كان الجزائري كمال سحاقي يعتقد أنه سيتمكن أخيراً من العيش بحرية عندما انتقل إلى كندا في عام 2018. لكن لم يخطر ببال الفنان البالغ من العمر 36 عاماً والمقيم في مدينة غاتينو في مقاطعة كيبيك أنّ جذوره القبائلية ستلحق به وتجعله هدفاً للسلطات الجزائرية في كندا، وفق تقرير لموقع راديو كندا الإخباري.
والقبائل هم أحد مكوّني الأمازيغ، السكان الأصليين للمغرب الكبير. لديهم لغتهم وثقافتهم ويناضل بعضهم من أجل إنشاء دولة مستقلة.
وأثبتت التجربة الصعبة لسحاقي أنّ أيّ شخص يرتبط، بشكل وثيق أو عن بُعد، بهذه الحركة الاستقلالية يجازف بتعريض نفسه لأعمال انتقامية من النظام الجزائري، وفقاً للتقرير.
وبدأ كلّ شيء بعرض غير عادي. ’’تلقيت مؤخراً اتصالاً من أحد أعضاء القنصلية الجزائرية في مونتريال‘‘، يروي سحاقي.
ويقول سحاقي، الفائز بجوائز دولية عن أفلامه القصيرة، إنّ المتّصل لمّح له أنّ بإمكان الحكومة الجزائرية أن تساعده في تعزيز مسيرته المهنية، واقترح عليه عقد اجتماع في القنصلية.
وافق سحاقي على مقابلته لكن، وبسبب الريبة التي شعر بها، اشترط أن يتمّ اللقاء في مكان عام.
التقى الرجلان الشهر الماضي في مطعم في مونتريال، وجلس اثنان من أصدقاء سحاقي سراً على بعد بضع طاولات منهما، والتقط أحد الصديقيْن صورة للقاء.
ولم يتمكن راديو كندا من التحقق من أنّ الرجل الظاهر في الصورة يعمل بالفعل لدى القنصلية الجزائرية في مونتريال. لكنّ أفراداً آخرين من الجالية القبائلية أخبروا راديو كندا عن حالات استدعاء إلى القنصلية الجزائرية في مونتريال أو السفارة الجزائرية في أوتاوا.
ويضيف راديو كندا أنّ السفارة الجزائرية لم تردّ على طلباته بإجراء مقابلة صحفية ولم تقدّم رداً كتابياً على الادعاءات التي أثارها أفراد من الجالية الجزائرية القبائلية في كندا.
ويقول سحاقي إنّ الفنّ لم يكن موضوع الحديث خلال لقائه بموظّف القنصلية في المطعم.
فالحديث تمحور حول صلات سحاقي بـ’’حركة تقرير مصير منطقة القبائل‘‘ التي تُعرف على نطاق واسع بالـ’’ماك‘‘ (MAK)، تسميتها الأوائلية بالفرنسية، والتي يقودها السياسي والمغني الجزائري القبائلي فرحات مهنّي المقيم في فرنسا.
ولهذه الحركة فرع في كندا نظّم تظاهرات في مونتريال وأوتاوا، لا سيما للمطالبة بالإفراج عن سجناء سياسيين في الجزائر.
’’أعطاني التواريخ المحددة. قال لي: ’قمتَ بتصوير تظاهرات الـ’ماك‘ في تاريخ كذا ومكان كذا‘. أجبتُه: ’أجل، ولكنّي فنّان، أنا مصوّر، إذا اتصل بي أحدهم، فهذا عملي‘‘‘، يروي سحاقي عن اللقاء.
’’وبعد ذلك، قام بتسمية شخصيْن، وهما صديقان أعرفهما هنا في كندا، وأحدهما يأتي من قريتي. قال لي: ’يجب أن توقف كلّ اتصالاتك بهذيْن الصديقيْن إلى الأبد، لأنهما ناشطان في الـ’ماك‘‘.‘‘
وعلى ضوء هذه المحادثة، سرعان ما اتضح لسحاقي أنّ السلطات الجزائرية كانت تتجسس عليه في كندا منذ أشهر.
ويقول سحاقي إنه لا يعرف متى سيتسنّى له رؤية عائلته مرة أُخرى في الجزائر، أو جبال منطقة القبائل التي يحبها كثيراً، لمجرّد أنه رفض العرض الذي قُدّم له.
ويضيف أنّ الرجل الذي التقاه طلب منه التوقيع على وثيقة يتعهّد فيها، من بين جملة أمور، بإيقاف كافة اتصالاته بحركة الـ’’ماك‘‘. وأخبر أفرادٌ آخرون من الجالية الجزائرية القبائلية راديو كندا عن وثيقة مماثلة.
ويقول سحاقي إنّ الرجل العامل لحساب القنصلية الجزائرية طلب منه أيضاً تزويده بأسماء شباب قبائليين آخرين في كندا لديهم صلات بالـ’’ماك‘‘.
وفي المقابل، كانت السلطات الجزائرية ستضمن لسحاقي حقّ السفر ذهاباً وإياباً إلى الجزائر دون عائق لرؤية أقاربه.
’’أنا لستُ للبيع‘‘، يقول سحاقي، ’’نعم، أريد زيارة البلاد (الجزائر) لرؤية عائلتي، لكن ليس بأيّ ثمن‘‘.
يُشار إلى أنّ المجلس الأعلى للأمن في الجزائر، الذي يرأسه رئيس البلاد عبد المجيد تبّون، صنّف حركة ’’حركة تقرير مصير منطقة القبائل‘‘ منظمةً إرهابية في عام 2021.
لكنّ كندا لا تعتبر هذه الحركة منظمةً إرهابية. وهذا هو أيضاً موقف الولايات المتحدة التي يقول تقرير صدر عام 2022 عن وزارة خارجيتها إنّ هذه الحركة تنتقد الحكومة الجزائرية بشدة و’’لا يبدو أنها ارتكبت ما تحدّده الولايات المتحدة على أنه أعمال إرهابية‘‘.
استهداف موظفين فدراليين وفي حكومة كيبيك
وعلم راديو كندا أنّ موظفين فدراليين وفي حكومة كيبيك هم من بين المواطنين الكنديين من أصل جزائري قبائلي الذين تعرّضوا مؤخراً للترهيب من قبل النظام الجزائري.
ولم يرغب هؤلاء في إعطاء أحاديث صحفية علنية خوفاً من أعمال انتقام قد تطال أقاربهم في الجزائر. واتفق معهم راديو كندا على حجب أسمائهم لهذا السبب.
’’هناك مناخ من الخوف في الجالية‘‘، يقول من جهته كمال سربوح، رئيس ’’مركز أقبايلي‘‘ (Centre Aqvayli) في مونتريال، أقدم جمعية قبائلية في مقاطعة كيبيك.
ووفقاً له، تمّ استجواب مواطنين كنديين من أصل جزائري قبائلي لدى وصولهم إلى مطار الجزائر العاصمة في زيارات لتفقد أُسرهم وأقاربهم في الجزائر.
’’لمجرّد أنّ السلطات الجزائرية رأتهم برفقة ناشطين من الـ’ماك‘، تعرّضوا للاستجواب (من قبلها)‘‘، يقول سربوح، وهو ناشط في ’’حركة تقرير مصير منطقة القبائل‘‘.
ووفقاً لسربوح تطرح السلطات أسئلة على هؤلاء من نوع: ’’ما هي صلاتك (بحركة الـ’ماك‘)؟ لماذا وضعتَ علامة إعجاب (’لايك‘) على منشور على ’فيسبوك‘؟ لقد تم تصويرك مع أحد الناشطين‘‘.
وتمكّن موقع راديو كندا من التحقق من هذه المعلومات.
ويدّعي سربوح أنّ بعض الكنديين مُنعوا حتّى من مغادرة الأراضي الجزائرية طيلة أسابيع، أو حتى سنوات، للأسباب المذكورة أعلاه.
واتصل راديو كندا بوزارة الشؤون العالمية في أوتاوا، لكنّ هذه الوزارة، التي تشكّل وزارة الخارجية أحد مكوناتها، لم تتمكن من تحديد عدد الكنديين من الجالية الجزائرية القبائلية الذين مُنعوا من مغادرة الأراضي الجزائرية.
’’لا تقوم وزارة الشؤون العالمية الكندية بجمع هذه البيانات المحددة‘‘، قالت الوزارة لراديو كندا.
لكنّ الوزارة وضعت تحذيراً على موقعها الإلكتروني، على صفحتها الخاصة بنصائح السفر.
’’خلال العام الماضي، ضاعفت الحكومة الجزائرية من حالات اعتقال ناشطين. (…) كما احتجزت السلطات الجزائرية مواطنين كنديين جزائريين في الجزائر، بعد أن حددتهم على أنهم منخرطون سياسياً في كندا. كونوا مدركين بوجود مراقبة وبتداعيات محتمَلة إذا ناقشتم الوضع السياسي علناً أو عبر الإنترنت‘‘، يقول موقع موقع وزارة الشؤون العالمية.
وتوضح وزارة الشؤون العالمية الكندية أيضاً أنّ الجزائر لا تعترف بشكل قانوني بالجنسية المزدوجة.
كندي جزائري قد يواجه السجن
مراد إيتيم يعرف جيداً الثمن الذي يجب أن يدفعه مقابل التزامه السياسي.
’’إذا عدتُ إلى الجزائر، فسوف يعتقلونني، وربما يعذّبونني‘‘، يقول إيتيم الذي عمل كفنّي طيلة 24 عاماً لدى شركة ’’بيل كندا‘‘ (Bell Canada) للاتصالات قبل تقاعده.
واسمه مدرج على قائمة الحكومة الجزائرية للأشخاص المصنفين كإرهابيين بسبب عضويته في ’’حركة تقرير مصير منطقة القبائل‘‘.
ويدير إيتيم القناة التلفزيونية الرسمية للحركة، محطة TaqVaylit.TV التي تبث على شبكة الإنترنت.
