكليات أصلا، فالشكوك تحيط بهم من كل جانب، ولأنهم لا يمارسون التجارة كعلمائكم. اعتكفوا على مهمة تخريب صرح الجامعة لغياب الصرامة والمراقبة والمحاسبة، فهم يجتهدون بكل السبل لإدماج مدرسين لا كفاءة معرفية لهم، ولا علاقة لهم بالبحث العلمي لا من قريب ولا من بعيد، فهم يعطون الأولوية لمن يشبهونهم ويقتدون بهم في الانتحال والسرقات العلمية، هذا دون الوساطات التي لازالت عندنا سارية المفعول، فنحن ورثناها عن عصركم هذا، ولم نستطع التخلص منها بعد. وبالرغم من أن دولتكم تدعي الديموقراطية والشفافية والحكامة، لكنها لا تغدو أن تكون مجرد شعارات فارغة، والغريب أن كثيرا من الأساتذة الجامعيين هم من النزهاء، بيد أنهم يتهربون من التواجد في هذه اللجان المشبوهة في عصرنا، وهؤلاء لم يسمعوا قبل الفضيحة التي حدثت عن هذا الأستاذ الذي لا ينشر أي مقالات، ولا يساهم في الندوات إلا لماما، فهو منزو ومتخفي في مركز للبحث لا في كلية مشهورة، ينتظر فقط آخر الشهر ليلتقط الأجرة التي هي مصروفه الرئيسي، فهو “طالب معاشو” كما أنتم الآن، وهو غائب فعليا عن مجال التأطير والمناقشات.
بالإضافة إلى كل ما سبق، فهو يتحصل على إتاوة إضافية جراء اغتيال الكفاءات واستبعادها من لائحة المترشحين للتنافس في المباريات، وغالبا يختارون ثلاثة متبارين، ويكون الفائز معروفا مسبقا، فهم يختارون من له ثلاث مقالات ويرفضون صاحب الأربعين مقالا، لأنهم يمقتون النشر ويتشاءمون منه ويتطيرون من كل من له صيت ومشاركات وحضور، لأنهم يرغبون في دمج مريدين وتابعين ومتملقين، ولأن الحديث بالحديث يُذكر حصل أن أحد أولئك الذين حازوا منصبا على المقاس غاظهم ما نشره أحدهم بالأمس في كوازيط إلكترونية فعلق قائلا: “احذفوا ما نشره هذا المخرمز من تخربيق، أرجوا (هكذا كتبها) المسح”، وقد بحثنا في لسان العرب عن مصدر فعل المخرمز وعن معناه فلم نجده، وكذلك الأمر بالنسبة للتخربيق، ولعلها كلمة عامية يستعملها الأميون من الغوغاء، ومن السياق يتبين أنه يقصد بالتخربيق المقال العلمي، فهو كذلك عنده، لأنه كأولئك الذين أنجحوه وتوجوه، له حساسية مفرطة اتجاه النشر في الكوازيط المحكمة، ولهذا لا تعتمد التخربيقات في معاييرهم. كما ينجح أيضا من لهم معارف وخالات وعمات في العرس، فهؤلاء تكون حظوظهم أكبر. وبالرغم من أن الكوازيط تنشر أسماء الناجحين مسبقا بسبب تسرب النتائج وطعن البعض ممن ينعتون بالفتانين، والذين ينشرون الغسيل في كوازيطهم الإلكترونية والورقية، وهم قلة مع ذلك، لكن متابعيهم من الطلبة والمهتمين كثر، فالفضول لمعرفة ما يقع في الكواليس يُغريهم ويفتنهم، فكل مستور مرغوب، ومع كل ما يحصل من التشويش في الفضاء الأزرق، فالبروتوكول الشكلي يمر على شكل مسرحية معروفة النهاية، فبدون هذه اللجان المعيبة والشكلية لا يمكن ترسيم أي أستاذ بالجامعة، وهم يستفيدون بهتانا مما يسمى عندنا “استقلالية الجامعة”، فجعلوها بسبب ذلك حكرا على عائلات ومعارف فلان وعلان، فهذا يدخل زوجته وهذا يوصي بمنصب لابنته وهذا لابن عمه وهكذا…. كما عندكم في فاس، حيث أسَرٌ بعينها تتوارث المناصب، وهذا الأستاذ المذكور ليس وحيدا في التهافت على اللجان، بل ينافسه في ذلك زملائه ممن يأتون من مناطق أخرى نائية، منها مناطق اشتهرت بالثورات على سلطان وقتكم، وقد تحصن بها الهبري ولاحقا بوحمارة، لكن الصفة المشتركة بين أعضاء هذه اللجان: موت الضمير وانعدام الذمة والمسؤولية، وضعف النشر لأنهم لا يستطيعونه ولا يطيقونه، فقد نشروا اطروحتهم التي هي عملهم اليتيم والوحيد وإن نشروا لاحقا فمقتطفات مستلة منه، وهم مستعدون مسبقا تنفيذ ما يُملى عليهم بشأن من ترغب الكلية في إلحاقه بها.
ولهذا تجد الشَّيخ غوغل دائما حاضرا في كل اللجان حتى استحق بذلك لقب الجوكر عن جدارة واستحقاق، وهو اشتهر بنشر مقالات مسروقة يستلها ليلا من كتب غيره وينشرها باسمه في مجلة صحفية تاريخية هزيلة المحتوى، ويعتبر ذلك-في نظره- مقالات محكمة، وغالبا يرافقه أحدهم، وهو من نفس كليته، وقد انتقل مؤخرا إلى المدينة التي تطلقون عليها الآن العاصمة العلمية، اشتهر بالطعن في رموز الحركة الوطنية ورجالاتها باعتبارهم خونة، حتى ليخيل إليك أنك أمام فارس لا يشق له غبار في النضال، والمفارقة أنه لا يعتبر نفسه خائنا للوطن، مع أنه يشارك في إنجاح من لا يستحق من متعاقدين متملقين، ويقصي من لهم الحق بالنظر إلى المعايير التي فرضتها الوزارة، بيد أن لهؤلاء الوطنيين الخبزيين الجدد معاييرهم التي يقيسون بها الأمور، فهم يكيفونها بما يتناسب ومصالحهم الشخصية، لا مبادئ ولا أخلاق لهم، لا شهامة ولا مروءة، فتلك تربيتهم، هم أشبه بالمحميين عندكم الآن، ولو كانوا في زمانكم هذا لارتموا في أحضان الانجليز والفرنسيين، ولو عاشوا في زمن الاستعمار لكانوا في صف العملاء وأذناب الاستعمار، فأمثال هؤلاء هم من يوشون بالمقاومين ويدُّلون عليهم طمعا في المال والمناصب وانتقاما من خصومهم، فالتشابه هنا في الوسائل معقول، وها هو التاريخ يكرر نفسه بأشكال مختلفة، ومثال هؤلاء هم المسؤولون عن فشل الإصلاحات عندنا، ومن ذكرناهما هنا بشكل عابر، خصص لهما أحدهم في تأليف له قيد الطبع فصلا طويلا، ذكرهما مع كبيرهما الذي علمهما السحر، حيث يجتمعون معه في زاوية يسمونها جمعية، وهي أقرب للدكان، يبيعون الرسوم ويستخلصون مبالغ تسمى الاشتراكات، وأسوء ما في هؤلاء الأعضاء الذين أشرنا لهم التآمر في الخفاء على كل من ينتقدهم، ولهم في ذلك طرق خاصة لا توجد في زمنكم هذا، من واتساب وميسانجر وانستغرام وتوك توك، وقد وصلت بهم الجرأة لمنع حتى غلافات كتبه التي صدرت في بلدهم من أن تُشهر لديهم، فهم متعصبون وحقودون إلا لمن يعلن التبعية والتملق لهم ويرضغ لهم، وهذا والله من دواهي عصرنا”. دون السباعي هذه المعلومات في نسخته الجديدة من البستان دون أن يفهم الكثير من دلالتها، عازما إخبار سلطانه بها وإطلاعه عليها، لعله يثير انتباهه بما لديه من معلومات جديدة وغرائبية، في الوقت الذي أطلق فيه الطالب الغابوني الريح لساقيه ليدرك السفينة الفضائية التي ستعيده لعصره.
*باحث في التاريخ
تعليقات الزوار ( 0 )