شارك المقال
  • تم النسخ

كيف ننقذ دراسة الأدب؟

يجب التنبيه منذ البدء أن خطابي هنا يروم –في جوهره- الدفاع عن دراسة وتدريس الأدب وليس الدعوة إلى التخلي عنهما؛ ولكن أي حديث عن هذه القضية اليوم ينبغي أن يراعي التغيرات العميقة التي تجري في حياتنا. فإذا لم نسع إلى حماية دراسة الأدب وتدريسه للطلاب في المؤسسات التعليمية، فإنهما سيتلاشيان في عالم لم يعد يؤمن في المقام الأول سوى بما هو عملي وظيفي، وفي المقام الثاني بما هو متعلق بصناعة التسلية والمتعة الحسية.   

على الباحثين المتخصصين في الأدب أن يُقرّوا بأن الكتابة عن الأدب وتدريسه لم يعد لهما ذلك الشأن الذي كان لهما في النصف الثاني من القرن الماضي على الأقل، وأن تدبيج مقالات عن “التقنيات السردية” في نص روائي، أو عن “الصورة البلاغية” و”البنية الإيقاعية” في نص شعري على سبيل المثال، أصبح اليوم إنتاجا ثقافيا عقيما يستهدف عينة من القراء محصورة في عدد ضئيل جدا من طلاب الجامعات الذين يقبلون عليه لا لتثقيف عقولهم وإغناء معرفتهم بالنقد والأدب، ولكن لسدّ حاجة عارضة دعا إليها إنجاز بحث للتخرّج أو عرض في وحدة من وحدات التكوين، أو التحضير لاجتياز إحدى مباريات التوظيف. نادرا ما يُقبل الطالب المتخصص في الآداب على قراءة مقالات نقدية نظرية أو تطبيقية لتكوين ذاته خارج المقرّر الدراسي، أو طلبا لمتعة فكرية. إن أي دارس يكتب عن الأدب أو يضطلع بتدريسه اليوم يدرك أن بضاعته كاسدة؛ فمساحة قراء الدراسات الأدبية أصبحت متقلصة على نحو ينذر بزوالها الوشيك. ومع هذا الكساد لا يملك الدارس “الحقيقي” أن يوقف نشاطه العلمي والتعليمي الذي آمن به؛ فهو لم ينخرط في الكتابة حول الأدب طلبا لترقية في سلمه الوظيفي أو سعيا للحصول على مكافأة مالية، بل طلبا لمتعة فكرية وإسهاما في تنمية العقل البشري. بيد أن هذا الدارس “الحقيقي” مطالب بتفاعل حي مع الواقع؛ لأنه –في المحصلة النهائية- لا يوجه خطابه إلى ذاته، بل إلى قارئ مفترض أو متعلم مباشر؛ فعليه مسؤولية الوعي بمتلقيه ومستوياتهم وغاياتهم والحاجات المتحكمة في تلقيهم. فإذا كان قراء الدراسات الأدبية قد انحسر عددهم بشكل لافت اليوم، كما تقلَّص عدد الطلاب المتميزين المنتسبين إلى الأقسام الأدبية في المؤسسات الجامعية؛ فإن عليه –في هذه الحال- أن يراجع اختياراته وأفكاره ومشاريعه، لأنه لن يكون بمقدوره الاستمرار في فرض معرفته مستقبلا في غياب أي اهتمام عام  بالدراسات الأدبية التي أخفقت في خلق قراء حقيقيين في عالمنا اليوم. ما هو الحلّ إذن؟

هناك حلاّن لإنقاذ الدراسات النقدية للأدب من العقم والانغلاق :

1. الحلّ الأول هو ممارسة نقد إبداعي؛ حيث يعمد الناقد المبدع إلى خلق خطابه “النقدي” بناء على تفاعله مع الأعمال الأدبية التي قرأها وأوحت له بفكرة يعمل على نسجها بناء على استدعاء ذخيرته من النصوص المخزنة في ذاكرته وبناء أيضا على تنشيط خياله. هذا الضرب من النقد نجده في كتابات طه حسين وعبد الفتاح كيليطو عن الأدب القديم. وهما الناقدان العربيان اللذان أثبتا حضورهما عند القارئ العام غير المتخصص.

2. الحل الثاني هو ممارسة نقد متعدد الاختصاصات أو عابر للحقول المعرفية؛ فغير مجد في عصرنا هذا ممارسة نقد شكلاني أو بنيوي أو أسلوبي أو بلاغي خالص، لا يروم سوى إعادة إنتاج النظرية أو المفاهيم التي تهم فئة ضيقة من المتخصصين. وتنطوي هذه الدعوة إلى نقد منفتح على فكرة خروج الممارسة النقدية الأدبية من دائرة التخصص الضيق الذي فرضته نظرية الأدب بمناهجها المختلفة، إلى الأفق الرحب لنقد يحاور الأعمال الأدبية من منظور القضايا التي تهم الإنسان في وجوده بهذا العالم.

    يمكن أن نستخلص من هذا الاقتراح

–  ضرورة توجهها إلى قارئ عام غير متخصص لا تعنيه الإشكالات النظرية الأدبية التي يهتم بها الدارسون المتخصصون من قبيل: الصورة والمجاز والإيقاع والتقنيات البلاغية أو السردية وغيرها. لا أقصد التخلي عنها في أثناء التحليل، ولكني أقصد عدم تحويلها إلى موضوع للمدارسة.

– ضرورة مقاربة الأعمال الأدبية بناء على أنها إجابات عن أسئلة تهم الإنسان في وجوده في هذا العالم وليست موضوعات جمالية خالصة؛ فالعمل ليس مجرد صناعة أدبية، بل هو مجموعة من القضايا والإشكالات التي تشغل الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع والأنتربولوجيا، كما تشغل الإنسان بشكل عام في حياته اليومية. 

– ممارسة النقد بهاتين الصيغتين تحوله إلى معرفة عالمة غير مبتذلة لا تتأتى إلاّ لفئة من الدارسين الموهوبين والشغوفين بالأدب.

 خلاصة القول؛ لا أرى أي مسوغ لاستمرار وجود ممارسة نقدية تتوجه إلى فئة محدودة جدا من القراء المتخصصين. وإذا ما حرصنا على استمرار الدراسات النقدية، فلْتَكُن في صيغة مغايرة للصيغة التي نقرأ بها الكتابات النقدية اليوم التي لا أرى أنها تساهم بشكل حقيقي في صناعة الثقافة العربية المعاصرة.  

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي