منذ استقبال إسبانيا لزعيم جبهة البوليساريو “إبراهيم غالي” في أبريل الماضي، ودخوله أراضيها خفية وبجواز سفر مزور وبدون إخطار الرباط بذلك، ظلت العلاقات الإسبانية المغربية على صفيح ساخن، ترتبت عنها مناوشات سياسية ودبلوماسية غير مسبوقة من كلا البلدين، آخرها ما بات يروج في الصحافة الإسبانية على أن الجارة الشمالية تدرس فرض تأشيرة شنغن على الثغرين المحتلين سبتة ومليلية ردا على الإجراءات “العقابية” التي باشرها المغرب منذ بداية الأزمة.
فور علم المملكة المغربية بوجود “غالي” على الأراضي الإسبانية في أحد مستشفيات “لوغرونيو” شمالي إسبانيا بإسم مستعار “محمد ابن بطوش”، عمدت إلى التعامل مع الأمر بدبلوماسية عالية لكشف خلفيات ودوافع إستضافته بدل التصعيد، كما هو الشأن بالنسبة للمملكة الإيبيرية التي بررت خطوتها بالدوافع الإنسانية والصحية لصالح “ابن بطوش” المصاب بفيروس كورونا.
مبررات لم تستصغها المملكة المغربية التي رأت أنها تلقت طعنة في الظهر من جارتها الشمالية، كما نسفت أواصر الشراكة الإستراتيجية التي تربط البلدين في ميادين الهجرة، الإرهاب، الأمن والتبادلات التجارية، بالرغم من إدعاء وزيرة الخارجية الإسبانية “أرانتشا غونزاليس لايا” أن هذا الإستقبال لن يؤثر على العلاقة الثنائية القوية بين البلدين، بوصف المغرب شريكا إستراتيجيا لا غنى عنه في جملة من القضايا والملفات المشتركة أبرزها الهجرة والإرهاب.
الدور الجيواستراتيجي الذي يلعبه المغرب للحفاظ على أمن دول البحر الأبيض المتوسط على رأسها إسبانيا التي لا تبعد عن أقرب نقطة في شمال إفريقيا إلا ببضع كيلومترات، أشعل حرب التصريحات بين الجانبين بتأكيد وزير الخارجية المغربي “ناصر بوريطة” على أن المغرب ليس دركيا لأوروبا، وأن الدعم الذي يتلقاه من الإتحاد الأوروبي لمكافحة الهجرة لا يشكل سوى نسبة ضئيلة من مجموع ما ينفقه المغرب، وأعقبها اندفاع المهاجرين بالآلاف للعبور إلى “سبتة المحتلة”، غير أن السلطات الإسبانية تمكنت فيما بعد من ترحيل معظمهم إلى التراب المغربي.
في خطوة تصعيدية، لم تكترث السلطات الإسبانية لتهديدات المغرب على لسان سفيرته لدى مدريد “كريمة بنيعيش” التي ألحت على أنه في حال مغادرة “ابن بطوش” للأراضي الإسبانية بالطريقة التي دخل بها أول مرة وبدون محاكمة عادلة، فإن العلاقة الثنائية بين البلدين ستتجه نحو الأسوأ وستفضي إلى مزيد من التوتر والتصعيد، وهو ما حصل بالسماح للمتهم في قضايا اغتصاب وتعذيب بالمغادرة صوب الجزائر لاستكمال العلاج بعد خضوعه لجلسة استماع عبر تقنية الفيديو مع المحكمة العليا الإسبانية.
أكثر من ذلك، عملت إسبانيا على استمالة الإتحاد الأوروبي للظفر بتأييده، من باب المهاجرين الذين دخلوا سبتة المحتلة بتحميل السلطات المغربية المسؤولية عن تعريض قاصرين للخطر وتوظيف الهجرة لأغراض سياسية محظة، وبذلك تبنى الإتحاد الأوروبي قرارا يقضي بالوقوف إلى جانب إسبانيا في صراعها مع المغرب، ورفضه للتوظيف المغربي للمراقبة الحدودية وهجرة القاصرين كورقة ضغظ ضد إسبانيا والإتحاد بتصويت 397 نائبا برلمانيا أوروبيا لصالح القرار.