’’من المحزن بعض الشيء أن تتمّ إدانة نشطاء الحرية لأنهم يتحدثون علناً، لأنّ لديهم رأياً سياسياً مختلفاً. أحياناً يحزنني هذا الأمر، وأحياناً لا أكون في حالة جيدة (بسبب هذا الأمر)‘‘، يقول إيتيم.
ويشبّه إيتيم ’’حركة تقرير مصير منطقة القبائل‘‘ بالحزب الكيبيكي (PQ) أو بحزب الكتلة الكيبيكية (BQ) اللذيْن يعملان بشكل سلمي من أجل استقلال مقاطعة كيبيك.
وتطالب هذه الحركة بإجراء استفتاء عام يُتاح من خلاله للقبائليين تقريرُ مصيرهم بأنفسهم. وتضمّ الحركة حوالي 100 عضو ناشط في كندا، وفقاً لإيتيم.
ويشبّه سربوح، هو أيضاً، تطلعات حركة الـ’’ماك‘‘ بتطلعات الكيبيكيين الذين يريدون الحفاظ على لغتهم وثقافتهم، فيقول إنّ العديد من القبائليين يطالبون بدولة مستقلة خاصة بهم، بينما يفضل آخرون البقاء داخل الدولة الجزائرية.
’’هذا أمر طبيعي، هذا حقهم. لكن، بكل بساطة، لندعهم يعبّرون عن أنفسهم‘‘، يقول سربوح.
ويرى سربوح أنّ على وزيرة الخارجية الكندية، ميلاني جولي، أن تتدخل لدى الحكومة الجزائرية لضمان احترام حقوق القبائليين وحرياتهم.
ورفضت الوزيرة جولي إعطاء راديو كندا مقابلة حول الموضوع، على الرغم من طلباته المتكررة.
وفي رسالة بالبريد الإلكتروني كتبت وزارة الشؤون العالمية الكندية رداً على أسئلة راديو كندا: ’’نحافظ على علاقات ثنائية طويلة الأمد مع الجزائر، ما يسمح لنا، من بين جملة أمور، بالمشاركة في محادثات مع الحكومة الجزائرية حول قضايا ذات أهمية لكندا، بما في ذلك حقوق الإنسان والقضايا القنصلية‘‘.
وأضافت الوزارة أنّ كندا ’’تثير بانتظام‘‘ مع السلطات الجزائرية القضايا المتعلقة بالقيم الديمقراطية.
من جهته، يقول عضو مجلس العموم عن الكتلة الكيبيكية ماريو بوليو، الذي يعرف الجالية القبائلية جيداً، إنّ صمت الوزيرة جولي ’’مؤسف‘‘.
’’إنها قضية التدخل الأجنبي برمّتها، لدينا انطباع بأنّ الحكومة الفدرالية تترك الأمور على غاربها‘‘، يقول بوليو في مقابلة مع راديو كندا.
ويضيف بوليو الذي يمثّل في مجلس العموم إحدى دوائر جزيرة مونتريال أنّ التدخّل الأجنبي في الشؤون الكندية لم يعد حكراً على ’’دول كبرى مثل الصين والهند وروسيا‘‘ بل أنّ ’’هناك أيضاً دولاً أصغر حجماً لا يبدو أنها تجد حرجاً في التدخل في شؤون مواطنيها داخل كندا‘‘.
ويقول بوليو الذي سبق له أن شارك في تظاهرات لـ’’حركة تقرير مصير منطقة القبائل‘‘ في مونتريال والتقى ببعض قادتها، إنه لم يشهد من جانبهم أيّ شيء سوى الخطاب السلمي.
ويضيف بوليو أنّ هناك أيضاً قبائليين يريدون البقاء داخل الجزائر، تماماً كما أنّ هناك كيبيكيين يؤيّدون بقاء كيبيك ضمن الاتحادية الكندية.
ووفقاً لوكالة الإحصاء الكندية، يقول أكثر من 37.000 شخص في كندا إنهم يتحدثون اللغة القبائلية.
ولم تعلّق الشرطة الملكية الكندية (الشرطة الفدرالية) بشكل مباشر على أعمال الترهيب التي تعرّض لها أفراد من الجالية الجزائرية القبائلية في كندا، لكنها قالت إنّ ’’من المهم أن يعرف جميع الأفراد والجماعات المقيمين في كندا، وبغض النظر عن جنسيتهم، أنّ هناك آليات دعم متوفرة لمساعدتهم إذا كانوا هدفاً لتدخل أجنبي أو لتخويف أو مضايقة تقف وراءهما دولة أجنبية‘‘.
وأضافت أنّ ’’على أيّ شخص يشعر بالتهديد عبر الإنترنت أو شخصياً أن يبلغ الشرطة المحلية عن مثل هذه الحوادث‘‘ و’’في حال وجود خطر مباشر، يجب الاتصال برقم الطوارئ 911 أو بأقرب مركز شرطة‘‘.
تعليقات الزوار ( 0 )