Share
  • Link copied

لتتعارفوا.. الفريضة الإلهية الغائبة

في كثير من الأحيان.. نجد أنفسنا نعيش وسط أناس نلتقي بهم يوميا سواء في الواقع أو في العوالم الافتراضية، ولكننا نعبر بجانبهم وكأننا أشباح؛ لا أحد يلقي السلام، ولا أحد يحاول مد جسر التعارف، بل حتى عندما تنبثق مبادرة ودّ من أحد الأطراف، كثيرا ما تواجه بالتجاهل أو الصمت، وكأن التواصل البشري بات حملا ثقيلا.

هذا الواقع يتنافى مع دعوة الله تعالى في القرآن الكريم، إذ يقول: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” (الحجرات: 13).

إن اختلاف الشعوب والقبائل ليس سببا للتنافر أو التشاحن، بل هو فرصة للتعارف وللتآخي والتكامل. فلو كان البشر متشابهين في ألسنتهم وألوانهم وثقافاتهم، لانتفى الداعي للتعارف، ولما كان هناك مجال لاختبار الإنسانية في أبهى صورها، حيث يجتمع التنوع ليصنع الوحدة.

لقد جسد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم في قوله: “سلمان منا آل البيت”، تلك العبارة التي تختصر درسا خالدا في الانتماء، حيث تجاوزت الحدود العرقية والجغرافية لتعلن أن القيم والإيمان هي المقياس الحقيقي للانتماء. ومع ذلك.. ورغم أننا نقرأ هذه السيرة النبوية وندرس قصص الصحابة الكرام منذ نعومة أظفارنا، فإننا لم نتخذ من تجربتهم في التآخي والالتحام حول الرسالة الواحدة نموذجا كافيا في حياتنا.

بل ما زالت أفكار الجاهلية الأولى تتسلل إلى قلوبنا، فتفرّق بيننا، حتى ونحن نعيش في زمن الذكاء الاصطناعي الذي جعل التواصل أسهل ما يكون.. كلمة طيبة في رسالة مجانية قد تكسب قلبا، ولكننا في كثير من الأحيان نبخل حتى بهذه الكلمة!

الحروب والصراعات بين الصحابة: دروس للتفكر

قد يخرج قائل ليقول: “إذا كان الصحابة أنفسهم لم يتفاهموا، وانفجرت الكراهية بينهم حتى تحولت إلى حروب طاحنة أزهقت أرواحا كثيرة، فكيف لنا نحن، بأخلاقنا المتدنية وإيماننا الناقص، أن نصحح هذا المسار؟”

سؤال وجيه بلا شك. ولكن الجواب يكمن في التفكر في حكمة الله سبحانه وتعالى من وقوع تلك الأحداث بين الصحابة. لقد شاء الله أن تحدث تلك الصراعات ليترك لنا درسا عميقا: أن نتعلم من أخطائهم، لا أن نكررها جيلا بعد جيل.

لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “اشتقت إلى إخواني”. وعندما سأله الصحابة: “أولسنا إخوانك يا رسول الله؟” أجابهم: “أنتم أصحابي، أما إخواني فهم الذين يؤمنون بي ولم يروني.”
إن شرف أن نكون من إخوان النبي صلى الله عليه وسلم ليس لقبا يتزين به المرء، بل هو مسؤولية عظيمة لا ينالها إلا أصحاب القيم الرفيعة والأخلاق السامية والفهم العميق للدين.

فكيف يمكن لنا أن نكون من إخوان النبي، ونحن لا نتقبل بعضنا بعضًا رغم أننا نصلي إلى قبلة واحدة، وندعو ربا واحدا، ونصوم لنفس الإله؟ إذا كان هذا حالنا مع من يشبهنا في العقيدة والمذهب، فكيف نتوقع أن نتقبل من يختلف عنا؟ وكيف نجسد الأخلاق الإنسانية الراقية مع ثقافات أخرى أو أمم أخرى؟

اختلافنا سر بقائنا ورقيٌنا

الاختلاف بين البشر ليس لعنة، بل هو نعمة أرادها الله لتثري التجربة الإنسانية. والتعارف الذي دعا إليه الإسلام ليس مجرد تواصل سطحي ولكنه دعوة لفهم الآخر وتقبل اختلافه ورؤية العالم من خلال عينيه.

إن العالم اليوم يقدم لنا وسائل لا تعدّ لا تحصى للتواصل وبناء الجسور، ولكن هذه الوسائل تحتاج إلى روح واعية، ترى في الاختلاف جمالا لا تهديدا، وتعتبر التعارف مسؤولية لا عبئا.

بوح ختامي:

فلنتعلم أولا كيف نحب بعضنا البعض، كيف نحيي القلوب بكلمات طيبة، وكيف نجعل من تعارفنا خطوة نحو بناء عالم أكثر عدلا وإنسانية.. حينها فقط نكون قد اقتربنا من تجسيد قيم الإسلام كما أرادها الله سبحانه وتعالى.

Share
  • Link copied
المقال التالي