لا تعد الحرب الروسية الأوكرانية مجرد حدث جيوسياسي كبير فقط، ولكنها أيضاً نقطة تحول جيو-اقتصادية بالنسبة للعالم كله؛ إذ تعتبر العقوبات الغربية ضد موسكو أشد الإجراءات التي تم فرضها على الإطلاق ضد دولة بحجم روسيا وقوتها.
وفي غضون أقل من ثلاثة أسابيع، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بعزل البنوك الروسية الكبرى عن النظام المالي العالمي بمنع تصدير المكونات عالية التقنية في انسجام مع الحلفاء الآسيويين، واستولت على الأصول الخارجية لمئات من الأثرياء المحيطين بالرئيس بوتين، وألغيت المعاهدات التجارية مع موسكو، كما حُظرت شركات الطيران الروسية من المجال الجوي لشمال الأطلسي، وتم تقييد مبيعات النفط الروسي إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وجمدت 403 مليارات دولار من أصل 630 مليار دولار من الأصول الأجنبية للبنك المركزي الروسي.
لكن كيف ستنتهي هذه الإجراءات التاريخية؟ وكيف ستنعكس على النظام العالمي واقتصاده؟
الصدمة الحقيقية للعقوبات على روسيا
يقول تحليل لمجلة foreign affairs الأمريكية إنه نادراً ما تنجح العقوبات الاقتصادية في تحقيق أهدافها. كثيراً ما يفترض صانعو السياسة الغربيون أن الإخفاقات تنبع من نقاط ضعف في تصميم العقوبات. في الواقع، يمكن أن تعاني العقوبات من ثغرات، أو الافتقار إلى الإرادة السياسية لتنفيذها، أو عدم كفاية الاتفاق الدبلوماسي فيما يتعلق بالإنفاذ، لكن الافتراض الضمني هو أن العقوبات القوية لديها فرصة أفضل للنجاح.
مع ذلك، فإن الاحتواء الاقتصادي الغربي لروسيا مختلف، هذه حملة غير مسبوقة لعزل اقتصاد مجموعة العشرين بقطاع هيدروكربوني كبير، ومجمع صناعي عسكري متطور، وسلة متنوعة من صادرات السلع الأساسية.
نتيجة لذلك، تواجه العقوبات الغربية مشكلة من نوع مختلف. العقوبات في هذه الحالة، يمكن أن تفشل ليس بسبب ضعفها ولكن بسبب قوتها الهائلة التي لا يمكن التنبؤ بها. وبعد أن اعتاد صانعو السياسة الغربيون على استخدام العقوبات ضد البلدان الأصغر بتكلفة منخفضة مثل إيران أو كوريا الشمالية، فإن لديهم خبرة وفهماً محدوداً فقط لتأثيرات الإجراءات الصارمة ضد اقتصاد رئيسي مترابط عالمياً مثل الاقتصاد الروسي، كما تقول المجلة الأمريكية.
وتعني الهشاشة الحالية في الهيكل الاقتصادي والمالي للعالم أن مثل هذه العقوبات يمكن أن تسبب تداعيات سياسية ومادية خطيرة.
يمكن رؤية مدى شدة العقوبات الحالية ضد روسيا من خلال آثارها في جميع أنحاء العالم. الصدمة المباشرة للاقتصاد الروسي هي الأكثر وضوحاً. يتوقع الاقتصاديون أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنسبة 9-15 في المئة على الأقل هذا العام، لكن الضرر قد يصبح أكثر حدة.
وانخفض الروبل بأكثر من الثلث منذ بداية يناير، كما تجري الآن هجرة جماعية للمهنيين الروس المهرة وأصحاب الأموال، في حين تراجعت القدرة على استيراد السلع الاستهلاكية والتكنولوجيا القيمة بشكل كبير. وكما قال عالم السياسة الروسي إيليا ماتفيف: “أُلقيت 30 عاماً من التنمية الاقتصادية في سلة المهملات”.
آثار العقوبات الغربية تتجاوز روسيا نفسها وتضرب الاقتصاد العالمي
تقول فورين أفيرز إن تداعيات العقوبات الغربية تتجاوز روسيا نفسها، إذ إن هناك ما لا يقل عن أربعة أنواع مختلفة من التأثيرات الأوسع نطاقاً: الآثار غير المباشرة إلى البلدان والأسواق المجاورة؛ آثار مضاعفة من خلال سحب الاستثمارات من القطاع الخاص؛ آثار التصعيد في شكل ردود روسية؛ والآثار النظامية على الاقتصاد العالمي.
على الرغم من انخفاض أسعار النفط منذ ذلك الحين تحسباً لإنتاج إضافي من المنتجين الخليجيين، فإن صدمة أسعار الطاقة والسلع في جميع المجالات ستدفع التضخم العالمي إلى الأعلى. تواجه البلدان الإفريقية والآسيوية التي تعتمد على واردات الغذاء والطاقة صعوبات بالفعل.
كما أن اقتصادات آسيا الوسطى عالقة في صدمة العقوبات؛ حيث ترتبط هذه الدول السوفييتية السابقة ارتباطاً وثيقاً بالاقتصاد الروسي من خلال التجارة وهجرة العمالة إلى الخارج، وتسبب انهيار الروبل في ضائقة مالية خطيرة في المنطقة. إذ فرضت كازاخستان ضوابط على الصرف بعد أن تراجعت عملتها التنغي بنسبة 20 في المئة في أعقاب العقوبات الغربية ضد موسكو؛ وشهدت طاجيكستان انخفاضاً حاداً مماثلاً في عملتها.
وبالتالي، سيجبر إفقار روسيا الوشيك الملايين من العمال المهاجرين من آسيا الوسطى على البحث عن عمل في مكان آخر ويجفف تدفق التحويلات إلى بلدانهم الأصلية، كما تقول المجلة الأمريكية.
يتجاوز تأثير العقوبات القرارات التي اتخذتها مجموعة الدول السبع وحكومات الاتحاد الأوروبي. وكان لحزم العقوبات الرسمية تأثير محفز على الشركات الدولية العاملة في روسيا. بين عشية وضحاها تقريباً، أدت العزلة الوشيكة لروسيا إلى بدء رحلة شاقة للشركات العالمية.
فقد أجبرت مئات الشركات الغربية الكبرى في مجالات التكنولوجيا والنفط والغاز والطيران والسيارات والتصنيع والسلع الاستهلاكية والأغذية والمشروبات والمحاسبة والمالية وصناعات النقل على الانسحاب من البلاد.
روسيا ترد على العقوبات الغربية بعقوبات تزيد آلام الاقتصاد العالمي
نتيجة لذلك، ردت الحكومة الروسية على العقوبات بعدة طرق. لقد اتخذت سياسات استقرار طارئة لحماية أرباح العملات الأجنبية ودعم الروبل. كما عملت على قفل رأس مال المحفظة الأجنبية في البلاد. وبينما ظلت البورصة مغلقة، فإن أصول العديد من الشركات الغربية التي غادرت قد تواجه مصادرة أموالها قريباً. حيث أعدت وزارة التنمية الاقتصادية الروسية قانوناً يمنح الدولة ستة أشهر لتولي الأعمال التجارية في حالة التصفية “غير المبررة” أو الإفلاس.
وتقول فورين بوليسي، إن التأميم المحتمل لرأس المال الغربي ليس هو التأثير التصعيد الوحيد للعقوبات. ففي 9 مارس/آذار، وقع بوتين على أمر يقيد صادرات السلع الروسية. على الرغم من أن المجموعة الكاملة من العناصر التي سيتم حجبها بموجب الحظر لم تتضح بعد، فإن التهديد باستخدامها سيستمر في التأثير على التجارة الدولية.
أوكرانيا بوتين روسيا أوروبا
وفرضت القيود الروسية على صادرات الأسمدة في أوائل فبراير/شباط ضغطاً بالفعل على إنتاج الغذاء العالمي. وتقول فورين بوليسي، إنه يمكن لروسيا الانتقام من خلال تقييد صادرات المعادن المهمة مثل النيكل والبلاديوم والياقوت الصناعي. وهذه مدخلات حاسمة لإنتاج البطاريات الكهربائية والمحولات الحفازة والهواتف والمحامل الكروية وأنابيب الإضاءة والرقائق الدقيقة.