بالإضافة إلى الحرب الإعلامية التي شنها البلدين الجارين، وتفشي الشائعات والتضليل الإعلامي للتأثير على مسار الأزمة، اتخذت السلطات المغربية في السادس من الشهر الجاري قرارا يقضي بحرمان الموانىء الإسبانية لأول مرة من “عملية مرحبا 2021” التي ينظمها في صيف كل سنة لاستقبال أفراد الجالية المغربية المقيمة بالخارج، وتم الاقتصار على موانىء مارسيليا وسيت الفرنسية، إضافة إلى ميناء جنوى فيما يخص السفن الإيطالية، ما خلف خسائر فادحة للإسبان قدرت ب 500 مليون يورو.
وكشفت وسائل إعلام إسبانية كصحيفة “أوكي دياريو” عن خبر مفاذه أن السلطات الإسبانية تدرس خيار فرض تأشيرة شنغن على كل من مدينة سبتة ومليلية المحتلتين كخطوة تصعيدية في نزاعها مع المغرب، ومن شأنه أن يقيد حركة المهاجرين والمغاربة الذين يعملون في المدينتين، وتنص “اتفاقية شنغن” على التحرك بحرية داخل الدول الأوروبية المنضوية تحتها، في مقابل فرض قيود على الراغبين في ولوج إحدى تلك الدول بضرورة الحصول على تأشيرة الدخول التي توفرها قنصلياتها وفق شروط.
في هذا الصدد، اعتبر “أيوب منصار” الباحث المتخصص في الدراسات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، في تصريحه لجريدة “بناصا” أن “التصريحات الأخيرة للخارجية الإسبانية بخصوص عزمها دراسة ضم الثغرين المحتلين سبتة ومليلية إلى منطقة شنغن هي ورقة ضغط أخرى تلعبها إسبانيا في مسلسل أزمة وتوتر مازالت إلى الآن بوادر أفولهما لم تتضح بعد”.
وربط “منصار” تفكير الجارة الشمالية في هذه الخطوة بالدعم الذي حظيت به من الاتحاد الاوروبي نظرا لمكاسبه الكبيرة وآثاره المتعددة، مستثنيا حدوثها بحضور حالتين؛ أولهما أن تعود العلاقات لسابق عهدها بين الطرفين ولو بطريقة تدريجية، وثانيهما هي أن يلوح المغرب بورقة ضاغطة أقوى من التي لوحت بها إسبانيا، مستفيدا من علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية ومستغلا التوتر بين بلاد العم سام وإسبانيا الذي بدا جليا على هامش اللقاء الذي جمع “جو بايدن” برئيس الحكومة الإسبانية في قمة زعماء “الناتو”.
وعن التداعيات المحتملة التي ستعقب احتمال ضم المدينتين المحتلتين إلى “منطقة شنغن”، أكد “المتحدث ذاته” على أن “المغرب وبكل موضوعية سيكون الخاسر الأكبر، أولا لأن الاتحاد الأوروبي حينها ستصبح له حدود خارج القارة الأوروبية، ومن ثم سينطبق على مسألة حماية هذه الحدود والدفاع عنها كالذي ينطبق على حدوده الأخرى، ولن تبقى إسبانيا وحدها المسؤولة عن حماية الفاصل الحدودي بل ستنتقل المسؤولية إلى الإتحاد الأوروبي. وثانيا الأثر الاجتماعي القاسي الذي سيلحق بالأسر المغربية الممتهنة للتهريب المعيشي، والتي ترى في القطبين المحتلين مصدر رزق لا غنى عنه”.
تعليقات الزوار ( 0 )