في نظام التجميع المعولم، حتى التغييرات الصغيرة في أسعار المواد يمكن أن ترفع بشكل كبير تكاليف الإنتاج التي يواجهها المستخدمون في نهاية سلسلة الإنتاج. وبالتالي فإن فرض حظر روسي أو خفض كبير لتصدير البلاديوم أو النيكل أو الياقوت سيضر بمصنعي السيارات وأشباه الموصلات، وهي صناعة عالمية تبلغ قيمتها 3.4 تريليون دولار. وإذا استمرت الحرب الاقتصادية بين الغرب وروسيا حتى عام 2022 بهذه الشدة، فمن المحتمل جداً أن ينزلق العالم إلى ركود غير مسبوق بفعل العقوبات.
إدارة السقوط
إن الجمع بين الآثار غير المباشرة والآثار السلبية المضاعفة وآثار التصعيد يعني أن العقوبات ضد روسيا سيكون لها تأثير على الاقتصاد العالمي مثل عدد قليل من أنظمة العقوبات السابقة في التاريخ. لكن لماذا لم يكن هذا الاضطراب العظيم متوقعا؟ تقول المجلة الأمريكية إن أحد الأسباب هو أنه على مدى العقود القليلة الماضية، قام صانعو السياسة في الولايات المتحدة عادةً بفرض عقوبات على الاقتصادات كانت متواضعة الحجم بما يكفي لاحتواء أي آثار سلبية كبيرة.
كانت درجة الاندماج في الاقتصاد العالمي لكوريا الشمالية وسوريا وفنزويلا وميانمار وبيلاروسيا متواضعة نسبياً وذات بعد واحد. فقط تطبيق العقوبات الأمريكية على إيران تطلب عناية خاصة لتجنب اضطراب سوق النفط. بشكل عام، ومع ذلك، كان الافتراض أن استخدام العقوبات يكاد يكون غير مكلف من الناحية الاقتصادية للولايات المتحدة.
يواجه صانعو السياسة الغربيون اليوم قراراً جاداً، يجب أن يقرروا ما إذا كانوا سيؤيدون العقوبات ضد روسيا بقوتهم الحالية أو سيفرضون مزيداً من العقوبات الاقتصادية على بوتين. إذا كان الهدف من العقوبات هو ممارسة أقصى قدر من الضغط على روسيا مع الحد الأدنى من الاضطراب في اقتصاداتها – وبالتالي وجود خطر يمكن السيطرة عليه من ردود الفعل السياسية المحلية – فقد تكون مستويات الضغط الحالية هي أقصى ما هو ممكن سياسياً الآن.
أصبحت العقوبات الاقتصادية الخيار المفضل في السياسة الخارجية لدى الولايات المتحدة الأمريكية/ Istock
في الوقت الحالي، سيتطلب مجرد الإبقاء على العقوبات الحالية سياسات تعويضية نشطة. بالنسبة لأوروبا على وجه الخصوص، لن تكون السياسات الاقتصادية القائمة على مبدأ عدم التدخل أو التجزئة المالية مستدامة إذا استمرت الحرب الاقتصادية. ولكن إذا قرر الغرب زيادة الضغط الاقتصادي على روسيا أكثر، فإن التدخلات الاقتصادية بعيدة المدى ستصبح ضرورة مطلقة.
ستُلحق المزيد من العقوبات الغربية المكثفة مزيداً من الضرر، ليس فقط للمعاقبين أنفسهم ولكن للاقتصاد العالمي ككل. بغض النظر عن مدى قوة وتبرير عزم الغرب على وقف عدوان بوتين، يجب على صانعي السياسة قبول الواقع المادي المتمثل في هجوم اقتصادي شامل ستدخل ضغوطاً جديدة كبيرة على الاقتصاد العالمي.
سيؤدي تشديد العقوبات إلى سلسلة من الصدمات المادية التي ستتطلب جهوداً بعيدة المدى لتحقيق الاستقرار. وحتى مع إجراءات الإنقاذ هذه، قد تكون الأضرار الاقتصادية خطيرة، وستظل مخاطر التصعيد الاستراتيجي عالية. لكل هذه الأسباب، يظل من الضروري اتباع مسارات دبلوماسية واقتصادية يمكنها إنهاء الصراع. مهما كانت نتائج الحرب، فقد كشف الهجوم الاقتصادي ضد روسيا بالفعل عن حقيقة جديدة مهمة: لقد انتهت حقبة العقوبات التي يمكن التنبؤ بها وعديمة التكلفة والخالية من المخاطر.
تعليقات الزوار ( 0 )